20 أبريل، 2024 11:27 ص
Search
Close this search box.

في ايران وقتذاك

Facebook
Twitter
LinkedIn

ـــ انطباعات سائحة فرنسية عن زيارتها لايران ايام حربها مع العراق ـــ

* كتابة ـــ فرانسواز جرسين روبين
* ألفت نظر القارئ الى اني للأسف لم اجد ضمن ارشيف ترجماني نص المادة بلغتها الاصل الفرنسية حتى اتمكن من توثيقها بايراد اسم المطبوع المنشور فيه ورقمه وتاريخه كما هو متعارف عليه في المنهجيات التي احرص على اتباعها . ولاهمية ما ورد في المادة وفائدتها في كتابة جانب من تاريخ هذه الحرب، ارتأيت اعادة نشرها اعماماً للفائدة ـــ المترجم
********************************************************
عندما يفكر معظم الناس بالقيام برحلة ، فأنهم يتخيلون قضاء اجازة في منطقة هاواي او البحر الابيض المتوسط. اما بالنسبة لي ، فقد كانت ايران مكاناً احلم دائماً بزيارته . انها ارض شاسعة وساحرة ومتنوعة امتداداً من الارض الخضراء المحاذية ( للاتحاد السوفييتي ) الى سواحل الخليج ( العربي)* ، حيث ترتدي النساء الحجاب كالذي ترتديه نسوة الجزيرة العربية . ومن مدينة قم الدينية الى شيراز المدينة الكلاسيكية التي تكثر فيها الزهور والبلابل ، اردت ان التقي بالشعب الايراني وكيف تغيرت الحياة منذ ثورة 1979 .
لقد اردت مشاهدة المواقع الاثرية والتاريخية والدينية في ايران . وقد واجهت اول تذوقي للحياة في الجمهورية الاسلامية عندما ذهبت للحصول على تأشيرة مرور في قسم المصالح الايرانية في السفارة الجزائرية في واشنطن التي كنت اقيم فيها بصورة مؤقتة حيث كنت اعمل هناك ، فطلب مني الموظف المسؤول ارتداء الحجاب حتى يلتقطوا لي به صوراً : انتظرت بعدها اربعة شهور قبل ان توافق السلطات في طهران على تأشيرة زيارتي .
انه من السهل على الاوربيين من غير البريطانيين والفرنسيين الدخول الى ايران وكذلك الحال الى الامريكان . ولو انني لم اشاهد مسافرين اجانب آخرين اثناء الشهور التي امضيتها هناك ، الا انني قابلت فيما بعد اوروبيين في الباكستان من الذين مروا خلال ايران بتأشيرات ترانزيت . ولا يحتاج الزائرون اليابانيون حتى لتأشيرات مرور بالنسبة للرحلات القصيرة ومن الواضح ان تشجيع السياحة في ايران ليسن من اولويات النظام الايراني .
قال موظف سابق في وزارة الاعلام والسياحة في عهد النظام الامبراطوري :- شجع الشاه السياحة كجزء من محاولاته كي تجد ايران مكاناً بارزاً لها في العالم ، لقد تعودنا على استقبال مئات الآلاف من السياح سنوياً ، ولكن هذه الحكومة تعتبر ذلك تدخلاً في الشؤون الايرانية . وبدلاً من ذلك ، يقومون بتشجيع السياحة الدينية ، اي الحج الى المدن المقدسة كـــ مشهد وقم . ومع ذلك ، فقد كنا نسمع الى جانب اصوات الاقداح والصحون في المطعم الاسلامي الواقع في شارع الخيام في طهران ، موسيقى غربية ، اذ كانت تعزف مقطوعات لـــ موزارت .
ويقول احد الخدم للزوار الاجانب :- ان الموسيقى الغربية تفيد عسر الهضم لهذا فقد قامت الحكومة مؤخراً (وقتئذ) برفع جزء من المنع القديم الذي كان مفروضاً عليها والذي دام سبع سنوات ، كان خادم المطعم يقدم لنا اثناء ذلك ، الكوكا كولا المصنوعة في امريكا .
وكنا نرى الشباب بلباس الجينز يتدفقون على سينما الثورة (Enghelab) لمشاهدة افلام الممثل الامريكي همفري بوغارت القديمة ، وكذلك الحال بالنسبة للجنود بلباسهم الاخضر ، بالأضافة الى رجال يرتدون بدلات اوروبية ، بل ان هناك مراهقين يرتدون اربطة العنق التي تعد في فكر الحكومة الاسلامية ، رمزاً للثقافة الامبريالية الغربية.
