23 ديسمبر، 2024 8:35 م

في الغناء والشعر/ 6

في الغناء والشعر/ 6

ألحّ علي بعض الاصدقاء أن أواصل ما بدأت في سلسلة “الغناء والشعر” وحيث أن ما أكتبُه مُستقىً أصلاً من مواضيع جمعتها في دفتر كالذي يطلق عليه “الكشكول” احتوى مواداً وملاحظات ومقتطفات ومراجع ..الخ، ما يسهِّل مهمة الكتابة، وحيث أنني في ترحال متصل، فقدت الدفتر وافتقدته رفيقا عزيزا مُعينا ومسليّاً..وتريثتُ علّه يعود ولكن دون طائل، لقد فرّ تماماً فرار طائرٍ من قفص! أسوق هذا لعلني ألتمس عذراً بما سأكتبه من الذاكرة متأسِّياً بقول كعب: والعذر عند كرام الناس مقبولُ!

لم يبرعِ العراقيون بتلحين القصائد المغنّاة براعتهم في ألوان الغناء الأخرى، وسيكون التساؤل مشروعا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن العراق هو بلد الشعر والشعراء من دون منازع؛ فأين يكمن السبب ( ولا أقول العِلّة!) في بلد نصيبه كان من النزر القليل في تلحين وغناء القصائد!

ولا أود أن أذهبَ بعيداً فأقول أن الأناشيد الوطنية وأقصد بها الرسمية ظلّت لا تمتُّ بصِلة الى العراق شعراً ولا لحناً على مدى غير قصير؛ وما زلنا في نقاش لم يأت أكُله بعدُ عن أية قصيدة سترشح؟! ومن سيكون شاعرها؟ ومن سيلحنها؟! ولا أود استباق القول- ومن أين لي أن استبق- فأقول أن المرشح الأكثر شعبية هو الجواهري وتحديدا قصيدته من المقصورة : سلام على هضبات العراق- على الشط والجرف والمنحنى….الخ.التي تبناها مجلس النواب في 12تموز/يوليو 2012، ولم تنفذ بعد! ومن ذا الذي ينكر شاعرية الجواهري؟ بيد أن هذه القصيدة بالذات لا تصلح للتلحين، فهي ثقيلة اللفظ والمقصورات عموماً تكون خافتة القافية التي تلعب دورا هاما في تركيز الإيقاع الموسيقي، ناهيك عن اعتبارات أخرى ليست من موضوعنا الآن، رغم هذه المحاولة ادل نجمان والتي غلبت عليها الرتابة والبرودالتلحينية للملحن ع! https://www.youtube.com/watch?v=AVU8Pj6GVXg

وعند الرجوع الى الذاكرة البعيدة أجد أن أناشيدنا في ذالك الزمن البعيد كانت في منتهى الرقة والعذوبة فإضافة الى نشيد إبراهيم طوقان “موطني” فهناك نشيد عذب ارتسم في الذاكرة للشاعر اللبناني حليم دمّوس وتلحين الأخوين فليفل هو:

عليك منّي السلام يا أرض اجدادي – ففيك طاب المُقام وطاب إنشادي

إلى أن يصل الى عبارات شعرية آسرةِ في رقتها وجمال تصويرها:

أهوى عُيون العسل – أهوى سواقيها

أهوى ثلوج الْجبل – ذابت لآليها

هذي مجاري الامل – سبحان مجريها

ذابت كدمع المُقل – في أرض أجدادي

ياقومُ هذا الوطن نفسي تناجيهِ – فعالجوا في المِحَن جراحَ أهليهِ

وهناك نشيد آخر يغلب عليه الطابع الحماسي لثرائه الإيقاعي، ولا يخلو من رومانسية تجعلنا ننشده بانفعال، لم أعرف قائله ولم أعثر على نص النشيد الذي يبدأ:

لنا الشموسُ في غدِ وخفقة التمرد على الدجى العبوس

فيا رحابُ رددي ويانفوسُ أنشدي لنا الشروقُ في غدِ

ويلاحظ أن هذه الاناشيد تتسم بالبساطة وسهولة المعاني والمقابلة البلاغية، ويحضُر فيها عنصر الطبيعة إضافة إلى البعد الإنساني بعيداً عن الأدلجة الدينية والسياسية والتحزُّب الضيّق!

لقد استوعب المقامُ العراقي عيونَ الشعر العربي على مرّ الحقب التاريخية والسياسية، وأحسب أن غناء القصائد الفصحى سبق الزهيري أو الموّال، ذلك أن جذور هذا الفن ترجع الى العصر العباسي الثاني ثم تطور واغتنى بتجارب الشعوب الأخرى حتى استقر على ماهو عليه وأصبح واحداً من عناصر الهوية الثقافية والفنية المميزة للعراق ومفخرة غنائية وشعرية خاصة في المقامات التي تؤدى باللغة الفصحى، الأمر الذي جعل الشعب العراقي من أكثر الشعوب العربية تعلقا بالشعر وأكثرها تذوقاً له.

