18 ديسمبر، 2024 7:59 م

في الذكرى السنوية/16 لغزو العراق

في الذكرى السنوية/16 لغزو العراق

أسباب نجاح الغزاة في إحتلال العراق بسهولة
في الذكرى/16 على غزو الحليفين الأمريكي- البريطاني للعراق مصحوباً بذلك النجاح السريع مقابل إخفاق عسير أدّى الى إنهيار نظام حكم الرئيس الراحل “صدام حسين” وإختفاء قادته الأقدمين -السياسيين منهم والعسكريين- ليُمسي “العراق” من أقصاه الى أقصاه وعاصمته العتيدة سائبةً أمام الغزاة ليحتلّوه ، مُعرِّضين إياه لأنكى الجرائم والنهب والسلب والحرق والتدمير والدماء المُسالة بمعدّلات يومية على أيدي العصابات والميليشيات وعتاة المجرمين وأصحاب السوابق ، فضلاً عن العَوام.

يمكن إيعاز أسباب النصر العسكري والإخفاق الساحق الى جملة اُمور إستراتيجية ، نستطيع إيجازها ضمن العناوين الآتية :-

السيادة الجوية
يقول الجنرال الإيطالي “دوهيت” عام (1925) – حينما كان العالم كله لا يمتلك سوى بضعة آلاف من الطائرات – أنه سيأتي يوم تستطيع فيه الطائرات من تدمير منشآت دولة بكاملها ، حتى تجبرها على الإستسلام ، من دون خوض حرب برّية أو بحرية … تلك المقولة المعبّرة عن بُعد بصيرة ، إن لم تكن قد طُبِّقَتْ بشكل مطلق على الحروب الحديثة ، فإن سلاح الجو كان الحاسم الأهم في حرب “كوسوفو ، وأفغانستان” مؤخراً ، وقبلهما في “حرب الخليج الثانية” (1991) ، وأخيراً الحرب على العراق موضوعة بحثنا ، فالسيادة الجوية التي تحقّقت خلالها ، والدمار الهائل الذي أحدثته عمليات القصف بالطائرات المختلفة والصواريخ الدقيقة هما اللذان تسَبَّبَا ومهّدا لإنهاء هذه الحرب بالسرعة التي لم يتوقعها معظم المحلّلين الإستراتيجيين حذاقةً وبُعد نظر ، وجَعَلا القوات المتحالفة ، على أنواعها ، حرّةً في الإندفاع السريع نحو مدن العراق الكبرى في الجنوب والوسط ، قبل أن تقتحم “بغداد” بسهولة ويُسر مشهودين ومُؤسِفين.

وتعتبر السيادة الجوية أعلى درجات التفوّق الجوي – إن صحّ التعبير – وتعني أن تكون طائرات القوتين الجوية والبحرية وطيران الجيش والمقذوفات الصاروخية متمتعة بحرية الحركة والمناورة ، أينما وكيفما ومتى ما تشاء ، دون أن تواجهها أخطار مقابلة سواءً من الجو (بالطائرات المعترضة) أو من أسلحة مقاومات الطائرات المنصوبة على الأرض أو تلك المحمولة على منصّات القطع البحرية العائمة أو الغاطسة.

وهذا ما تمّ تأمينه في هذه الحرب التي شُنَّتْ على “العراق” ، وفق ما يأتي :-

قرار القيادة العامة العراقية – قبل إندلاع الحرب – بعدم زجّ سلاح الطيران في القتال ، وإخفاء الطائرات القاصفة (BOMBERS) والمقاتلات والإعتراضية (INTERCEPTORS) والسمتيات (الهليكوبترات) بين الأحراش والبساتين وتحت الرمال … ولكن حتى إذا كانت قد قرّرت عكس ذلك ، فإن الطائرات العراقية كانت تدمّر أو تحترق على أرض قواعدها ومطاراتها ، وإن أقلعت وحلّقت في الجو فكانت تتساقط كالورق ، فالفرق بين مستويات طائرات الطرفين وإمكانيات أدائها من الصعوبة بمكان خوض مقارنة بشأنه.

كانت أسلحة مقاومة الطائرات الأرضية على أنواع ، أولها مقذوفات صاروخية (سام -2 ، سام -3) الموزعة في عموم العراق (عدا بغداد) ، قد أكل عليها الدهر وشرب ، فهي من منتجات الإتحاد السوفييتي خلال عقد الستينيات وربما أوائل السبعينيّات ، وقد أثبتت فشلها حتى في حرب فييتنام (1965 – 1975) … وثانيها مدافع مقاومة الطائرات ، وخصوصاً من عيار (57 ملم) والتي لا يتعدّى مداها (6,6) كيلومتر ، والاُخريات دون ذلك … وثالثها المقذوفات الصاروخية من الطُرُز الجيدة نسبياً (أفضلها الفرنسية “رولاند”) وذات أداء مُتمَيّز ، ولكن مداها أيضاً كان محدوداً (5,6) كيلومتر …ولمّا كانت طائرات التحالف تحلّق على إرتفاعات خارج مديات جميع الأسلحة المذكورة ، وبإقتدار متكامل – بأسلحتها المتاحة – لضرب الأهداف الأرضية العراقية ، فقد بات تأثير المقاومات الأرضية العراقية أشبه ما يكون الى مستوى (الصفر) ، بل أنّ عشرات الملايين من القنابل التي أُطلِقَت تنفيذاً لأوامر صادرة من القيادات العراقية العليا إنفلقت في السماء هدراً للأموال والذخيرة وكانت هباء منثوراً ولم تفد بتاتاً في إصابة أي هدف جوي.

التشويش الألكتروني الساحق الذي إستثمر التحالف إمكاناته الهائلة في شأنه ، وخصوصاً عن طريق العديد من الطائرات الإختصاصية (ECM) المصمّمة لهذا الغرض ، وطائرات (AWACS) ، والتي أوقفت عمل الرادارات العراقية ، سواءً على المستوى القطري (بعيدة المدى) ، أو تلك التي تعتمد عليها قواطع الدفاع الجوي (متوسطة المدى) ، أو المنصوبة قرب أو على منظومات المقاومات الأرضية (قصيرة المدى) …وبذلك شُلَّ عمل الأسلحة جميعاً إلاّ من رمي إطلاقات تعتمد على العين المجردة أو النواظير المقرّبة – وكان ذلك توجيهاً صادراً من أعلى المراجع – والتي لم تُجْدِ نفعاً سوى الكسب الإعلامي أمام أنظار مراسلي القنوات الفضائية ، كي ينقلوا صوراً عما يجري في “بغداد” وبعض المدن الكبرى .