لكننا في المقابل ، كنا نشاهد شعارات كتبت على الجدران وفي كل مكان تقريباً تقول :-
تسقط امريكا
امريكا الشيطان الاكبر
امريكا الفساد
امريكا تعجز عن تنفيذ اغراضها
ان هذه الشعارات داخل ايران ما هي الا جزء من اللغة اليومية التي يتداولها الشعب الايراني والتي وضعت ضمن صفحات تاريخ الثورة الاسلامية وبوسائل ايضاح واضحة ومكتوبة بخط جميل ، حيث تجدها في كل زاوية من زوايا اي تقاطع في شوارع اي مدينة في ايران .
وكنا نلاحظ سواق الشاحنات ، وقد لصقوا صوراً لـــ خميني الغارق في افكاره داخل باصاتهم او على الزجاج الامامي لها ، بينما نرى على الزجاج الخلفي قد لصقت صورة لمدينة اوروبية او امريكية او صوراً لاحدى الممثلات الغربيات .
ان مدينة طهران ، مدينة مليئة بالمتناقضات ، فأن الشعارات المعادية للغرب التي ظهرت في السنوات الاولى للثورة يمكن ان يقال عنها قد نسيت .
ان اوراق الشاي تترسب في قعر ابريق الشاي . هكذا يصف احد الموظفين الكبار الاجواء بعد سبع سنوات من الانتفاضة الشعبية ضد الشاه . فهي ( اي طهران ) كما في السابق ، مجزأة الى عالمين ، الشمال الغني الانيق ، والجنوب البائس الفقير . ومن النادر ان تمد الثورة يدها الى الشمال ، فهناك تسير الحياة كما كانت على المستويين الفكري والمعاشي .
اما في الجنوب ، فيتواجد مؤيدو الثورة المخلصون من الشيعة الاتقياء الذين يجوبون الشوارع في شهر محرم وهم يرددون ( يارب .. يارب احفظ خميني حتى قدوم المهدي ) .
يجابه اي شخص يتجول لساعات طوال في طهران الكثير من المفاجئات دائماً . ففي الوقت الذي يقتل الايرانيون ويقتلون ، فأن العشرة ملايين نسمة الساكنين في هذه المدينة التعيسة ، مهتمون بمشاكل العيش . فهم لا يرون من صعوبات الحياة اليومية ، مثل اختناقات المرور والتلوث والتموين وانقطاع التيار الكهربائي والامطار الغزيرة التي تفيض في القنوات .. غير الحرب ومآساتها المعروضة في صور تلفزيونيةمؤلمة ، مثل الصور التي علاها الاصفرار لقتلى الثورة والتي توجد بالآلاف في مقابر ( بهشتي الزهراء ) الواقعة بالقرب من طهران داخل واجهات زجاجية تحيط بها الزهور وقد وضع الى جانبها صندوق للمناديل الورقية .
وعند تجوالك في شوارع العديد من مدن ايران تجابهك تلك الوجوه الشاردة لحرس الثورة الذين يلزمون بأطالة لحاهم سواء كانت سوداء او تتخللها الشعيرات البيضاء حول وجوههم ، وقد ارتدوا زيهم الكاكي الذي يحمل شارة حرس الثورة وهي قبضة ممدودة تحمل بندقية رشاشة .
في شوارع طهران ومثلها في بقية مدن ايران الاخرى . تسمع صدى الحرب مع العراق بالكلمات واللعنات البذيئة التي يطلقها سكان طهران حال وقوفهم في البرد القارص امام البنوك التي تصرف لهم كوبونات التموين بالسعر الرسمي للحصول على حاجاتهم من المواد الغذائية .
ولاشك ، ان سكان طهران بل كل ايران ، عانوا من قسوة الحرب بسبب قصف الطيران العراقي للعاصمة الايرانية طهران الذي تسبب في فقدان السكان لشعورهم بالأمن والاستقرار . فالحرب بمعناها الرسمي تعد تبريراً للصعوبات الاقتصادية اليومية وسبباً للتماسك السياسي للسلطة . فقد استخدمت الحرب كذريعة للسيطرة على الدفة السياسية وحتى على المؤسسات التي حاولت بعض الطبقات الحاكمة الايرانية وضعها تحت سيطرتها . وترى في كل مكان ووقت ما يذكرك بالحرب مع العراق . فهناك الصواريخ الكبيرة في مواقع الاطلاق في التقاطعات الرئيسية مع شعارات تقول ( الحرب .. الحرب حتى النصر ) . وقد تمت ازالة الاعلانات التجارية وحلت محلها الشعارات الدينية والثورية عن الحرب بدلاً من ان ترى اعلاناً يقول ( اشرب كوكا كولا ) . وقد ترى شعاراً يقول ( ارتدوا الحجاب ) او ( كلنا جنودك يا خميني ونحن ننتظر اوامرك يا خميني ) . وهناك بعض الشعارات باللغة الانكليزية ، مثل واحدة عند دخولك طهران ( اسحق الولايات المتحدة يا امام خميني ) .
