“اكتبي لي.. لماذا لا تكتبين؟”، “أريد أن أقرأ منكِ!”، “أرجوكِ، اكتبي لي”. هذا ما قرأناه -تقريبا- واعتدنا على نمطه في كل رسالة من رسائل غسان كنفاني لغادة السمان. تذلل وتجسيد معاناة مشاعر قوبلت بالبرود، بالتجاهل، بعدم الاهتمام الذي لا يتناسب مع ما كان يُحاول غسان أن يخطه أو يخفيه بين السطور. وعلى الرغم من أننا لم نقرأ الحقيقة كاملة، أي ردود غادة عليه، فإن الطابع العام لرسائله يشي بعظيم حُبه وتوسله الذي لم تُبادله إياه غادة. فقد كتب لها صراحة أنه يعلم نظرة أصدقائه ومن حوله للحب الذي يفيض منه لها،
الحب، والبحث عن النصف الآخر، فكرة تتصاعد في سلم الألحان والأنغام، وتتراقص في أبجدية الأشعار والكتابات والخطابات الغزلية، وتتمازج في ألوان اللوحات. لقد كان للفلاسفة آراء ومفاهيم في الحب (1)، رأى أفلاطون (2) أن الباحث عن الحب هو نصف يبحث عن نصفه الآخر، أما سُقراط فيُعطي الحب رفعته ومكانته المُقدسة، ويرى أن الحب الذي ينتهي لم يكُن حبا من الأساس. ويتفق مع هذا رأي ابن حزم الأندلسي، إذ يقول في كتابه “طوق الحمامة في الألفة والألاف”: “كل أجناس الحب التي تقوم على المنافع الحسية سرعان ما تزول وتنقضي بانقضاء عللها، إلّا محبة العشق الصحيح المتمكن في النفس فهي لا فناء لها إلّا بالموت”. ويقول أرسطو: “الحب علاقة تُعبر عن جسدين بروح واحدة”. كل هذه المفاهيم والتعريفات لرؤى الفلاسفة والأدباء عن الحب، وتبرير عذابه، هل نجد من بينها ما يُعرّف الحب من طرف واحد؟ وهل يمكن اعتباره حبا من الأساس؟
يتعلق بشخصية الفرد نفسه، فقد تكون له تركيبة نفسية تجعله -دون قصد- يقع في هذا النوع من العلاقات، مثل الشخصية القلقة التي يُعاني أصحابها من القلق والارتياب نحو علاقاتهم بشكل عام، وأيضا الشخصية المُترددة غير القادرة على أخذ القرارات بصورة فردية. أن الحُب من طرف واحد من الممكن أن يكون مرحلة من مراحل تطور الحب مكتمل الأركان. أن للحب ست ركائز: التبادل، الوفاء، الأُلفة أو الأُنس، الاستمرارية، الثقة، والاهتمام. وأي نقص لواحد من هذه العناصر يعكس نقصا في العلاقة أساسا، أي: حُب ناقص. وبالقياس على “الحب من طرف واحد”، فالنُقصان جليّ وواضح، لأن صفة التبادل غائبة، كما يغيب الاهتمام الذي يبذله طرف واحد للآخر دون أن يستقبل ما يُماثله. وكذلك الأمر بالنسبة للاستمرارية، “يُمكننا أن نخلُص إلى أن الحب من طرف واحد هو علاقة حب غير مكتملة الأركان (ناقصة).
كيف يُمكننا أن نُعرّفه أو نفهمه، وما إذا كان حُبَّا حقيقيا من نوع خاص، أم أنها مشاعر تختبئ تحت مفهوم آخر غير الحب؟
لاستعراض تركيب هذا الشكل من الحب، والأسباب التي تصل بالفرد ليجد نفسه في علاقة حب من طرف واحد، حيث يشير أن السبب الأول يُعزى إلى اختلاف التطلعات بين الطرفين، فمن المُمكن أن يكون أحد الأطراف مُتطلّعا لانتهاء هذه العلاقة بالزواج، بينما يرى الآخر أنها علاقة مقدّرٌ لها أن تنتهي. فتباين التطلعات بين أطراف العلاقة من شأنه أن يُنشئ بوابة تجعل تدفق المشاعر من طرف ينساب بطريقة أكثر كثافة من الآخر. وينتقل بعدها للسبب الثاني؛ وهو توق الطرف المُحب للمزيد من المشاعر، البوح، المصارحة من الطرف الآخر. أي أنه يُحاول جاهدا لتثبيت واحدة من الركائز التي سبق ذكرها، فيُطلب المزيد من الاهتمام، وتبادل المشاعر، بينما يختار الطرف الآخر التحفظ على مشاعره، أو السير بوتيرة أبطأ نحوه.
ان الحُب من طرف واحد لا يُخلق بلحظة، ولكنه يتدرج مرورا بعدة مراحل، التي يُمكن اعتبارها أسبابا مُساهمة في نشوء علاقة كهذه:
* وجود تواصل مُستمر بين الطرفين، وقد لا يكون التواصل بهدف بناء علاقة عاطفية، بل لسبب آخر.
* يتطور هذا النوع من التواصل ليؤثر على طرفَيْ العلاقة، مثل السيطرة على السلوك، حيث يؤثر سلوك طرف على مشاعر الآخر.
* الاختلاف بين الطرفين الذي يجعل تبادل المزايا بينهما أمرا مرغوبا.
* أخيرا، طول مدة التواصل
هذه المراحل تُنشئ بين الطرفين اتفاقا ضمنيا ينص على ضرورة الحفاظ على هذا الاتصال، وأي تجاوز لهذا الاتفاق قد يُنشئ رد فعل عاطفيا شديدا. درس أهل الاختصاص هذه المراحل ووجدوا بأنها تُفضي إلى خمسة أنواع مختلفة من العلاقات غير التبادلية:
– الالتقاء بشخص غير مناسب: على سبيل المثال؛ حُب الطالبة لأستاذها أو الطالب لأستاذته، مما يُنشئ علاقة غير متكافئة (اجتماعيا) تماما. وبسبب عدم التكافؤ هذا، تصطدم المشاعر بحاجز يجعل الاقتراب من الطرف الآخر أمرا صعبا ومُعقّدا. وبالعادة يميل الشخص المُحب -في هذه العلاقة- لتتبع أخبار الطرف الآخر عن بُعد، لإشباع مشاعره، بل وقد يصل إلى مرحلة الرضى بهذا القدر.
– عدم التكافؤ في المشاعر: في هذا النوع تكون هناك علاقة، ولكن حجم المشاعر والعاطفة المبذولة من الطرفين لا يكون متقاربا أو متكافئا ولا متوازنا.
– عدم البوح: كأن يتعامل الشخص مع زميل أو زميلة له أو شخص مقرب ويُطوّر مشاعره تجاه الآخر دون الإفصاح عن هذا التطور. ففي ظاهرها تبدو علاقة صداقة، ولكنها تحمل في أعماقها شكلا من أشكال الحب. وبسبب أنها علاقة صداقة، وبها من القُرب ما بها، فلا يجد الشخص حاجة إلى البوح، وهو ما يُعرف بـ “الحب الأفلاطوني” ويبعد قليلا عن الحب من طرف واحد. (3) ولكن الاستمرار في تطوير مشاعر القرب والصداقة إلى حب من أحد الأطراف هو ما يمكن اعتباره حبا من طرف واحد.
– رد فعل الطرف الآخر: هذا النوع من الحب يمكن أن يُمثّل مرحلة من مراحل تطور العلاقة، إذ يُبادر طرف منهما بالإفصاح عن المشاعر التي يُكنّها للآخر، ولتنتقل العلاقة -بهذا الإفصاح- من مرتبة الصداقة إلى ما بعدها. الإشكالية هنا تتصل برد فعل المُعلن له، كأن يخجل بقوله: لا، ليُساهم حينها في بناء علاقة كهذه.
– السعي لتجديد علاقة حب قديمة: هذا النوع هو الذي يُعذب الكثير. ففي هذه الحالة، يميل الشخص لتذكر الإيجابيات التي كانت تجمعه بالطرف القديم، مما يدفعه للسعي نحو إيجاد وسيلة تُحيي العلاقة بالصورة التي كانت عليها من قبل.
إن العلماء يُسمون هذه الحالة بجاذبية الإحباط، حيث يسعى الفرد لتكرار كل المحاولات للوصول إلى مراده عبر إحياء علاقة قديمة واسترجاع حبيب قديم بكل الإيجابيات دون الالتفات للسلبيات. هذا التكرار -غير الناجح- قد يخلق مزيدا من الإحباط، ويُدخل الفرد في حلقة مُفرغة من المحاولات غير المُجدية مع الحبيب القديم، فيدخل الإنسان في دائرة إحباط شديدة تحتاج في بعض الأحيان إلى علاج مُستقل.
اليات الخروج من هذه العلاقات، حيث يشير إلى آليتين، آلية المستوى الوقائي، التي تتمثّل في وعي الفرد بطبيعة بنائه النفسي، هل هو شخص متردد في قراراته؛ بالأخص فيما يتصل بقرارات الارتباط بشخص آخر، أم أنه شخص قلق، غير قادر أن يكون ثابتا من الناحية النفسية عقب اتخاذه لقراراته؟ لأن معرفة الإنسان لتركيبته النفسية قد يُمثّل أسلوبا وقائيا هامّا جدا قبل بناء أي علاقة عاطفية مع طرف ثانٍ. وكإجراء وقائي آخر، يرتقي الشخص بنفسه عبر تحديد بعض الأهداف الشخصية أو العملية أو الاجتماعية، التي ستساعده بدورها على تجاوز أزمات عاطفية كهذه.
أما الآلية العلاجية فتنقسم إلى قسمين، الأول في بداية العلاقة: إذا بدأ الشخص بالشعور أنه يعيش هذا النوع من الحب، فعليه أن يحاول قطع العلاقة مباشرة من خلال الابتعاد حتى لا تتطور. أن أحد أسباب بروز هذه المشكلة هي الاستمرارية في التعامل مع الطرف الآخر. ومن الجيد أن يحاول الانشغال بالمشاريع الخاصة به، ويمكنه اللجوء لصديق أو شخص مقرب لإعطائه الدعم الأولي أو الاستشارة. أما القسم الثاني من العلاج فيكون في مراحل متقدمة من المشكلة العاطفية، وينقسم إلى ثلاثة أقسام:
– الجانب المعرفي: تحطيم الأفكار التي بناها عن الشخص الآخر، فإذا كان يعدُّ هذا الشخص مناسبا، أو باعتباره النصف الآخر، فعليه أن يتعمق في جذور تصوراته، حتى يصل للحظة العودة إلى الواقع، بعيدا عن الخيالات. وأن يسأل نفسه: هل يقبل بأن يحب دون مقابل؟
– الجانب السلوكي: ممارسة بعض الأنشطة الصحية (مثل: الرياضة)، هذه الممارسات تُجدد الطاقة النفسية.
– الجانب النفسي: محاولة التركيز على ما يجب فعله الآن، وعدم العيش فيما كُنّا نشعر ونتمتع به في الماضي، بل أن نعيش اللحظة الآنية، وبناء شعور إيجابي حول أنفسنا وقدراتنا، والاحتفاظ بالأمل، فخسارة العلاقة لا تعني خسارة العالم.
في بعض الحالات يكون الإنسان غير قادر على تطبيق كل ما سبق بشكل ذاتي، ويحتاج حينها إلى اللجوء لمختص نفسيّ يُساعده ويدعمه ويدفعه لإدراك نقاط قوته وبناء الأمل، وهذا كله سيساعده على الدخول في علاقة أكثر سلامة وصحية.
“كانت الكارثة كلها في الإفراط، الإفراط في الأمل، في الحب، في التوقعات، في الانتظار، في كل شيء”
للحُب سلطته وسطوته المُخيفة، فبعد قراءة كل ما سبق، يجد المرء نفسه قابلا لأن ينزلق من تحت أبواب سوء الفهم وترجمة مشاعر الغير، ومن شأنه أيضا أن يجعلنا نخاف من الدخول في علاقة حب مؤذية لم نُخطط لها، أو لم نكن نقصدها. على منصة “تيد” (TED) تقف عالمة الأحياء دون ماسلر(4) لتُلقي مُحاضرة بعنوان “كيف يقع دماغك في الحب؟ (5)، وتقول إن هناك العديد من العمليات الكيميائية التي تحدث داخل جسمك، تزيد من هرمون معين فتصبح أكثر عدائية، وتنقص من هرمون معين مسببة الخمول أو القلق. وعلى امتداد 12 دقيقة كانت تشرح ما وجده علم الأعصاب لحل لغز الحب، وكانت النتيجة بعد كل هذا الشرح أن ما قالته جدتها التي تبلغ من العمر 95 عاما صحيح. الحب يحتاج أولا إلى الوقت، وثانيا إلى الالتزام.
أن نأخذ كفايتنا من الوقت لفهم ما نشعر به، ولفهم نيّات الطرف الآخر نحونا. فالحب من طرف واحد هو حرب داخلية، صراع بين عواطف الإقبال وعواطف الإحجام، حرب بين الارتقاء بالذات وبين إضاعة الوقت في محاولات -فاشلة- متكررة في سبيل الوصول لطرف لن نصل إليه. وهي حالةٌ نقودُ بها أنفسنا لكسر قلوبنا وخواطرنا، فهناك طرف يعطي كل شيء، في مقابل طرف لا يعطي، ولو أعطى، فبقدر قليل جدا. في النهاية، الحب من طرف واحد هو تحطيم للفرد، لقدراته ولعلاقاته الاجتماعية التي سيُهملها في سبيل ابتكار وسيلة تقرب جديدة، فهو على استعداد لأن يصرف كل طاقته لرسم خريطة تقود به إلى الطرف الآخر الذي يقف على بُعد صعوبات وحواجز ورفض. فلماذا كل هذا؟ هُناك بالتأكيد من يُعَبّد لنا الطرق لنمشي بتوازن كما يليق بالعلاقات أن تكون.