23 ديسمبر، 2024 1:57 م

خلف المسافة المحصورة بين (كباب أبو خضير الشهير) وجامع( الإمام الرضا) تنزوي سوق الهرج في قلب مدينة البصرة .
سوق الهرج أول سوق لتداول العملات الأجنبية ظلت تشتغل حتى منتصف السبعينات قبل أن تحتكر الحكومة وحدها مهنة تداولها .
الطلب على العملة الإيرانية ازداد في عقد الخمسينات بشكل غير مسبوق حتى وصل إلى ذروته بعد أن شاع خبر في أوساط الأفندية مفاده أن حمّامات الرجال في إيران تشتغل فيها النساء وبموجب هذا النبأ العظيم سافر كل أفندية البصرة إلى هناك ومن القصص أن بعضهم كان يتردد على أكثر من حمّام خلال اليوم الواحد .

ألأفندية مصطلح كان يطلق في البداية على طبقة تتألف من الارستقراطيين , رجالات الدولة والمتعلمين وكان لهؤلاء نفوذا اجتماعيا وهيبة إلى جانب كونهم القوة على ألأرض ما دفع بعض العوّام إلى تقليدهم في لباسهم أو التشبه بهم حتى تحول معنى المصطلح فيما بعد وصار يشير إلى من يرتدي أزياءنا الحالية أي الأزياء غير القومية أو الدينية .

أكثر العملات رواجا في تلك الحقبة كانت الهندية بسبب اتساع التبادل مع الهند حتى كان للهنود سوقا تدار من قبلهم (سوق الهنود) تجاور الهرج تباع فيها البهارات وأخواتها بالإضافة إلى البخور,العطور الزيتية وهي المفضلة لدى القرويين وماء الورد وكانت دكاكينهم بمثابة مكاتب لتسويق سلعهم إلى عموم مناطق البلاد .

سوق الهرج أول سوق تباع فيها ملابس ألأفندية مطلع القرن العشرين. البنطلون,السترة ,القميص والحذاء , ملابس غير مستعملة كانت تأتي من منُشآت عالمية وبهذا انتهت محنة شرائها من بغداد أو اسطنبول وظلت السوق الوحيدة تحتكر بيع هذه الملابس حتى تعلم البصريون فن خياطتها ومن يرتدي للوهلة الأولى يواجه بعض الصعوبات وأحيانا يتطلب الأمر الاستعانة بصديق.

سوق الهرج أول سوق كانت تعرض فيها التحفيات الجميلة أو المقتنيات القديمة الثمينة في خطوة تعبر عن ظهور اهتمام جديد للناس حتى أتذكر أن قمقما نحاسيا

أو ما يسمى بالعامية (المَرًش ) لاح لي قبل سنين طوال معروضا في السوق وكدت المسه وأًقلبه عسى أن يروق لي حتى اشتريه لولا ذلك الرجل الروسي الذي حول أنظاري فجأة إلى (ساعة جيب) جميلة كان يحملها قاصدا بيعها توضع في الجيب الصغير أعلى السترة ,ظهرتُ بها مرّات قليلة بعدها صارت من حصة احد أقاربي الكبار.

قبل أيام قادتني قدماي صوب سوق الهرج في رحلة البحث عن القمقم .

أرجو من حضراتكم أن لا تستغربوا من رحلتي هذه, فرجل مثلي أمضى حياته كلها سائرا عكس الموجات والتيارات ليتضح صواب أمره فيما بعد سيكون عليه من السهل شراء القمقم وملئه بماء الورد ليرشه على رؤوس ضيوفه ترحيبا وحفاوة بهم ,ما المشكلة في هذا؟ الم يطلق رؤساء البلدان إحدى وعشرين أطلاقة مدفع ترحيبا بضيوفهم؟ وشيوخ العشائر يطلقون صف رصاص في الهواء حفاوة بضيوفهم؟ وهذا أنا أريد أن ارش الورد على ضيوفي,, ما المانع في ذلك؟

أما حكاية المارد المزعوم مع القمقم لن تخيفني ولن تقلقني ولن أترقب خروجه أبدا ليس لأنها حكاية قديمة نسجتها مخيلة الإنسان في عصور غابرة إنما المارد من حولي سيظل إلى الأبد قابعا خانعا مستسلما راضيا في مدينة كتب لها أن تنام بعد أن كانت من المدن التي لا تنام.