بالطبع مازالت هناك بعض المحرمات . فنظام الحكم الذي يوصف نفسه بأنه اسلامي وان مهمة سيادة السلطة الدينية العليا على الدولة ، مسألة لا يمكن تغيرها او مسها ، والشعارات المكتوبة على بوابة جامعة طهران التي تقول ( ان عدو الامام خميني انسان كافر ) هذا الشعار بالنسبة للايراني العادي شعار مقنع لكن للمتعلم والعارف بخفايا الامور فأنه التفاهة بعينها .
في احدى المدن الواقعة في شمال طهران الغني ، ينتقل المرء من مفاجأة الى اخرى ، حيث البيوت الفارهة الانيقة التي تعود لأيام ما قبل الثورة التي مازالت تعرض صور لحياة البذخ والترف الفاحش . فقد قالت لي فتاة شابة التقيتها في احد تلك الاحياء الغنية ( انتِ تعرفين ان هذه البلاد تملك بعض الخصوصية ) . وكانت ترفع الوشاح الاسود عن وجهها بين حين وآخر خوفاً من الحرس الاسلامي . ثم اضافت قائلة ( من المؤسف انكِ لم تحظري حفلتي الاخيرة فلدينا كل شيء حتى الويسكي الذي احصل عليه بسعر 25000 ريال للقنينة الواحدة ، قد يكون مكلفاً بعض الشيء لكنني اريدها ان تكون حفلة بمعنى الكلمة ) .
و25000 ريال تساوي اليوم ( وقت كتابة الموضوع ) ماقيمته 240 دولاراً بالسعر الرسمي ، لكنها في السوق السوداء تعادل 450 دولاراً او اكثر بقليل ، وهذا هو الراتب الاساس الذي يتقاضاه العامل الايراني لشهرين .
احد رجال الاعمال في تلك المنطقة كان يعرض بفخر حقائب مليئة بالاوراق النقدية من فئة الالف ريال ، وهو يفضل حفظ ثروته في البيت ، فهو اكثر اماناً ، يضاف الى ذلك ان البنوك الاسلامية لا تدفع فائدة على الودائع المالية ، وهو ليس بقلق على المستقبل ، فربما سيسترجع احد مصانعه الذي استولت عليه الثورة .
وللاغنياء مشاكل مالية اخرى ، فأحدهم يحصل على العملة الاجنبية لتغطية نفقات سفراته الى الخارج ، فهناك ما يقارب 700000 ايراني يسافرون للخارج سنوياً لانجاز الاعمال او لزيارة اقاربهم ، حيث هناك 400000 عائلة ايرانية تعيش في الغرب ، معظمها في امريكا وانكلترا وفرنسا والمانيا .. ومن الجائز قانوناً شراء الدولارات والجنيهات الاسترلينية بعشرة اضعاف سعرها الرسمي من الايرانيين الذين عندهم عملة اجنبية في المصارف الايرانية . ولكن لا يسمح بشرائها من تجار العملات او فتح حسابات في المصارف الاجنبية ، لكن آلافا من الايرانيين لديهم مثل تلك الحسابات وتجار العملات يواصلون تجارتهم في شارع فردوسي .
ان الحكومة الاسلامية كغيرها من الحكومات التي تمر بأزمات حادة .. مستعدة لصرف النظر عن الجنح التي لا تستطيع السيطرة عليها ، وهي على اية حال تفضل البقاء مسالمة مع الطبقات الثرية غير الدينية التي تساعد على تقديم المهارات الفنية والادارية اللازمة لسير البلاد . فالحكومة تقول ـــ ان الثورة الاسلامية لا تعادي الاثرياء الا حين يحصلون على نقودهم بشكل غير شرعي .
ان هذه البرغماتية ( النفعية ) في الادارة الاقتصادية تتعارض بوضوح مع التزام الحكومة المتطرف بأيديولوجية الاسلام كوسيلة لمواصلة الحرب مع العراق . فــ آية الله خميني يعتبر الرئيس العراقي صدام حسين ( كافراً ) وان ازاحته مايزال هدف ايران المركزي ، فقد اصبحت الثورة والحرب متداخلتين في ايران بحيث ساعدتا على بقاء نظام آية الله .
خلال زيارتي لمقبرة الشهداء ، حال مشاهدتي لينبوع من الدماع القرمزية . انه ماء ملون ، وهذا الينبوع شيد على شكل نصب تذكاري يحتل مكانه وسط مقبرة ( بهشتي الزهراء ) للايرانيين الذين ماتوا في الثورة التي اطاحت بالشاه ، واولئك الذين يقتلون في الحرب مع العراق . كانت هناك صفوف مزدحمة من القبور عليها صور شخصية للمتوفي مع باقة ورد بلاستيكية وقرآن صغير .