ويضافُ إلى كل ذلك التدمير الهائل الذي أصاب مقرّات قواطع الدفاع الجوي العراقية منذ الليلة الأولى من الحرب ، والذي تواصل بإمعان في الأيام اللاحقة ، بحيث لم يَبْقَ من يمكن أن يدير شؤون أسلحة مقاومة الطائرات أو يقودها ويسيطر عليها ، ويوجّهها وفق المركزية المطلوبة في مجابهة هذا الكمّ الهائل من الطائرات المعادية المقتدرة .

عدم التكافؤ
ليس من سبيل المغالاة إذا ما ركّزنا على هذه النقطة الحسّاسة ، دون إستصغار من شأن الضابط أو الجندي العراقي ، الذي تَمَرَّسَ على القتال ومجابهة الأخطار في حرب مع “إيران” طالت ثماني سنوات (1980-1988) ، وحرب غير متكافئة حيال التحالف المناهض للعراق في “الكويت” (1991) ، فضلاً عن عشرات المعارك ضمن حروب أخرى … ولكن الحقيقة التي يجدر ذكرها في هذا الشأن أن القوات المسلحة العراقية كانت مهيّأة ومدرّبة ومجهّزة لخوض قتال قد ينجح مع دول الجوار ، أو لربّما بعض دول الشرق الأوسط ، ولم تكن قد اُعِدَّت – بطبيعة الحال – لمواجهة قطعات أمريكية وبريطانية ضمن حلف (NATO) صُمِّمَتْ لمجابهة القوات السوفييتية وجيوش حلف (وارشو) في أوجّ عظمتها .

وإذا ما وضعنا جانباً الأعداد المتوفرة لدى الطرفين لدى المواجهة الميدانية على أرض العراق من الأسلحة الثقيلة والمتوسطة والخفيفة ، لتوصّلنا الى اُمور مهمة عديدة :-

البون الشاسع بين مستوى الإتقان لدى عناصر وطوائف وأفراد الطرفين.
التفاوت الكبير في نوعية المعدّات وكفاءتها وإمكانيات أدائها ، بحيث أن المدى المباشر لمدفع الدبابة الأمريكية (إبراهام) – على سبيل المثال – الذي يبلغ (4000) متر ، يقابله مدى أفضل دبابة عراقية (تي – 72) ، والتي كانت وحدات الحرس الجمهوري مجهّزة بها لا يتعدّى (2200) متر …أي بمعنى أن الأمريكية تستطيع ضرب الدبابة العراقية بفارق (1800) متر دون أن تستطيع الأخيرة إستهدافها …وقِسْ على ذلك .
يضاف الى كل ذلك ، التفوق الجوي من جهة ، ومرافقة طائرات الهجوم الأرضي (F.G.A) والهليكوبترات المختلفة المصمّمة لمقاتلة الدروع وضرب الأهداف الأرضية للقطعات الحليفة المتقدمة على جميع المحاور ، وهي تحمل مقذوفات صاروخية دقيقة الإصابة (جو – أرض) ذات مديات تبلغ (10) كيلومترات على الأقل ، بحيث لا تعطي للقطعات العراقية – بشكل عام – مجالاً للمواجهة المباشرة مع قوات التحالف الأرضية.
معدّات الإستمكان عالية الدقّة المتوفرة لدى قوات التحالف ، والمقتدِرة على تحديد أماكن المدافِعين ضمن (متر مربع واحد) ، وخصوصاً مدافع الميدان والهاونات … صاحبها تشويش على المعدّات العراقية ، فضلاً عن ضعف الأجهزة والمعدّات الأرضية المُتاحة تحت أيديهم ، أو إضطرارهم لعدم تشغيلها خشية أن تُضرب في عقر مواقعها.
إمكانات الإستطلاع الفضائي بإستخدام الأقمار الصناعية – والتي قيل أن ثلاثة اُوقِفَتْ فوق العراق – أمّنَتْ معلومات دقيقة على مدار الساعة للقيادات الميدانية الأمريكية خصوصاً … وذلك في مواجهة الإستخبارات العسكرية العراقية التي باتت – بعد ساعات من إندلاع الحرب – شبه عمياء عمّا يجري في أرض البلد.

خطط الطرفين
يقول “صن تسو” – أحد قادة إمبراطورية الصين (2500 قبل الميلاد) – ((أن الهجوم هو الذي يحقق النصر … وأن الدفاع لابدّ أن يُخْتَرَق ويؤدي الى الهزيمة)) …ويؤيده في ذلك معظم الإستراتيجيين المعاصرين.

وبينما صمّمت قيادة قوات الإئتلاف على “التعرّض” والأخذ بـ “المبادأة” من النواحي الإستراتيجية والعملياتية والتعبوية (التكتيكية) ، فإن القيادة العامة العراقية إعتمدت على “الدفاع المُسْتَكِنّ” ، دون أن تخطط لأية هجمات مقابلة مدبّرة كبيرة قد تؤدي الى إيقاف تقدّم الخصم ، أو التأثير على مجريات الاُمور ميدانياً ، أو جعله يتّجه الى “أماكن قتل” ضمن ما يسمى في المصطلحات العسكرية بـ “الدفاع التعرّضي” ، أو بأسلوب ” الدفاع السيّار” .

وفيما كانت الخطّة العراقية معتمدة على تصوّر غير واقعي – لعدم أخذها بنظر الإعتبار العقيدة العسكرية الأمريكية في القتال التعبوي – بأن القطعات البرّية سوف تتعرّض على كل مدينة عراقية جنوبية كانت قد هُيِّئت للدفاع بشكلٍ أو بآخر ، وتخوض معارك بين مبانيها ووسط شوارعها ، مما قد يُطيل أمد الحرب أشهراً عديدة ، ولربّما يؤدي الى تداخلات دولية يمكن أن توقف القتال ، متفائِلة بأن نظام الحكم في “بغداد” سيظل قائماً ، كما حدث عام (1991) … فإن الخطة التحالفية كانت قد نصّت على عدم الدخول في أية مدينة تقع على محور التقدم ، إلاّ إذا كان ذلك لأجل أمر خطير يتطلب الإقتحام ، سواء كان ذلك لغرض السيطرة على نقاط حيوية (مثل الجسور) ، أو مواقع ذات أهمية محدودة العدد ، مثل المطارات والقواعد الجوية ببقاع العراق الجنوبية والغربية ، أو مواقع محدّدة ينبغي إقتحامها بغية تدميرها أو السيطرة عليها.

التحـشّـد
عُرِّفَ ” التحشّد” – وهو مبدأ من مبادئ الحرب المسطّرة في محاضرات كليات الأركان والقيادة في عموم العالم- بأنه (إستحضار قوات متفوّقة في جميع نواحيها على ما لدى الخصم).

وعلى الرغم من أن قوات الطرفين المتصارعين في هذه الحرب من ناحية النسبة العدديّة كانت تميل لصالح “العراق ” ، فإن ما حَشَّدَتْهُ قيادة التحالف ، وخصوصاً لتأمين التفوق النوعيّ – ناهيك عن السيادة الجوية – في جميع مواقع المواجهة ، وبالأخص قبالة مدن العراق الجنوبية ، وتحريكها لـ”القسم الأكبر” من قواتها نحو الهدف الأستراتيجي الأهم ، المتمثل بـ”بغداد” ، كانت كافية لجعل المجمل العام للتفوق العددي العراقي المنتشر في جميع بقاع الوطن محدود التأثير على مجريات الاُمور.

ومن ناحية أُخرى ، ونظراً لمحدودية المعلومات المخابراتية ذات الطابع الإستراتيجي ، والمُعطَيات الإستخباراتية على مستوى “العمليات” لدى العراق ، فضلاً عن أُمور عديدة مهمة أُخرى ، لا مجال للخوض فيها ، جعلت القيادة العراقية قبل إندلاع الحرب في موقف إستراتيجي مُحرِج للغاية إضطرّت معه الى نشر قواتها البرية في عموم المناطق الشمالية والوسطى والجنوبية ، وبعض الغربية ، بشكل متفرّق أدّى الى إضاعة مبدأ التحشّد وتجزئته ، مودياً الى محدودية تأمين الحشد العسكري اللازم في المكان المستهدف ، إذا ما إستثنينا “بغداد” وضواحيها.

أما مناطق العراق الغربية القصوى المتاخمة للحدود مع كل من “سوريا و الأردن” ، فقد اُخْلِيَتْ عملياً من أية قطعات عسكرية ذات ثقل ، وخصوصاً على محور (الأردن – وسط العراق) ، إقتصاداً في الجُهد العسكري ، وبغية الإفادة منه في القواطع الاُخرى الخطر ، مما أفسح المجال لفرقة عراقية (من المعارضين الذين دُرِّبوا في “هنغاريا”) من التوغّل بسهولة في أعماقها ، وتمكّنت من السيطرة السريعة ، ومن دون مقاومة تذكر ، على قاعدتين جويتين كبيرتين غربيّ العراق ، إنطلقت منهما طائرات التحالف بيسر وسهولة ، لتصبح بغداد وضواحيها ضمن مداها دون الحاجة الى طيران يستغرق وقتاً طويلاً ، وبكامل الحمولة من القنابر.

التقدم السريع
مما لا شك فيه أن القطعات الحليفة التي إقتحمت “العراق” كانت بمجملها إمّا مدرعة أو في متن عجلات قتال مدرّعة أو هي محمولة جوّاً بالهليكوبترات أو بطائرات النقل التعبوي (C-130) ، وذات قابلية حركة واسعة ومرونة مشهودة – وكلاهما مبدأ من مبادئ الحرب – … ولما كانت المناطق الجنوبية والوسطى من العراق سهلة ومنبسطة محدودة الموانع الطبيعية ، فإنها صالحة لإستخدام الدبابات والمدرعات والعجلات العسكرية المصمّمة للعمل خارج الطرق في جميع مواسم السنة ، والتحرك السريع في معظم الإتجاهات وعلى جميع المحاور ، لا سيّما وأن الغزاة وقّتوا عملياتهم مع حلول موسم الربيع الذي يندر هطول الأمطار في جنوبيّ العراق.

وأُضيف الى تلك الخاصّية الطبيعية ، إكتفاء القطعات العراقية بالتمركز داخل مراكز المدن والأقضية الكبيرة ، وعدم فرزها أية قوات لحماية الطرق الخارجية بتسيير دوريات آلية أو زرع نقاط ثابتة وتهيئة كمائن بغية إعاقة المتقدمين عليها ، وعدم إنشاء موانع اصطناعية عليها أو تخريب الطرق والجسور في نقاط مؤثرة وحسّاسة تعيق إندفاع الخصم ، أو تفرض على قطعاته الأرضية وأرتاله الإدارية تأخيراً أو جهداً مُضافاً… ولذلك فقد تمتّع المتعرّضون بكامل الحرية في تقدمهم من أقصى الجنوب وصولاً الى أواسط البلد، وحتى عند تحقيقهم التماس مع وحدات الحرس الجمهوري ومواجهتهم مع القوات المدافعة في الأماكن القريبة من العاصمة أو في ضواحيها.

وما يجدر ذكره في هذا المجال، أن القوات المتحالفة – وخصوصاً الأمريكية – قد وضعت نصب عينيها جميع الخبرات العسكرية المتراكمة ، والمسطّرة في محاضرات كليات الأركان والقيادة والمؤسسات التعليمية العسكرية العليا ، من المبادئ التي ينبغي مراعاتها في التقدم ، لتكون على أقصى ما يمكن من السرعة ، وقد يكون أهمها:- “المعلومات الجيدة ، الإسناد الجوي ، المباغتة ، إِدامة الزخم ، التوجيه الواضح ، ردّ الفعل السريع ، توازن القوة ، التعرض المستمر ، وتأمين الشؤون الإدارية (اللوجستية)”.

التخطّي وقبول المجازفة
يُعرّف ((التخطّي)) كونه :- “ترك القوة المتقدمة لموقع/ مواقع دفاعية معادية وجعلها تحت الرصد ومشاغلتها بنيران أسلحة ذات مديات مناسبة ، والاستمرار نحو الهدف التالي” … وقد تَوَفَّقتْ قوات التحالف المتوغِّلة بأرض العراق منذ فجر يوم (20آذار/مارس 2003) في إتباع هذا الاُسلوب ، وذلك بترك ميناء “أُم قصر” جانباً ، والإندفاع نحو “الزبير والبصرة” قبل أن تتوجّه القوات الأمريكية مباشرة نحو “الناصرية” ثم”السماوة” ، وصولاً الى “النجف وكربلاء” ، جاعلةً جميع تلكم المدن تحت الرصد ونيران الدبابات والمدرعات عن بُعد ، فضلاً عن الطيران ، مُتَخَطِّيَةً إياها في غضون الأيام الأولى نحو المناطق الغربية من “بغداد”.

واذا كانت القيادة العامة العراقية ، وكذلك القيادات العملياتية ، قد إطّلعت على اُسلوب” القَفْزات” الذي مارسته القوات الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية في أكثر من جبهة قتال ، وخصوصاً في الشمال الأفريقي وأوربا حيال القوات الآلمانية المعروفة بكفاءتها ، وكذلك في حرب “كوريا” (1950 ـ 1953) وغيرها ، لما تفاجأت بوصول الغزاة الى “النجف وكربلاء” خلال أربعة أيام.

أما ((المجازفة)) فقد تَجَلَّتْ في ترك خطوط المواصلات ، بواقع مئات الكيلومترات من أرض جنوبي “العراق” ، من دون حماية مؤثرة … ولكنها ، بالوقت نفسه كانت مجازفةً محسوبةً ، لكون تلك الطرق كانت تحت الرصد الجوي من جهة ، فضلاً عن تسيير دوريات آلية عليها من جهة ثانية ، وتوفر معلومات شبه مؤكدة لديها بأن المدافعين عن المدن لربّما لا يتركون مواضعهم خارجين عنها لمواجهة أعدائهم ، حسبما تنص عليها الأوامر المركزية المشدّدة الموجهة الى قياداتهم المحلية.

التدمير الهائل
إضافةً الى الدقّة المتناهية في ضرب الأهداف الإستراتيجية ، والقصور الرئاسية ، والقيادات العليا الميدانية ، بذلك الشكل المُريع الذي شاهده الكثير من العراقيين المدنيين ، ناهيك عن العسكريين ، فقد تَعَرَّضَتْ الفرق البرّية ـ ونخصّ منها تلك التابعة لقيادات الحرس الجمهوري المتمركزة في ضواحي “بغداد” – لقصف ثقيل بمعدلات شبه يومية ، بإستخدام القاصفات الثقيلة (B-52 … B-1 … B-2) لقنابل غير مسيّرة من زنة (3 طن، 7 طن) ، ووصولاً الى القنبلة الكبرى المسمّاة ( اُم القنابل ـ MOTHER OF BOMBS) بوزن (5,9 طن) ، والتي صمّمت بشكل خاص ليجرّبوها في هذه الحرب … فقد كانت الواحدة منها – حسب أقوال عدد من ضباط الحرس الجمهوري – تُخْرِج بتأثير عَصْفِها والحرارة الهائلة الناتجة عن إنفجارها ، جحفل معركة متكامل مؤلف من عشرات الدبابات والمدرّعات وعجلات القتال وبصحبتها عدد من مدافع الميدان ومقاومة الطائرات عن ساحة المعركة بِقَصْفَةٍ واحدة ، تاركةً إياها مجرد أكوام من الحديد والصُلب المحترق ، مصحوبة بتهرّؤ أجساد العشرات من مقاتليها داخل مركباتهم ، أو إصابتهم بجروح وحروق بالغة ، في حين تتفجّر أعتدتها المُكدّسة وسط المواضع تباعاً وبشكل متلاحِق ، جاعلةً الجنود الذين سلموا على حياتهم يهربون من حولها ، ومن دون أن يعود معظمهم الى ساحة القتال مجدداً.

أما أسلحة العراقيين الثقيلة التي لم تدمّر أبدانها بحكم القَدَر ، فإن معدات التسديد والتوجيه المنصوبة عليها تَكَسَّرت، أو تهرّأت أجزاؤها الزجاجية (العدسات) أو غير المعدنية، ما جعلها غير قابلة للإستعمال بعدئذٍ مطلقاً.

ولذلك ، بلغت القدرة القتالية – من جراء القصف الجوي لوحده وذيوله وتأثيراته النفسية من بعده – لعدد من فرق الحرس الجمهوري المنتشرة في ضواحي “بغداد” أقرب ما يكون الى “الصفر” ، أو أنها أمست لا تزيد عن 15% في أفضل الوحدات … ممّا جعلت المحاور الرئيسة أو الثانوية المتجهة نحو العاصمة مفروشة أمام القوات الأمريكية المتقدمة عليها بأجزاء متناثرة أو أبدان عجلات ومدافع متروكة من بقايا الحرس الجمهوري … لقد كانت حرباً غير متكافئة بالمرّة.

آمال “صدام حسين” الوردية
إعتمد نظام الرئيس الراحل “صدام حسين” – كعادته في معظم المواقف السابقة وطيلة عهده – على إشاعة آمال غير منطقية وبعيدة عن الواقعية والظروف الموضوعية في نفوس الجنود والضباط ، ولربّما تأسيساً على ما كان بعض المتزلّفين من القادة الحزبيّين والعسكريّين والإداريّين يعرضونه أمام الرئيس من عبارات وهتافات وأهاريج – قِيلَتْ أنها ضمن “سيناريو” كان مُهَيّأ سلفاً ، وقد دُرِّبُوا على تفاصيلها – وتُعْرَض على شاشات التلفزيون أمام الشعب العراقي والعالم أجمع.

ولكن كان هناك حقيقة أنكى من ذلك ، فقد نَقَلَ “قصي صدام حسين” – القائد الأعلى المعيّن لقطعات الدفاع عن “بغداد” – في حديث خاص له أمام قادة الحرس الجمهوري وضباط الركن الأقدمين:-
((القيادة العامة للقوات المسلحة قدّرَت الموقف الإستراتيجي وتوصّلت الى ما لا يمكن أن يقبل الشك ، بأن قوات العدوان لا يمكن أن تتقرب الى ضواحي العاصمة إلاّ خلال مدّة لا تقلّ عن (ستة) أشهر، حيث أن كل مدينة جنوبية ، بدءاً من “البصرة” ثم “الناصرية” و “العمارة” و “السماوة” و “النجف” و “كربلاء” و “الكوت” و “الديوانية” ، “الحلّة” ناهيك عن الأقضية والنواحي ، سوف تقاوم الأعداء – كل بمفردها وبشكل متلاحق – فترة تتراوح بين (15-30) يوماً ، في قتال ضروس وسط المباني والشوارع … وذلك ما سَيُحَسِّن من موقف العراق الدفاعي ويقوّي سمعته على مستوى العالم أجمع ، ممّا يُسْنِح الفرص لتدخّل دول عظمى أمثال “روسيا الإتحادية ، فرنسا ، الصين ” فضلاً عن “آلمانيا” ودول اُخرى ذات ثقل سياسي عالمي ، بغية إيقاف الحرب ، ليس لسواد عيون العراق فحسب ، بل لمصالحها الذاتية والنفطية والإقتصادية)) .

كل ذلك قبل أن يضيف قائلاً :-
((المهمّ ، أن المنتصر في هذه الحرب ، هو الذي يستطيع أن يقف على قدميه في أرض “بغداد” )) ؟؟.

ولا نزعم القول بأن كل أولئك القادة وضباط ركن الحرس الجمهوري ذوي المناصب العالية – والعديد منهم كانوا من ذوي خبرة وبصيرة عسكرية وبعد نظر – قد صدّقوا ما تفوّه به ذلك الشاب الذي لربّما أصابه الغرور عندما وجد نفسه قائداً مسؤولاً وتحت إمرته العديد من ذوي رُتب الفرقاء والألوية الركن ، ومسؤولاً عن أهمّ منطقة حسّاسة من العراق ، ونقلوه الى مرؤوسيهم … ولكن حتى إذا كان بعضهم قد رَاقَهُ ذلك ، أو إطمئن إليه ، أو تمنّاه في قرارة نفسه ، أو اُجبر على نقله الى الآخرين خشية العقاب والمراقبة الشديدة ، فإن ذلك تَسَبّبَ بتأثير بالغ في نفوس الكثيرين وجعلهم غير مبالين ، بل ومطمئنّين كثيراً خلال الأيام أو الأسابيع الأولى من الحرب …
ولذلك أيضاً- وإستناداً الى ضابط برتبة “عميد ركن” جلستُ معه في مسكني لأربعة أيام متتالية بعد إنتهاء الحرب – ذكر حقيقةً مفادها ، أن الإرتباك الذي حصل في “رئاسة أركان الحرس الجمهوري” ، منذ اليوم الرابع من الحرب ، حينما وصلت المعلومات المؤكدة إليها بأن الأمريكيين قد باتوا في صحراء “النجف وكربلاء” ، وخصوصاً عند معرفتهم بالتماس الذي حصل في ناحية “ذي الكفل” ، كان بمثابة ” القشّة التي قصمت ظهر البعير ” ، إذ ساد التخبّط جميع شُعَب وأقسام تلك القيادة ، وجعلها ترتبك في أوامرها وتوجيهاتها ، مما أفقدها السيطرة المطلوبة والمتأنّية على قطعاتها المنتشرة حوالي “بغداد” ، والى تحريك فرق وألوية دون داعٍ ، وتحت رحمة قصف الطائرات الحليفة .

وصدق الرسول العظيم “محمد” – صلى الله عليه وسلّم – حين قال “إنْ كان عدوّك فأراً ، فإحْسِبْهُ أسداً ” ، في عبارة حكيمة تشير الى ضرورة عدم الإستهانة بالأعداء حتى إن كانوا ضعفاء .
الإتصــالات
يعتبر صنف “المخابرة/ الإتصالات” بمثابة العمود الفقري لأي جيش ، كونه المسؤول عن تأمين الإتصالات السلكية واللاسلكية ، والتي بدونها فإن من الصعوبة بمكان تسيير الاُمور وإيصال الأوامر بسرعة وتحقيق القيادة والسيطرة على القيادات المرؤوسة ، وفي الوقت المطلوب.

وقبل إندلاع الحرب ، أصدرت القيادة العامة العراقية توجيهات مُلزِمة بضرورة تطبيق “الصمت اللاسلكي” على الأجهزة اللاسلكية التي عليها وأن تبقى مفتوحة بشكل متواصل للإستماع ليس إلاّ ، على أن لا يُسمَح بالتحدث خلالها مطلقاً الاّ عند الحاجة القصوى ، وخصوصاً إذا ما بدأ التماس المباشر مع العدو وحدثت المواجهة ووقعت المعركة في مكان ما.
ولكن الذي حصل في هذا الشأن ، أن التشويش الألكتروني على جميع الأجهزة اللاسلكية المفتوحة ذات المديات البعيدة والمُتاحة لدى القيادات العليا ، قد جعل منها مجرد كتلة من اللدائن والمعادن ، لا تُجدي نفعاً يذكر … أما من شغّل جهاز اللاسلكي – قصير المدى – ، ولم يَنَلْهُ التشويش ، فقد قُصِفَ بعد دقائق من فتحه والتحدث به …. أما الذين إنتبهوا الى تلك الحقيقة ، فقد آثروا السلامة وتركوها مُغلَقةً ، لذلك ، فلم يَبْقَ في الساحة سوى الإتصالات السلكية المعتمدة على هواتف البدالات المحورية (الخاصة) ، أو المدنية الإعتيادية … ولكن ، ومع اليوم الثاني من الحرب ، اُستُهْدِفَتْ بدءاً من المدن الجنوبية ، ووصولاً – مع توالي الأيام – الى المحافظات الوسطى فـ”بغداد” ، حيث لم تَبْقَ (عقدة إتصالات محورية) أو (بدالة مدنية) سالمة عند تقرّب الغزاة من العاصمة.

وكان هناك الهواتف النقالة (ثريا) ، والتي جُهِّزَتْ بها القيادات العليا وبعض ضباط رئاسة أركان الحرس الجمهوري بها حصراً ، ولكن حالها لم يكن أفضل من أي جهاز لاسلكي تمّ تشغيله … والأنكى من ذلك ، فإن الهاتف النقّال كان – بحكم بثّه لذبذبات كهرومغناطيسية – يُرشد الطائرات الحليفة نحو أي موقع ذي أهمية بالغة يعمل فيه ، ولذلك اُقْفِلَتْ جميعاً شيئاً بعد شيء ، لتبقى القوات المسلحة العراقية دون إتصالات سلكية أو لاسلكية ، معتمدة – عند تقرّب الأمريكيين الى ضواحي “بغداد” خصوصاً – على ضباط إرتباط وجنود معتمدين لإيصال الأوامر الى المرؤوسين أو المعلومات إلى القادة الأقدمين ، والتي من جراء التأخير الذي يفرضه هذا الأسلوب الشبيه بأساليب العصور القديمة ، وصلت اُمور الحرب لدى الجانب العراقي الى النكبة أكثر من أي شيء آخر.

التعاون
يعتبر التعاون المبدأ التاسع من مبادئ الحرب العشرة ، بل ويفرض نفسه في جميع صفحات القتال التعرضية منها والدفاعية (التقدّم ، الهجوم ، الدفاع ، والإنسحاب) على حدّ سواء ، ويعني أن يُساند صنف من القوات المسلحة صنوفها الاُخرى بغية تَوَخّي الهدف المُبْتَغى بأسرع وقت وأقل جهد وأدنى التضحيات والخسائر ، ويتجلّى كثيراً في صفحة (التقدم) لتأمين السرعة بشكل خاص.

ولا يمكن – بطبيعة الحال – أن نستغرب أو نُفاجَأ بإتباع القوات المسلحة الأمريكية والبريطانية لهذا المبدأ ، إذ لهما تأريخ حروب طويلة وقاسية وخبرات متراكمة ، من ضمنها الحربان العالميتان الأولى والثانية وحروب إستعمارية لا تعدّ ولا تُحصى ، وإستعدادهما المطلوب لخوض القتال في أية ساعة ، وخصوصاً ضمن حلف (ناتو) وعلى مدار السنة خلال “الحرب الباردة” ، وخوضهما لأكثر من حرب محدودة في بقاع عديدة من العالم .

كما لا نستصغر من شأن القوات المسلحة العراقية التي اُقحِمت أو أُضطُرّت فمارست قتالات متنوعة من خلال حروب متنوعة ، داخلية كانت أم نحو الخارج ، بدءاً من عقد العشرينيات ، ووصولاً الى “حرب فلسطين” (1948) ، وحرب حزيران (1967) ، وحرب تشرين (1973) ، وتوَّجَتْ بثلاث حروب (1980-1988 ، 1991) قبل أن تقحم في هذه الحرب الأخيرة ، وغير المتكافئة في معظم وجوهها.

وقد تأتي على رأس قائمة متطلبات تطبيق مبدأ “التعاون” ، كل من التدريب المشترك المُتْقَن بين صنوف القوات المسلحة ، وتوفّر المعلومات ، والإتصالات الجيدة والأمنية ، وقد كانت متوفرة تماماً لدى القوات الغازية ، على عكس القوات العراقية للأسباب الآتية :-

حرمانها من التدريب المشترك بعوامل عديدة خلال سنوات الحصار (1991-2003) ، والفساد الذي دبّ في صفوفها ، وإنشغال قادة العراق ، مدنيين وعسكريين ، بأمن النظام كأسبقية اُولى ، ولربّما وحيدة ، وتخصيص القطعات العسكرية لهذا الغرض ليس إلاّ .

محدودية المعلومات عن الغزاة ، وخططهم العملياتية والتعبوية ، وأساليب أعمالهم الميدانية ، والتي وإن كانت القيادات العراقية العليا ربما على إطلاع سطحيّ حولها ، فإنها لم تبلّغ الى القيادات المرؤوسة لأسباب أمنية ومعنوية ، وذلك الديدن المخطوء للنظام في عموم عهده ، وحتى خلال الحرب مع “إيران”.

أما الإتصالات السلكية واللاسلكية فقد كانت شبه معدومة منذ الأيام الأولى من الحرب، كما فصّلناها في عنوان سابق من هذا البحث.

إذاً ، فالقوات الغازية سارت بأقصى سرعتها نحو أهدافها الثانوية ، قبل التقرب نحو “بغداد” بكل كفاءة ، وتعاونت الدبابات والمدرعات مع المشاة المتنقل في عجلات القتال وناقلات الأشخاص المدرعة ، تحت مظلة جوّية فعالة على مدار الساعة ، وبحماية قريبة حققتها السمتيات الخاصة لكل كتيبة مدرعة أو فوج مشاة آلي ، وبمدفعية ذاتية الحركة تؤمّن الإسناد الناري خلال دقائق عند حصول أية مواجهة على طريق التقدم .. وبتدابير إدارية من وقود وأرزاق وماء ، وإمكانات إخلاء الجرحى والمرضى فوراً ، وتصليح وإنقاذ وإخلاء للعجلات والأسلحة المعطوبة.

ولدى الطرف المُدافع عن وطنه العزيز، كانت الاُمور مقلوبةً رأساً على عقب ، وخصوصاً لإنعدام الإتصالات ، والإعتماد على أبطأ وسائلها الممثلة بـ”ضباط الإرتباط والجنود المعتمدين” ، ليس بمستوى القيادات العليا فحسب ، بل لدى القيادات الأدنى ، ووصولاً إلى الوحدات (الأفواج والكتائب) والوحدات الفرعية ( السرايا والبطريات والفصائل والرعائل) ، وليسمح لي القارئ الكريم في أن أسرد له أمثلة ثلاثة:ـ

* فالمعلومات – في حالة توفرها لدى القيادة العامة للقوات المسلحة ، والتي لم يستطع حتى ضباط الركن الأقدمون لدى رئاسة أركان الحرس الجمهوري معرفة أماكنها (لأغراض أمنية) – لم تكن التوجيهات الخاصة بمعالجتها لتصل إليهم سوى باُسلوب الإرتباط اليتيم والعقيم ، وبعد مرور ساعة واحدة أو ساعات عديدة على وقوعها ، إذ تكون محدودة / عديمة الفائدة ، لأن القطعات الأمريكية المتقدمة كانت قد تركت ذلك الموقع الذي حدث فيه حادث معين يتطلب ردّ فعل سريع أزاءه … وذلك ماسَرَّهُ لي أحد ضباط الركن (برتبة عميد ركن ) في تلك الرئاسة.