فقد اكتسب قرّاء المقام ومغنوه خبرة في اختيار القصائد وملاءمتها مع المقام وروحه من ناحية النغم والأسلوب التعبيري الذي يبدأ بحسن اختيار الأبيات وانتقاء الحارّة منها

للإنفعال بها في الميانات ثم الإنتهاء بما يصلح للخاتمة(التلوة) وهو مايعرف بالشعر بحسن الختام.

أحسب أن اعتماد الشعر في المقامات قد جعل أرباب هذا الفن يعتمدونه كمنظومة ميلودية جاهزة أبعدهم عن اعتماد التلحين للقصائد الشعرية مستقلة -عن حرفية المقامات- والتي يمكن أن تستلهم روح المقام وأنغامه المتنوعة!

إن اعتماد قصيدة معينة وجعلها ملائِمة لغناءٍ على نغم مقام معين ليس بالأمر السهل قطّ؛ فهي تتطلب من القارىء معرفة واسعة بالمسارات اللحنية للمقام ناهيك عن معرفته بخصائص القصيدة نفسها وجمال معانيها وألفاظها لكي يتمكن من تطويعها للمقام، ولهذا نجد بعض القصائد يكررها المغنون دون غيرها في هذا المقام أوذاك، مما يسبب الملل، ولقد كان للمقرىء الكبير محمد القبنجي دورٌ مهم في توجيه تلاميذه في حسن الاختيار وهو الذي غنّى للشاعر محمد سعيد الحبوبي وجعفر الحلي والشرقي إضافة إلى ما غنّى من الشعر القديم..

وأعتبر أن المطرب الكبير يوسف عمر هو أكثر قراء المقامات دراية في حسن اختياره لعيون الشعر العربي وخاصة القديم ناهيك عن أدائه المتقن لجميع المقامات القصيرة وكذلك للطويلة الصعبة، فقد غنى للمتنبي، وأبي فراس الحمداني وابن الفارض وابن معصوم والمرعي اليمني، وكاظم الأزري وعبد الغفار الأخرس وجعفر الحلي والحبوبي والرصافي وأحمد شوقي…وامتاز بالإضافة لصوته المتفرد بحسن اللفظ وقلة اللحن..( راجع مطرب غنّى بصوته لكاتب هذه السطور).

اهتم ناظم الغزالي ذو الصوت الجميل بقراءة القصائد الملائمة لطبقته العالية، فزاد على القديم بغناء الشعر الحديث من أمثال أيليا أبو ماضي (أي شيئ في العيد أُهدي إليك) وللعراقي حافظ جميل ” ياتين ياتوت يارمان ياعنب” وقد طار صيته في العراق وخارجه بسبب حسن أدائه لهاتين القصيدتين وأضرابهما من قصائد خفيفة مفهومة للناس على مقامات قصيرة، من قبيل ” سمراء من قوم عيسى” وموشح “يامن لعبت بي شمول” المنسوب للبهاء زهير.. ومع إنهاء هذه المقامات القصيرة ببستات ملائمة برع في أدائها وجعلها سائغة لدى العراقيين والعرب على حد سواء، مع حضور على المِنصّة جذاب مصحوبٍ بحركات رشيقة وتعامل حسَن مع المايكرفون..

ليس بالوسع التطرق الى القصائد المغنّاة جميعها، لكن لا بد من وقفة مع قصائد قصيرة غزلية خفيفة غنتها بجدارة المطربة الكبيرة الراحلة عفيفة اسكندر، هي في مجملها أغنيات خفيفة على بحور قصيرة طالما اختارها بنفسها وصححها لها أدباء أمثال د. مصطفى جواد وجعفر الخليلي والشاعر العراقي أكرم أحمد وغيرهم من حُضّار مجلسها

الأدبي مثل: ياعاقد الحاجبين لبَشارة الخوري، وقيل لي قد تبدلا، المنسوبة خطأً للبهاء زهير وهي لأبي عبد الله المقرىء الخطيب الأعمى، وغيرها (راجع: في غزل الشاع عبد الإله الياسري ح 3 لكاتب هذه السطور) ..والتي حازت على شعبية واسعة! أما قصيدة البهاء زهير فهي:

غبت عنّي فما الخبر؟ – ما كذا بيننا اشتهرْ

أنا مالي على الجفا – لا ولا البعدِ مُصطبّر

لا تلُم فيك عاشقاً – رام صبراً فما قَدَرْ

فعسى منك نظرةٌ – ربما أقنعَ النظرْ

أيها المُعرِض الذي – لا رسولٌ ولا خبر

وجرى منه ما جرى – ليتَه جاء واعتذر

فتفضّل فيوُمنا – بكَ إن زُرتنا أغَرْ

وغنّت أيضاً القصيدة الجريئة:

نم وسادُك صدري – وطوْعُ أمرِك أمري

واحلَم فحُلْمُك نورٌ – وفِضّة فوق تبر

أأنت موجة نورٍ – أم أنت موجة عطر

ويرى القارى أنها أشعار قصيرة خفيفة رقيقة تتماشى مع غَنج وخفة ظل المطربة الكبيرة الجميلة عفيفة اسكندر ويسمع القارىء أيضا في الوقت ذاته أنغاماً عراقية لا يمكن أن تُخطئها الأذن..رغم أن هذه القصائد تنطوي على صور شعرية مكررة على مر العصور، فإنها لاقت صدىً طيبا لدى مختلف الشرائح الاجتماعية من ساسة ومثقفين وعامة الشعب ولا أبالغ إن قلت أنها رفعت من الإرهاف والإحساس بالشعر الجميل المؤدى بالصوت الجميل والنغم العراقي الأصيل!

برز الفنان كاظم الساهر في تلحين القصائد الفصحى وحقق نجاحاً جماهيرياً؛ ومن أولى الأغاني كانت للشاعر الأستاذ حسن المرواني “أنا وليلى” ( راجع بين تائيتين ح2، 3 لكاتب هذه السطور) وتماشياً مع شهرته العربية الواسعة لاقى نجاحاً عربياً في تلحين قصائد نزار قباني، وبذلك نفخ الروح في قصائد الشاعر الكبير قباني الذي تراجعت شهرته بعد السبعينات وقلّ تداول دوواينه؛؛ الحان كاظم للقصائد اتسمت بأنها اقرب الى الروح المصرية منها الى العراقية، واتسمت بحسن التوزيع الموسيقي..

حاول غير قليل من الملحنين تلحين قصائد الشاعر بدر شاكر السيّاب وخاصة قصيدتي ” أنشودة المطر” و “غريب على الخليج” ولم ينجح احدٌ في أدائهما باستثناء الدكتورعلي عبد الله الذي قدم لحناً جيداً مع توزيع حديث بأداء الاكاديمية المغربية سلوى الشودري التي تتميز بصوت قوي صافِ وبأداء مُحكَم، لقد عمد الملحن على إدخال مقام المدمي، بعد مشهد تصويري دامٍ ،، ولا أرى أن القصيدة التي قالها السياب المعلول وهو في حالة من الحزن قبل رحيله الابدي في الكويت تتطلب مثل هذه المشاهد، هي قصيدة حنين وحزن قبل أن يشهد العراق الحروب والوقائع الدموية! https://www.youtube.com/watch?v=rQ3fA9pJO1o

وقد لحّن لها أيضا قصيدة المتنبي ” وا حرّ قلباه!” مع مقدمة قانون من الحجازكار وقد أبدع في تلحينها، كما غنّت الشودري قصيدة نازك الملائكة “النائمة في الشارع” ويجدر أن نذكر أنها ملحِّنة للعديد من القصائد منها قصيدة كعب بن زهير ” بانت سعاد” … https://www.youtube.com/watch?v=YrIUNQzrl9c

كان الملحن الكبير طالب القره غولي قبل رحيله قد فرغ من تلحين قصيدتين عن بغداد تزامنت مع بغداد عاصمة الثقافة، للشاعرة وئام ملا سلمان، حيث أعلن عن ذلك بأكثر من مقابلة صحفية وتلفزيونية معه، ومستهل الأولى:

سلامٌ على يغداد ما أشرقت شمسُ – وما انتعش السُمّار وارتعش الكأسُ

وما أنَّ عودٌ أو تغنت مليحةٌ – بهمسٍ وعند الليل ما يفعل الهمسُ

تغازلُ صبّاً هدّهُ الشوقُ موجَعاً – وتُشفيهِ إنْ أضنى أطباءّهُ اليأسُ

أما القصدة الثانية:

بغدادُ عذراً شحّ بي غزَلي – وغرِقتُ في دوّامة الخجلِ

وتقرّبي من مُنهكٍ عطِشٍ – ودعي الشفاهَ تذوبُ بالقُبَلِ

وقد اقترح الملحن تبديل “القلوب” بالشفاه فوافقت الشاعرة، ولكن السؤال الذي ظل معلقاً أين هاتان الأغنيتان التي أودعهما الملحن الراحل لمسؤول في وزارة الثقافة؟! لقد تعبت الشاعرة من السؤال ولا من مجيب!

إنً العناية بالقصائد المُغنّاة والتشجيع على تلحين روائع الشعر وإشاعتها سيسمو بالذائقة الشعرية والغنائية، في الوقت الذي نجد تداعياً وهبوطاً في الشعر والغناء معاً، ما يؤكد

العلاقة الجدلية – التي تناولناها طيلة الحلقات الخمس الفارطة – بين الإثنين فكلما ارتقى الشعر تعافى الغناء.