هل سبق لك ان رأيت ينبوعا من الدم ؟
سألني احد الايرانيين ، وانا اتمشى خلال المقبرة . لقد اتسعت المقبرة بشكل كبير الآن واصبحت هناك ينابيع جديدة من دماء الشهداء في القسم الجديد حيث تقيم مجموعات من الزوار صلاة الفجر فيه ، فهناك نموذج جديد كأنه قلب ينبض بالدماء ويخرج منه سائل احمر .
وفي ايام الجمع وجدت المقابر ملأى كالعادة بالنساء الملتفات بالسواد . مجاميع عائلية تفترش المناسبات الخاصة ، مثل يوم الاربعين من وفاة الشخص او الذكرى السنوية ، نرى مجاميع الاهل والاصدقاء يحملون صور شخصية لشهيدهم ويستمعون الى شخص يتغنى بقصائد قصصية لفضائل الميت ، بينما يرد الاهل والاصدقاء بصوت واحد ( الله اكبر ) ، ويقومون بعدها بتوزيع المعجنات في اواني فضية على المارة .
ومع ذلك ، فهناك تناقضات مضحكة مستمرة بضمنها الافتتان بأمريكا وبأشيائها وثقافتها الشعبية. فبينما يجتاز سائق سيارة الاجرة الشوارع ، تراه يستمع الى كاسيتات لاحدث اغاني الديسكو الامريكية ويطرب لها .
بالمقابل ، نجد هناك زمراً اسلامية تجوب الشوارع في سيارات الجيب البيضاء ، وبمقدور هذه الزمر اختطاف اي سيدة من وسط الشارع ان لم يعجبها تحجب هذه السيدة . فقد تكون ربطة رأسها مثلاً مرتخية بعض الشيء ، وقد يظهر قليلاً من شعرها حيث تؤخذ الى سجن ايفين مع المومسات .
اما بالنسبة لوتيرة حركة الحرب ، فأنها تبدو بطيئة جداً فقد حقق العراق مكاسبه في الهجمات المفاجئة في الايام الاولى من الحرب ولم يتقدم الى الامام منذ ذلك الحين بل حفر خنادق دفاعية مستقرة بعد انسحابه الى داخل اراضيه .
وفي ذلك الوقت الذي يحاول فيه العراق التملص بشكل واضح من الحرب ، يرى آية الله خميني الحرب بأخلاقه الاستبدادية ، فهو يحمل بداخله بغضاً شخصياً عميقاً للرئيس صدلم حسين ، لانه اخرجه من ملجأه في النجف بناء على طلب الشاه .
( كل شيء يرجع الى خميني ، حقيقة ، وليس هناك أية اشارة على انه سيقوم بتسوية .. ) كما يقول احد الدبلوماسيين الاجانب . وسيتوال اسلوب الحرب هذا بالتكتيكات نفسها دهوراً وعلى مدى معين . هم في ورطة في كيفية مواصلة الحرب بشكل فعلي وما يستطيعونه فقط هو الضرب بعنف بشكل غير محدد ودقيق .
انه مفهوم الحرب في ايران قد تغير بعد سبع سنوات من اندلاعها . فالأيات والباسدران يتحدثون عن الواجب الاسلامي للقتال ضد الملحد صدام حسين ، كما يقول احد العسكريين ، الا ان الحرب بالنسبة للانسان العادي حرب ضد العرب ، اما بالنسبة للبسطاء والسذج من سكان الريف ، فالاسلام وايران كلمتان متشابهتان ( ونحن الفرس لم نحب العرب يوماً ما ) حيث قال احدهم .
لذا ، فأن الحرب مقبولة من قبل الشعب ، بيد انك لا تشعر بمتاعب الحرب الا قليلاً ، وذلك ، عندما تشاهد سيارات الاسعاف او سيارات نقل الجثث والسيارات الخاصة بالتبرع بالدم الواقعة في منطقة (Waliasr) . انها تذكرنا ان الاشتباكات مع العراق تعني موت الايرانيين يومياً .
والواقع ان الايرانيين يعلمون ان مئات الآلاف من ابناء وطنهم يموتون ، الا ان الاعلام الايراني لا يعزف على نغمة ( قتلى الحرب ) لانهم جميعاً بالنسبة له ( شهداء ) .
وفي النهاية ، تبدو الحرب وهدفها والتضحيات التي بذلت من اجلها ، كأفضل ضمان للنظام . ويتوقف السلام اذن على مصير الاسلحة اكثر منه على الاسباب التي قامت من اجلها الحرب .

*الكاتبة سميت الخليج الفارسي جرياً على عادة المؤلفين غير العرب ، وقمت بترجمته الى الخليج العربي نظراً الى انه الاسم الرائج للمتحدثين باللغة العربية . المترجم

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب