17 نوفمبر، 2024 4:18 م
Search
Close this search box.

في تحليل ونقد كتاب لينين (حق تقرير المصير)

في تحليل ونقد كتاب لينين (حق تقرير المصير)

كانت الإمبراطورية الروسية من أكبر الإمبراطوريات ذات المساحات الأرضية المتصلة، فقد امتدت من المحيط المتجمد شمالا حتى البحر الأسود جنوبا، ومن المحيط الهاديء شرقا حتى بحر البلطيق غربا، هذا الامتداد الأرضي يمكن أن يكشف عن عدد البلدان الكبير الذي ضمته تلك الإمبراطورية. وقد مارس قياصرة روسيا في فترات قوتهم حكما ملكيا مطلقا يؤكد سيادة القومية الروسية على غيرها من القوميات المنضوية تحت سلطانهم، كما كانوا حماة تقليديين للعرق السلافي، وفي نفس الوقت يقوم قيصر روسيا بترؤس الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية. في تلك الأجواء عاش لينين ونمى وعيه السياسي الذي ارتبط بنضوج وانتشار الفكر الماركسي، فكان لابد من تصاعد ردة فعل في الاتجاه المعاكس تؤيد الخروج من الحكم المطلق للطبقة الأرستقراطية بزعامة آل رومانوف إلى نظام حكم من نوع آخر يحفظ للأعراق الخاضعة للإمبراطورية الروسية حقوقها الثقافية والقومية، بما فيها إنشاء دول قومية من منطلق حق الأمم في تقرير المصير، كل ذلك جرت المناداة به -في روسيا- تحت راية الحزب الماركسي (البروليتاري) الذي تزعمه لينين في بدايات القرن العشرين.
كتب لينين قبل قرن من الزمان في سنة 1914 ما أسماه “بحثا” عن (حق الأمم في تقرير المصير)، وقد تم نشره في نفس العام في صحيفة بروسفشينيه بثلاثة أجزاء متتالية، ولا يبدو البحث مفهرسا ومبوبا بطريقة واضحة، كما ويضج بأسماء كُتّاب وصحف وأحزاب وتنظيمات سياسية لا يرافقها الكثير من التعريف سيّما بعد مرور مئة عام على كتابة وظهور “المقال”. وهو عبارة عن مساجلات صحفية وفكرية تمثل رودود لينين على الأفكار والآراء التي صدرت من بعض الكتّاب حول الموضوع أعلاه، تلك الردود كانت تعبر أولاً عن موقف الاشتراكية الدولية ثم تَبنّي الاشتراكيين-الديمقراطيين الروس لذلك الموقف تجاه حق تقرير المصير.
ينطلق لينين من إيمانه بالفكر الماركسي كنظرية، ويكرّس محاولات جدية لإيجاد تطبيقات ممكنة لذلك الفكر على واقع روسيا وعلى عموم أوربا الشرقية والعالم، في خضّم الأحداث التي مرّت عليه في الربع الأول من القرن العشرين، يوم كانت روسيا القيصرية بزعامة آل رومانوف السياسية والدينية تقوم بإخضاع جزء مهم من أوربا الشرقية ووسط وشرق آسيا أما بطريقة الاحتلال أو الهيمنة والنفوذ. وكان حكم القياصرة يمثل مصالح طبقة الأرستقراطيين وملّاك الأراضي الكبار، أما الفكر الماركسي وتطبيقاته اللينينية فتمثل الطرف الآخر من الطبقة البروليتارية المسحوقة، وتعبر عن تطلّعاتها لعالم تسود فيه الطبقة العاملة سياسيا، لتتحد مع مثيلاتها في العالم أجمع “إن مصلحة الطبقة العاملة ومصلحة نظالها ضد الرأسمالية لتحتّمان التضامن التام والوحدة الوثيقة العُرى بين عمال جميع الأمم” الكتاب، ص21.
تبدو قناعة لينين بحق الأمم في الانفصال وتقرير المصير مستندة إلى شروط أساسية، يأتي في مقدمتها ضرورة مناداة الطبقة العاملة المحلية في البلد المقصود بهذا الحق “إن الذي يهمنا قبل كل شيء
وأكثر من كل شيء، في قضية حرية الأمم في تقرير مصيرها كما في كل قضية أخرى، هو حرية البروليتاريا في تقرير مصيرها داخل الأمم” الكتاب، ص24، مما يعني أن البلد ستتم قيادته –بعد حصوله على الاستقلال- من قبل هذه الطبقة حصرا. وفي تطبيق هذه الحالة على عدد من البلدان سنجد أن البروليتاريا في جميع هذه البلدان قد أضحت تقود النضال، فتسعى بعد ذلك إلى التقارب فيما بينها في مجموعة الدول الجديدة التي ولّدها الاستقلال، والغاية النهائية من ذلك النضال هو خلق النظام البروليتاري العالمي. ففي قرار المؤتمر الأممي المنعقد في لندن سنة 1896 “يعلن المؤتمر تأييده لحق جميع الأمم في حرية تقرير مصيرها ويعرب عن عطفه على عمال كل قطر يقاسي آنيا من نير الاستبداد العسكري القومي أو غيرهما، ويدعو المؤتمر عمال جميع هذه الأقطار إلى الانضمام إلى صفوف العمال الواعين-أي الواعين لمصالح طبقتهم في العالم أجمع، للنضال معهم في سبيل التغلب على الرأسمالية العالمية وتحقيق أهداف الاشتراكية الديمقراطية الأممية” الكتاب، ص ص 26-27.
ويوضح لينين موقفه أكثر عندما يرفض قيام الطبقة البرجوازية بالمطالبة بحق تقرير المصير لأنه سيفضي إلى ولادة عدد من الدول التي تحكمها البرجوازية ولا تنال البروليتاريا من ذلك سوى اضطهاد جديد لا يختلف عما عانت منه عندما كانت خاضعة للقوميات والأمم الكبرى. وهكذا، بحسب رأي لينين، فإن منادة غير الطبقة العاملة بذلك الحق تبدو غير مجدية من الوجهة الماركسية-اللينينية، لأنها لن تقود إلى تحقيق الأهداف التي ترسمها الاشتراكية الدولية أو الاشتراكية-الديمقراطية الروسية. فعند تناوله لحق تقرير المصير الذي حصلت عليه النرويج من السويد، يذكر لينين “إن التحالف الوثيق بين العمال النرويجيين والسويديين وتضامنهم الأخوي الطبقي التام قد استفاد من هذا الاعتراف-اعتراف العمال السويديين بحق النرويجيين في الانفصال. فقد اقتنع عمال النرويج بأن عمال السويد ليسوا ملوثين بنزعات التعصب القومي السويدي، وبأنهم يضعون قضية الإخاء مع أبناء البروليتاريا النرويجية فوق امتيازات البرجوازية السويدية والأستقراطية السويدية” ص25، ويمكن أن نفهم من هذا الرأي أن البروليتاريا ينبغي أن لا تتلوث بنزعات التعصب القومي التي يمكن أن تصيب الطبقة البرجوازية في معرض مناداتها بحق تقرير المصير.
حاول لينين أن يدعم صحة حجته عن حق الأمم في تقرير المصير، عندما تطرق لموقف ماركس من ذات الموضوع فيما يخص بولندا الخاضعة للهيمنة الروسية. ويتعرض لينين لتغيّرات موقف ماركس عن حق بولندا في الانفصال عن روسيا القيصرية، عندما يتناول لينين رسائل ماركس لأنجلز عن هذه المسألة ضمن ظرفها التاريخي الذي قاد ماركس لتعديل قناعاته من ضفة لأخرى. فقد قام ماركس وانجلز بتأييد انفصال بولندا عن روسيا برغم قيام طبقة النبلاء بقيادة حركة التحرر البولونية للمطالبة بذلك الحق “وكانا يعتبرأن تأييد مطلب استقلال بولونيا تأييدا فعالا قويا، واجبا إلزاميا على الحركة الديمقراطية كلها في أوربا الغربية، وبالأحرى على الحركة الاشتراكية الديمقراطية. وكانت وجهة النظر هذه، في السنوات الأربعين والستين من القرن الماضي [القرن التاسع عشر] أي في عهد الثورة البرجوازية في النمسا والمانيا” ص28، حيث رأى لينين أن تلك الحقبة لم تتكون فيها بَعْد حركة بروليتارية مستقلة في بولونيا.
ولكن مع نهايات القرن التاسع عشر برزت في عموم الأقطار السلافية –ومن بينها بولونيا التي تحولت إلى الرأسمالية- حركات ديمقراطية وبروليتارية يمكن أن تقود النضال وتنادي بحق تقرير المصير لشعوبها، مما يُفقد وجهة نظر ماركس السابقة صحتها وأهميتها بسبب تغيّر الظروف التاريخية بين الفترتين
فـ “إذا كانت وجهة نظر ماركس هذه، صحيحة وصائبة تماما بالنسبة إلى ظروف الثلث الثاني أو الربع الثالث من القرن التاسع عشر، فإنها فقدت صحتها على تخوم القرن العشرين. فثمة حركات ديمقراطية مستقلة، بل حركة بروليتارية مستقلة، قد برزت إلى حيّز الوجود في معظم الأقطار السلافية… وزالت بولونيا النبلاء لتقوم بولونيا الرأسماليين. فكان لابد لبولونيا، في هذه الظروف، من أن تفقد أهميتها الثورية الاستثنائية” ص28. ذلك الرأي يسوقه لينين لتبيان موقفه المضاد للحزب الاشتراكي (جماعة الفراك) التي رفعت راية المناداة بحق تقرير المصير، مستفيدة من الاستدلال برأي ماركس –سنة 1896- الذي لم يعد مناسبا للعصر من وجهة نظر لينين، في وقت كان ذلك الحزب لا يمثل تماما الموقف البروليتاري المطلوب في بولونيا، بل كان يمثل اندفاعات التعصب القومي التي انجرّت في تيارها البرجوازية الصغيرة البولونية.
واجه لينين الكثير من المتاعب لتثبيت وترسيخ أفكاره ومبادئه، ويوم تمكن من قيادة وإنجاح ثورة اكتوبر سنة 1917، تم تشكيل اتحاد فيدرالي ضم أربع دول كبداية وكُتب دستور اتحادي ودساتير أخرى لكل جمهورية على حدة، وقد مَنح الدستور الاتحادي لكل جمهورية حق الانفصال من الاتحاد، على أن ما يمكن ملاحظة أن تطبيقات حق تقرير المصير جاءت هنا بصيغة الانضمام وليس الانفصال، باستثناء فنلندا التي قررت الإنفصال. كما قام لينين بتطبيق الكثير من آرائه بخصوص قيادة البروليتاريا للدولة بزعامة الحزب الشيوعي كحزب أوحد في البلاد لفرض الرؤية الماركسية اللينينية على الجميع دون السماح بأي منافسة فكرية أو سياسية، حتى أن جمهوريات الاتحاد لم تتمكن من الانفصال لاحقا إلاّ بانهيار الاتحاد السوفيتي كاملا سنة 1991، غير أن تلك الجمهوريات عادت وشكّلت اتحاداً كونفدرالياً مما يؤكد فكرة أنها بحاجة لان تتقارب مع بعضها البعض بصيغة من الصيغ. ولا نضيف جديدا إذا قلنا أن هوّة بين النظرية والتطبيق تستدعي إلغاء وتغيير واستحداث أفكار ونظريات جديدة، حيث دخلت الدولة السوفيتية الوليدة -في حياة لينين يوم كان على رأس الدولة- نزاعات مسلحة مع أستونيا ولاتفيا وليتوانيا التي كان قد طالبت باستقلالها عن روسيا منذ العهد القيصري، وفي سنة 1921 نشبت حربا بين بولندا وروسيا انتهت بمعاهدة عدم اعتداء بين الطرفين وتثبيت الحدود.
ويبدو أن الأمر المهم عن الموقف اللينيني من حق تقرير المصير، هو انقلاب خلفه وتلميذه ستالين عليه وقيامه بإخضاع دول شرق أوربا للهيمنة السوفيتية بعد الحرب العالمية الثانية، في محاولة منه لخلق دولة عظمى -ذات مساحة داخلية كبيرة ونفوذ خارجي محيط- تمثل قطبا معادلاً للقطب الرأسمالي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية ويضم دول غرب أوربا، فقد قام ستالين على وقع مجريات الحرب العالمية الثانية باحتلال جمهوريات البلطيق الثلاثة سنة 1940، كما تم احتلال الجزء الشرقي من ألمانيا وإقامة دولة ألمانيا الديمقراطية التي هيمن عليها الاتحاد السوفيتي منذ ذلك الحين حتى عودة اندماجها بالشطر الغربي من المانيا بداية تسعينيات القرن الماضي. ويمكن القول أن العامل الجيوبوليتيكي الذي دعا قياصرة روسيا في قرون مضت لمد السيطرة الروسية على الأراضي المجاورة، هي ذات العوامل التي دعت ستالين لإعادة السيطرة على كل تلك الأراضي، وهكذا اختلفت الأهداف والإستيراتيجيات عند ستالين عنها عند لينين، وتم نسيان حق تقرير المصير الذي بُحّت حنجرة لينين دفاعا عنه يوم كان مناضلا يقود حزبا ثوريا يرفع راية العدالة الاجتماعية.
لم يبق الكثير من طروحات لينين عن تقرير المصير –بصيغته الشيوعية- صالحا للتطبيق، خصوصا بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، وتراجع بهرج الفكر الماركسي-اللينيني برمّته، ولعله يمكن القول أن أفكار لينين بخصوص هذا الحق كانت قد جاءت أيام نمو طروحات لينين عن الثورة البروليتارية العالمية، وعما يمكن الاستفادة منه لتحقيق هذا الهدف (الأسمى)، وعلى ذلك يبدو حق تقرير المصير كدرجة من درجات سلم الثورة العمّالية العالمية لا أكثر. وعندما تغيرت تلك المفاهيم في أيام لينين الأخيرة وما بعدها خلال فترة نجاح ستالين في تصفية خصومه الحزبيين والتربع على عرش السلطة السوفيتية، اقتنع الجميع وأوّلهم ستالين بعقم فكرة الثورة العالمية وإقامة سلطة العمال والفلاحين في كل مكان، فتغيّر الخطاب الشيوعي الروسي من الثورية النظرية إلى الضرورات العملية للمحافظة على السلطة وتأمين الدولة الجديدة بحماية وجودها على كامل إقليم أوراسيا، مما ساهم في إعادة إحياء شكل الإمبراطورية القيصرية السابقة بسبب الحاجات الجيو-ستيراتيجية التقليدية.

أحدث المقالات