لم يتبق إلا وأن تدخل المحلات التجارية في داخل بيوتنا، في ظل اللوحة التراجيدية البائسة التي غدت عليها مناطقنا المنضوية تحت قانون العشوائية العراقية المنظمة!

مؤخراً احتفلت احدى المناطق السكنية بافتتاح أكبر مول تجاري على مستوى بغداد الحزينة والتي تكاد تصرخ من الاختناق، وبعدها بأيام قلائل لم تكد تكفي لإرواء نهم وعطش النزعة الاستهلاكية المفترسة لدى المواطنين، تم افتتاح مول آخر في منطقة ثانية وهو الآن الوحيد المختص بالماركات التجارية الأصلية التي لا يوجد مثلها!!

نظرت قليلاً فيما افتتح، وتساءلت ما الجديد الذي يحمله؟ لا شيء، وما هي القيمة التي اضافها إلى هذه المنطقة سوى تسطيح المتعة، واختزال معنى الحياة في بضع محال تسطع انوارها حتى تكاد تعمي الأبصار التي في العيون؟!

اعلم نزعة الملل في الإنسان عامة، والعراقي منه على وجه الخصوص، ولكن تلك النزعة لا تكاد تلبى حاجتها اليوم بالشكل الذي يسكتها، بل على العكس غدت أداة وتبرير لحيتان رؤوس الأموال ممن يعبثون في مدننا ويمسخوها بهذه الصورة الكالحة والحزينة، من اجل إشباع غريزة التملك والكسب من أي مصدر كان!

وقديماً، كان أي تطور يحصل في الميدان الاقتصادي أو غيره، مرتبط بتوسيع المدارك، والانتقال من منطقة إلى أخرى، واكتشاف عوالم جديدة، لكن ما يحصل اليوم يتجاوز المنطق والممكن، ويحيل الإنسانية كلها إلى أرقام في بورصة تتاجر بحاضرهم ومستقبلهم.

وإذا كان البعض قد حمل معه حصانة ورثها من زمن فائت، او مُنِح القابلية على مجابهة هذا السيل بالمزيد من الضبط، فان الغالبية العظمي ولا سيما من أبناء الجيل الجديد هم يقابلون كل ذلك باستسلام تام وغياب لأي شكل من أشكال التأني او السؤال، ولا سيما في ظل تفشي وتغول ثقافة القطيع التي توجه الملايين نحو غايات وخطط محددة تقتات على عقولهم وأفكارهم بل وكل أشكال الحياة.

وهنا نقول في حديث قد يبدو مكرراً لكنه لازماً، لا بد من إيقاف هذا الانهيار الخطير، والتي جعل إيقاع الحياة أكثر ضغطاً وقلقاً، وعلى الجهات المسؤولة ومعها كافة الفعاليات المجتمعية المساندة ان تبذل جهدها المتواصل، لإشاعة ثقافة الحدّ من الاستهلاك المفرط، وإعادة بناء المدن على أسس من التخطيط السليم، واستعادة شكل الحياة الإنسانية كما أرادها الله… وبدون ذلك نحن نسير في طريق التآكل والقضم الناعم دون توقف أو انتهاء.