18 ديسمبر، 2024 4:42 م

في الذكرى المئوية لرحيل لينين ما يحدث اليوم في منطقتنا

في الذكرى المئوية لرحيل لينين ما يحدث اليوم في منطقتنا

تمر الذكرى المئوية لرحيل لينين (٢٢ نيسان ١٨٧٠-٢١ كانون الثاني ١٩٢٤) عن العالم، ومازالت الإنسانية مدينة بالمكتسبات التي حققتها أعظم ثورة في تاريخ البشرية، قادها لينين، و أثبت بشكل عملي أن عالم أفضل ممكن، وان نضال الإنسان المتواصل من أجل السلام والأمان والمساواة والحرية والكرامة الإنسانية هو مسعى واقعي ويمكن تحقيقه.

ما نشهده اليوم من صراع بين الأقطاب الامبريالية العالمية والدول التابعة لها، وتحت عناوين كاذبة وخادعة، عناوين “الديمقراطية” التي رفعها الغرب من أجل هيمنته على العالم، وأثبتت حرب إسرائيل الوحشية على غزة كم أي عنوان الديمقراطية هو تعبير صارخ عن النفاق السياسي، والعنوان الآخر هو القانون الدولي و”عالم متعدد الأقطاب أكثر عدالة” الذي تتبجح به روسيا والصين وتختبئ تحت مظلتها دول استبدادية مثل إيران وكوريا الشمالية بامتياز التي إما ان تضرب القانون الدولي بعرض الحائط مثل ما يحدث اليوم في أوكرانيا أو الاستثمار العسكري والسياسي في الدول الفاشلة متجاوزة “السيادة الوطنية” و”القانون الدولي” مثلما يجيده بجدارة نظام ملالي طهران في لبنان وسورية والعراق واليمن. 

ان هذا الصراع يعود بنا الى لينين بٌعَيدَ اسقاط النظام القيصري والحكومة المؤقتة في روسيا وفتح خزائنها والكشف عن الاتفاقيات والوثائق الموقعة بين فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية للاستحواذ على العالم وتقسيمه فيما بينهم، وقد أحدثت ضجة كبرى في العالم، وبينت الاطماع الامبريالية وأسباب الحرب العالمية الأولى. 

ومن الجدير بالذكر، أن رفع شعار (عالم متعدد الأقطاب أكثر عدالة) هو من أكثر العبارات المظللة، فالعدالة هنا لمن، هل للطبقة العاملة وعموم محرومي المجتمع الذي وقف لينين باسمهم وليمزق جميع وثائق الاتفاقيات لتقاسم العالم بين الأقطاب الامبريالية العالمية آنذاك، حيث “كان متعدد الأقطاب”، ام أكثر عدالة للطبقات البرجوازية القومية التي تكافح من أجل احتلال موطئ قدم ومكانة لها في مزاحمتها للأقطاب الامبريالية العالمية الأخرى.

ومن هنا ينبع كراهية فلاديمير بوتين الرئيس الروسي الحالي لإرث لينين ومحاولاته لاستئصاله من التاريخ الروسي، وعبر عنها بمناسبات مختلفة اثناء حربه على أوكرانيا وما زال، ولكنها مغلفة بلغة دبلوماسية، حيث وجه نقده لتنازل لينين عن مليون كيلومتر مربع من أراضي الإمبراطورية الروسية لألمانيا والدول الأوروبية الأخرى من أجل خروج روسيا من الحرب العالمية الأولى وتحقيق السلام وحقن دماء الملايين من زجوا كذبا وافتراء في حرب لصوصية كما وصف لينين الحرب العالمية، بأنها حرب بين اللصوص. تلك الكراهية نابعة عن تناقض افقين، الأفق الاشتراكي-الإنساني الذي مثله لينين، والأفق الامبريالي التوسيعي لبوتين، وأثبت لينين من الناحية العملية أن كل ادعاءات الدفاع عن الوطن والقومية الروسية هي محض هراء، وانها شعارات وايديولوجية من اجل الاستحواذ على أراضي الغير، بغير وجه حق، واستثمار إنسانية من يعيشون عليها لمصلحة حفنة من الطبقة البرجوازية التي تسخر مواطنيها عبر خداعهم والكذب عليهم وتحميقهم وزجهم في معاركها وحروبها التي اشعلت الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما نشهده اليوم من حروب وآخرها حرب غزة هو معطيات مادية تثبت صحة ما ذهب إليه لينين. 

ان الصراع بين الأقطاب الامبريالية والدول التابعة لها هو ظاهرة ملازمة للنظام الرأسمالي، الا أن تغليف الصراع لتبريره وتضليل الجماهير لتعبئتها وزجها في ذلك الصراع يختلف من عصر الى عصر آخر. فإذا كانت مقولات “الوطن” و”الدفاع عن الوطن” هي عناوين تلك المرحلة، فاليوم تحمل عناوين أخرى، فعلى سبيل المثال وفي منطقتنا تحديدا لا تأتي عناوين “القانون الدولي” و”نشر الديمقراطية” اوكلها، فنجدها تتغير بقدرة قادر الى يافطات أخرى، فمثلا  إسرائيل ترفع شعار “الحرب على الإرهاب” لتبرير ظلمها القومي السافر على الفلسطينيين و تشاطرهم الولايات المتحدة الأمريكية وعموم الغرب الذي استخدم اليافطة أعلاه ايضا بعد انتهاء الحرب الباردة لفرض هيمنته السياسية والعسكرية والاقتصادية على العالم، في حين الدول التابعة للقطب الامبريالي الآخر ونقصد روسيا والصين، مثل إيران رفعت شعار “المقاومة والممانعة” بعد أن بات شعار الثورة الإسلامية لا يستهوي أحدا ولا يمكن من خلاله خداع وتضليل الجماهير لإخفاء التمدد القومي الفارسي في المنطقة.

وإذا ما عدنا الى الموضوع نفسه، فإن ما يجمع بين الامبريالية الغربية والإمبريالية الروسية والدول التابعة لها او التي تدور في فلكها هو عدائها للينين وكره إرثه السياسي والاجتماعي، وهو ما يفسر إجماع ٢١ دولة حينها على إسقاط سلطة البلاشفة بعد ثورة أكتوبر ١٩١٧، بدءا من أنصار القيصر “والمدافعين عن الوطن الروسي-الاقطاع، الليبراليين، الاشتراكيين الشوفينيين-” ومرورا بألمانيا التي حاربت روسيا القيصرية اثناء الحرب وانتهاءا بكل امراء وملوك وجمهوريات اوربا. ان ماهية تلك الكراهية تكمن في ان لينين فضح كل ادعاءات الأقطاب الامبريالية وشعاراتها القومية وأطماعها وعدائها لشعوب العالم، وكذلك عدائها السافر للطبقة العاملة التي تجاسرت بقيادة لينين في إزاحة البرجوازية من على السلطة في روسيا لتكون نبراسا لكل العمال في اوربا وترفع راية السلام والحرية والمساواة.

لقد رفع البلاشفة بقيادة لينين شعار (الأرض – الخبز- السلام) الذي تحول كالنار في هشيم يلف ليس العمال وحدهم في روسيا فحسب بل الفلاحين وهم الطبقة الأكبر اجتماعيا حينها في روسيا والجنود وجميع الأقسام الاجتماعية في المجتمع الروسي الذي دفعه نظام القيصر الى حربه الامبريالية التوسعية من أجل ملء خزائنها على حساب حرمانه أي المجتمع الروسي، ويحرس الهة الحرمان دولاب القمع والاستبداد القيصري. 

ويجدر بنا تفكيك الشعار أعلاه ومقارنته بما يحدث اليوم، ونقصد صراع الأقطاب الامبريالية أعلاه على النفوذ الاقتصادي والسياسي الذي أشرنا إليه. فمقولة (الأرض) في الشعار الذي رفعه لينين او البلاشفة، لا تتجسد فقط في تأميم الأراضي الاقطاعية وتوزيعها على الفلاحين فحسب بل أيضا في المرسوم الذي أطلقه؛ وهو من حق شعوب الامبراطورية الروسية ان تستقل او تنفصل عن الإمبراطورية الروسية. أي أن مقولة الاستحواذ على الأراضي سواء في الحدود الجغرافية التي نعيش عليها او التي تستولي عليها طبقتنا البرجوازية خارج تلك الحدود ، وتزج الجماهير العمالية والكادحة في حروبها التوسعية سواء في الدفاع من اجل الاحتفاظ بتلك الأراضي عبر تحضير الأرواح من التاريخ، او شعارات المقاومة والممانعة او الحرب على الإرهاب او باسم حماية القانون الدولي كما نشهده اليوم في الظلم القومي السافر الذي تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينيين من تهجيرهم والاستيلاء على أراضيهم من قبل المستوطنين تحت عنوان أرض اليهود التاريخية، أو إعادة دونباس والقرم الى روسيا او المطامع البولندية في الاراضي الأوكرانية، وهلم جرا. والوجه الآخر للأرض، هو من خلال إشاعة الأوهام حول حقانية الملكية الخاصة لها سواء من قبل الاقطاع الذي كان يستحوذ على الأراضي ويفرض على المزارعين والفلاحين الضرائب العينية او يقوم بجلدهم او طردهم منها، او من قبل الشركات الخاصة كما هو على سبيل المثال وليس الحصر شركة الفواكه المتحدة التي تستولي على أراضي شاسعة في دول أمريكا اللاتينية، و تدخلت في تدبير انقلابات عسكرية فيها في القرن الماضي لتنصيب حكام وأنظمة تبيح استثماراتها والاستثمار المطلق للإنسان. بمعنى اخر نقول ان الاستيلاء على الأراضي بالمعنى المطلق لا تجد لها أي أثر في قاموس لينين ولا البلاشفة. وهذا ما يعذب بوتين ويقض مضاجعه ويحاول استعادة ما منحه لينين للشعوب والفلاحين من اجل تحريرهم من العبودية عبر نفخ الروح بالقومية الروسية والتقاليد الرجعية الروسية والدين الأرثودوكسي الروسي.

اما القسم الاخر من الشعار وهو (الخبز، والسلام)، فأرقام الأمم المتحدة الحالية تخبرنا بأن اكثر من مليار ومائة مليون انسان في العالم يعيشون في خط الفقر، في حين تخصص دولة مثل الولايات المتحدة الامريكية ثلاثة أرباع ترليون دولار من موازنتها السنوية للإنفاق في مجال التسلح والدفاع، وتخصص دول حلف الناتو ٢٪ من ناتجها القومي للتسلح الذي يضم الدول الصناعية الستة وهي ألمانيا وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة الامريكية وكندا وبريطانيا إضافة الى ٢٥ دولة اوربية أخرى. 

ان ما يدور اليوم في العالم، هو نفس ما فضحه لينين في تلك الفترة، فبدلا من بذخ المليارات من الدولارات على العسكرتارية والحروب الامبريالية التوسعية، فيمكن إنفاقها على تعميم السلام والصحة والتعليم والبيئة وإنهاء الفقر.

أن مكتسبات ثورة أكتوبر من حق التعليم والصحة المجانية والضمان الاجتماعي والحصول على سكن ملائم وغيره اجتاحت اوربا، وكان خوف الطبقات الحاكمة في الغرب من الطبقة العاملة في بلدانها والاحتذاء بما ذهب إليه رفاقهم العمال في روسيا القيصرية، دفعها من تقديم التنازلات من أرباحها للطبقة العاملة ومحرومي المجتمع مثل الضمان الاجتماعي والضمان الصحي وتوسيع رقعة التعليم. وهذا يقودنا الى تصفح بعض أوراق التاريخ  وتأثير ثورة أكتوبر، ونقرأ بعد الكساد الكبير او كما يسموه بعض الاقتصاديين الانكماش الكبير في عام ١٩٢٩ يجتاح البلدان الرأسمالية، فذهبت إدارة فرانكلين روزفلت في الولايات المتحدة الامريكية بين أعوام ١٩٣٣-١٩٣٨ بحث الكونغرس الأمريكي للإقرار على جملة من القوانين؛ قانون الضمان الاجتماعي وقانون معايير العمل العادل الذي وضع ساعات الحد الأقصى للعمل والحد الأدنى للأجور وقانون تعزيز عمل النقابات العمالية وقانون توفير 500 مليون دولار -بقيمة تلك الفترة-  بتخصيص مطاعم الفقراء ولأموال الإعانات، وبرامج جديدة لمساعدة المزارعين المستأجرين والعمال المهاجرين و إنشاء هيئة إسكان بالولايات المتحدة.

ما نريد ان نقوله ان الخوف من شخص مثل لينين ليس لأنه أرسى دولة “استبدادية” شيوعية كما روج له الإعلام البرجوازي العالمي في الوقت الذي فرخ نفس النظام البرجوازي عشرات المستبدين والفاشيين مثل هتلر وموسوليني و بينو شيت وسوهارتو والخميني وصدام حسين وبن لادن والزرقاوي ونتنياهو وبوش الاب والابن، بل لأنه تجاسر طبقيا وانتزع السلطة من الطبقة البرجوازية وارسى عالما يسود فيه السلام ويمكن تحقيق فيه المساواة بين البشر ويمنع فيه استثمار الإنسان. لقد عبر عن ذلك؛ القائد الشيوعي الراحل منصور حكمت عندما حطم تمثال لينين في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث قال انهم فعلوا ذلك لأنه كان يمثل رمز الجسارة الطبقية.

أن الشغل الشاغل لمراكز الدراسات البرجوازية في العالم والمجمعات الصناعية للأسلحة ولوي عنق التطور التكنولوجي هو من أجل الحفاظ على عالم منقسم طبقيا، عبر تحميق البشر بالخرافات القومية والدينية والتفوق العرقي واشعال الحروب، وهكذا من ضمن أعمال تلك المراكز هي محو من الذاكرة التاريخية ما أقدم عليه لينين او تشويه كأضعف الإيمان. فلا قائم يقوم للبرجوازية وسلطتها الطبقية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والهيمنة الفكرية دون الحفاظ على عالم اللامساواة، عالم ينقسم الى طبقتين، عالم يقبحه الاتجار بالجسد والأعضاء البشرية والمخدرات والتمييز الجنسي والعرقي والقومي والاثني، عالم فيه اقلية طفيلية تعيش على حساب الأغلبية الساحقة من الجماهير العمالية والكادحة، عالم يموت فيه مع كل شهيق وزفير طفل في العالم، عالم تموت فيه (أم) في كل ساعة في غزة حسب تقديرات الأمم المتحدة، وبدون هذا العالم، فرأس المال ليس امامه الا الانتحار، ومعه ستنتحر البرجوازية. وهذا ما يؤرق دائما الطبقة البرجوازية وتقاتل بضراوة وشراسة كما اشرنا عبر أدواتها من أجل الحفاظ على عالمها، وظهر لينين ليحطم ذلك العالم ويبني مكانه عالم جديد يصوره المغني البريطاني جون لينون في اغنيته الشهيرة تخيل (Imagine) نورد منها مقاطع: تخيل لا وجود للجنة، ولا جحيم تحتنا، تخيل ليست هناك دول و بلدان، لا شيء يستحق من اجله القتال أو تضحية، كذلك لا وجود للدين، تخيل كل الناس يعيشون الحياة في السلام و الهدوء، تخيل ليست هناك ممتلكات، لا حاجة لجشع أو لجوع، بل الأخوة بين البشر، تخيل كل الناس تشارك كل في العالم.