* بينما تحدث لي ضابط من وحدات الحرس الجمهوري كان يشغل منصب آمر بطرية مدفعية ميدان في منطقة (الحصوة) ، أن مدافعه المسحوبة من عيار (130 ملم) وذات زنة (7أطنان) ، لم تُجَهَّز سوى بساحبات مدنيّة غير قادرة بسهولة على التحرك خارج الطرق … فإنه كُلِّفَ أكثر من مرّة بأن لا يرمي قنابله من موضعه الأصلي ، بل عليه أن يحرّك (واحداً) منها فقط الى موضع بديل ليقصف بـ(ثلاث) قنابل فحسب موضعاً قرب بلدة (المسيّب) لوجود معلومات تفيد بأن عدداً من الدبابات أو المدرعات الأمريكية شوهدت متمركزة هناك منذ الصباح ، بينما كان وقت الواجب بعد الظهر!!؟؟

* وعبّر ضابط آخر شغل منصب آمر بطرية مقاومة طائرات في منطقة قريبة من سدّ (حديثة) ، أنه لم يتسلّم أي أمر من موقع قيادة الكتيبة لفرض (الصمت اللاسلكي) ، ولم تكن لديه ـ وكذلك باقي البطريات ـ أية معلومات عمّا يجري في ميادين الحرب إلاّ عن طريق الإذاعات الأجنبية والعربية ، حتى شاهد طائرات أمريكية عديدة في تلك الأجواء في اليوم الخامس عشر للحرب !!!؟؟؟

وإذا كان الأمر كذلك ، فلا أقول إلاّ عبارة ((قِسْ على ذلك)) … فمن أين يمكن تأمين التعاون؟؟

الإيمان بهدف الحرب
مما لاشك فيه ان قادة وضباط وجنود القوات المسلحة العراقية يفترض بهم أن تكون معنوياتهم ورغبتهم في القتال على أعلى درجاتها ، كونهم يدافعون عن أرضهم وشعبهم وأفراد عوائلهم حيال غزاة جاؤوا من على بعد آلاف الأميال ليحتلوا “العراق” … ولكن إيمان غالبيتهم العظمى بهدف الحرب قد تدنّى لأسباب مهمة آتية:ـ
* تواصل خوضهم لأكثر من حرب ، إما الأهداف غير مُقنعة ، وإن كانت قد تحقّقت بشكل أو بآخر، فان النظام قد تراجع عنها لاحقاً ، مثلما حدث بعد إنتهاء الحرب مع “إيران” ، أو فور الإنسحاب القسري من “الكويت” وخلال سنوات الحصار.

* الخطاب الإعلامي العراقي الذي كان يركّز على شخص الرئيس الراحل “صدام حسين” من دون “العراق” ، إذ ترسّخ لدى المقاتلين ـ كما حال الشعب عموماً ـ أنهم لا يدافعون عن البلد والمبادىء والقيم ، إنما عن نظام الحكم ليس إلاّ.

* الفساد الإداري والمحسوبية والرشاوى التي إنتشرت بعمق في التشكيلات العسكرية ، والتي جعلت التقاليد والأنظمة والتعليمات والضبط العسكري شبه معدومة.

* إنعدام تواجد أفراد من مدينة أو أقضية أو نواحٍ محددة ، أو من أولاد ذوي النفوذ والجاه والأموال لدى الوحدات العسكرية المقاتلة ، وتنسيب اولئك حصراً للخدمة في قيادات عليا أو أجهزة أمنية حفاظاً على حياتهم ، مما تسبّب في نفس الجندي الإعتيادي أنه مقْحَمٌ نحو الموت دون بعض الذين يُنْظَرُ إليهم بشكل آخر.

* إزدواجية القيادة في التشكيلات والوحدات على السواء ، بين قائد عسكري لا يمتلك إلاّ صلاحيات محدودة ، وبين قائد حزبيّ (سياسي) يمتلك جميع الصلاحيات ، والتي يستطيع بممارستها تحجيم دور الأوّل في معظم مناحيه.

* تأثير وسائل الإعلام الأمريكية والبريطانية معاً على نفوس العراقيين ، قبل بدء الحرب ، بأن قوات التحالف آتية إلى بلدهم مضحّية بأرواح جنودها لأجل ((تحريرهم)) من نظام شموليّ ، وان حياتهم القادمة ستكزن أشبه بجنّة الفردوس ، و سوف يتمتعون من خلالها بالحرية والديمقراطية والتعدّدية بعد أن تخلّصهم من الأجهزة الأمنية والقبور الجماعية والمشكلات القائمة مع دول الجوار … وأثناء الحرب عن طريق إذاعة محمولة على طائرة نقل تُبَثُ منها التوجيهات والترغيبات طيلة (24) ساعة ، مصحوبة بقذف ملايين النشريات التي تنصح الجنود بترك السلاح وعدم المقاومة والتوجّه الى أفراد عائلاتهم الذين ينتظرونهم ، وفضلاً عن ((بطاقات مرور)) يستطيع حاملها عبور أية نقطة سيطرة أمريكية من دون أن يتعرض إلى أي أذى … ولما كانت الإتصالات ـ كما ذكرناـ معدومة مع القيادات العليا ، فإن تأثير تلك النشريات والبطاقات كان مدمّراً للمعنويات ، وحافزاً كبيراً نحو ترك القتال ومؤاثرة السلامة الشخصية ، وتفريغ الوحدات المقاتلة من معظم جنودها ، حيث لم يَبْقَ في العديد من الوحدات والتشكيلات الميدانية سوى عدد من الضباط وبعض ضباط الصف.

إستهداف “بغداد”
لقد سجّل تأريخ الإستراتيجية اُسلوب إستهداف رأس الدولة لصالح “جنكيزخان”مؤسس الإمبراطورية المغولية ، والذي إتّبعه خلال محوه لثلاث إمبراطوريات كبرى (الصين ، قره خطاي ، والدولة الخوارزمشاهية) ، وذلك بتشكيله “قوة فرسان خاصة” للمرة الأولى في تأريخ الحروب ، تترك ساحة المعركة الكبرى الدائرة بين الجيش المغولي وخصمه ، وتتخطى مدناً كبيرة وصغيرة ، وتطوي مئات الأميال ، متّجهة بشكل مباشر نحو عاصمة العدو حيث الإمبراطور أو السلطان الخصم ، مباغِتَة إياه في عقر قصره وعرشه ، وتضطره إما لقبول القتال والموت ، أو الفرار إلى موقع آخر ، فتطارده تلك القوة حتى نهايته ، إذ بموته أو غيابه عن الأنظار يتهرّأ العرش وتتفكّك أوصال الدولة.

وبينما توقّعت القيادة العراقية قصفاً جوياً حليفاً تستغرق بضعة أسابيع ، كالذي حدث في حرب الخليج الثانية (1991) ، فقد إتبع الأمريكيون إستراتيجية “جنكيزخان” تلك ، لعلمهم أن هناك شخصاً واحداً في “العراق” يمسك بقوة بجميع نهايات الخيوط على مستوى الدولة والحزب والقوات المسلحة ، والذي إذا تمّ إزاحته بأية طريقة كانت ، فإن غاية الحرب سواء بإسقاط النظام أو إحتلال “العراق” يمكن تحقيقها بأسرع وقت وأدنى جهد ، وبأقل التضحيات والخسائر.

وهكذا، رأينا منذ فجر يوم (20/3/2003) ، وقد إنهمرت حزمة من مقذوفات كروز (توماهوك) على أحد قصور الرئيس”صدام حسين” ، والذي أشارت معلومات شبه مؤكدة بعدئذٍ أنه كان عاقداً لإجتماع فيه ، وقد تركه قبل (20) دقيقة من موعد القصف !!!
فيما تواصلت عمليات شبيهة لذلك بطائرات تحمل مقذوفات غاية في الدقة خلال بعض أيام الحرب ، وصولاً الى صبيحة يومها الأخير في حيّ “المنصور” ، حيث لم يجد الرئيس العراقي ـ مع أعضاء قيادته السياسية والعسكرية العليا ـ راحة بال أثناءَها، متنقلاً من مسكن مهّيأ الى آخر جاهز مسبقاً ، وقد أدّت تلك التنقّلات المتلاحقة الى الحدّ من إمكانية قيادة البلاد والسيطرة على القوات المسلحة وإصدار التوجيهات والوصايا بهدوء وتَرَوٍّ لمعالجة اُمور الحرب على المستوى الاستراتيجي.

وقد صاحبت تلك عمليات جوية وصاروخية إستهدفت تدمير منشآت بغداد وبعض المدن الكبرى والتي تخدم المجهود الحربي ، من مصانع ومعامل التصنيع العسكري وبدالات الهواتف المدنية ومواقع الإتصالات ومباني القيادات الحزبية والأمنية ومحطات توليد الطاقة الكهربائية ومصافي النفط ، ناهيك عن القواعد الجوية والمعسكرات والثكنات العسكرية التابعة للجيش العراقي والحرس الجمهوري والحرس الخاص وغيرها.

تلك من ناحية ، ومن ناحية اُخرى ، وكما سردنا ذلك في يوميات الحرب خلال الصفحات الأولى من هذه الدراسة ، ذلك الاُسلوب الذي إتبعه الأمريكيون في (تجميد) القوات العراقية المتمركزة في مدن المنطقتين الجنوبية والفرات الأوسط بقوة صغيرة – مدرعة أو آلية – مسندة بالطائرات المقاتلة /هجوم أرضي والسمتيات المسلحة ، وتخطّيها لإياها متوجهين بـ (القسم الأكبر) منها نحو ضواحي “بغداد” قبل إقتحامها ، مع قبول المجازفة بترك خطوط مواصلاتهم البالغة مئات الكيلومترات بحماية محدودة نسبياً، مكتفين بالإعتماد خصوصاً على الطيران غير المردوع.

تصرفات القيادة العليا
لم يتصرف القادة في التأريخ البعيد والقريب والمعاصر شبيهاً لما تصرّف به قادة نظام الحكم في “بغداد” بإتباع طريقة غير مسبوقة في قيادة البلد ، حين تركوا قصور قياداتهم الأصيلة ومبانيها العامرة ليستقروا في دور مجهّزة بين أحياء مكتظّة بالسكان ، وكذلك عملت القيادات العسكرية العليا والحرس الجمهوريّ ودوائر وزارتي الدفاع والداخلية والأجهزة الأمنية ووحدات الحرس الخاص المسؤولة عن ضبط الاُمور في “بغداد” ، وقلّدهم في ذلك الوزراء المدنيّون والمحافظون وقوات الطوارئ المرتبطة بهم ، وفصائل “فدائيو صدام” – بأوامر جازمة من القيادة العليا – ، حتى أمسى العديد من أحياء العاصمة والمدن الكبرى مليئة بما سمّيَ بـ “المواقع البديلة” مما صعّد من مشاعر المدنيين السلبية على قادة النظام وتصرّفاتهم بجعلهم دروعاً بشرية وأهدافاً للطائرات المعادية والصواريخ.

وجاءت النهاية أنكى من ذلك ، فحالما تبيّن أن “بغداد” على وشك الإحتلال ، وبدلاً من إلتزام أولئك بمواقعهم والقتال فيها والإستشهاد في سبيل الوطن ، فقد تركوها سائبة وهرب بعضهم إلى خارج العراق ، فيما صَفَى آخرون دور سكناهم أو إتجهوا الى ما لا يمكن أن يجلب الأنظار من بيوت أقربائهم في “بغداد” أو في بعض من مدن الوطن وقراه وكأنهم كانوا قد خطّطوا لذلك مسبقاً ، ولربّما قبل إندلاع الحرب ، وقبل أن يستسلم معظمهم إلى سلطات الإحتلال تباعاً ، وذلك ماكان الغزاة يتمنّونه … فساب البلد أمام الإحتلال البغيض ، فإصطفّ الرعاع وزعماء العصابات الإجرامية إلى جانب الغزاة ، وأمسوا هم سادة الشارع العراقي ، فإنتشرت أعمال السلب والنهب والحرق والتدمير والقتل بالجملة لأبناء العراق ولغاية يومنا هذا.