لطالما اعتزّ العراقي بعراقيته الأبيّة، وافتخر بطينته النظيفة، يُغذيها ماء طهور، ممتزجاً بتراب مقدسن احتضن الأنبياء والأوصياء والأولياء.. ولطالما أسهب العراقي مزهوّاً بحضارته العريقة، مدلّاً على العالمين بأنه أولُ من علّمهم الشرائع، وأوّلُ من قيّد العلم بالكتاب.. ولطالما تذاكرنا حين نتذاكر قرانا الطيبة، وكرمها الأسطوري، ومشاعر المحبّة والألفة التي نسكبها على العالم المتيبّس، فتزدهر أنَفَتُنا، وتخصبُ كبرياؤنا، لنتفَّجر إيثاراً وسماحة ونبلاً. وكذا حين نتذاكر مدننا الموغلة بأصالة حاراتها وأحيائها، وبساطة ناسها، وانفتاحهم وتعاونهم وتواددهم وتواصلهم، حتى لنظنّ أن بيوت جيراننا هي بيوتنا، وأن سكنتها هم أهلنا الأقربون.. فما الذي حصل لينقلب كلّ ذلك!!
ما أعرفه بلا سبق إصرار ولا ترصّد، ان كل ذلك باقٍ وحاضر، ولم ينقلب كما لانودّ، أهي موجةٌ عارمة تحاول جرْف الجميع، لتلقيهم على جزيرة بلا تاريخ، أو تغرقهم بلا رأفة! ولِنبتدأَ من جديد صناعة ثقافة جديدة، وقيَم جديدة، وأخلاق جديدة، يريدها لنا من يريدها!!
فقد غزت المشهد العراقي سياسياً واجتماعياً وثقافياً دعاوى ( تسقيط شامل )، تحاول بحق وبباطل، أن تقنعنا بسبب حجمها وعتوّها ومجال استباحتها وشمولها، أن المجتمع العراقي مجتمع فاسد، وبلا نزاهة ولا شرف وطنيين.. ولم يسلم من تلك التهمة سياسي ولا إداري، في مؤسساتنا التشريعية أو القضائية أو التنفيذية. لم يسلم منها مدير المدرسة ولا المعلم، كما لم يسلم منها الضابط ولا القاضي ولا الوزير ولا البرلماني.. كما لم يتورّع عن ادعائها الجاهل ولا العالم، ولا البسيط ولا المثقف.. كما لم يتوقف عن الحديث بها الفنان ولا السياسين وبها تضج فضائياتنا، وتدبّج بها صحفنا وكتاباتنا، وهي الشغل الشاغل لتجمعاتنا وندواتنا ومجالسنا ولقاءاتنا.. حتى لنرى الجميع من حيث يشعرون ومن حيث لايشعرون، يبدأون بها يومهم وبها يختمون. فصرنا جميعاً مدّعوون، وفي الوقت نفسه متهمون! نرتكبها ادعاءً بدليل مرة، ومرة بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.. ونمارسها بصلافة كموضوع للتواصل بيننا وبين غرباء عنا مدخلاً لأحاديث لاحقة، ونعتاش بها مع خبزة الصباح ومع متابعة المسلسلات، ومع النشرات الجوية بسوء وبتحسن الطقس، ومع المشاكسات البريئة، والمعارك المصيرية الجادة.
أبهذه السهولة وبهذا الوقت القصير من عمر التاريخ، تمسخ الطيبة إلى فساد، ويستحيل الشرف الرفيع الذي طالما أريقت على جوانبه الدماء الغزيرة إلى سقوط!! ومع فرض استفحال سرقة أموال الدولة، وانجراف كثيرين إلى خيانة شعبهم أو استغلال مناصبهم خدمة لأغراضهم الشخصية ــ مع هذا الفرض، هل كانت حملات التسقيط بمستوى السقوط ! أم أن هذه الحملات غير المسؤولة كانت حملات مدسوسة مقصودة مدعومة مغرضة، تستغل ما يمكن أن يحصل من سقوط في أي بلد يعيش ظروفاً مرتبكة مثل العراق .. لتصنع من ورائه ما تصنع؟
وبفرض الإجابة بالإيجاب على التساؤل الأخير، وهو ما أعتقده.. أرى وجوب أن لاتقتصر دراساتنا وحواراتنا على الفساد.. بل ينبغي أن نتعداه ليس بعيداً جداً، إلى دوافع حملات التسقيط وأسبابها، ومن يقف وراءها وأهدافها.. فالبحث في ذلك قد يضعنا أمام وعي جديد لما يراد منا، وما يراد بنا.
فالسؤال الذي قد يربك المنطق: لماذا تتواطأ أمة، وبطريقة لا شعورية على تسقيط نفسها، بهذه الطريقة المريعة!!!وإن لأول ما يخطر في ذهني ان هناك خططاً تُرفَع، وأموالاً تُدفَع، وآلات إعلام تعمل ليلاً ونهاراً، تستهدف العقل العراقي لتغسله تماماً، وتمحو ما حفل به من صور التقطتها ذاكرة الطفولة، تعبر عن الطيبة والخلق الرفيع على مدى التاريخ، ولتستبدل بها ازدحام صور السوء والفساد وذبح الشرف.. ولتنزع ثقتنا بأنفسنا وبأملنا بتطوير بلدنا.. ولتمنح الفاسدين مبرراً وجيهاً نوع ما، لارتكاب فسادهم تحت شعار: ( هيه .. ظلّت عليَّه!! ).. وتحت الشعار نفسه يتجرّأ الذين ينتوون الإفساد .. ولِيشيعَ الفساد في العباد والبلاد، وفي البرّ والبحر (( بما كسبت أيدي الناس )). فالإعلام اليوم لا يكتفي بوصف ما يحدث، كما هو معلوم، وإنما يصنع الأحداث.. وبذلك يكون الفساد المحدود في أي بلد فساداً شاملاً فاشياً، يمارسه أصحابه بأمان، ويرتكبه من ينوونه بلا خوف ولا تردد.. وهو المطلوب، كما أن المطلوب أكبر من ذلك، فوراء ما ذكرناه، إضعاف ثقة المجتمع بنفسه، وأنه غير قادر على الإصلاح والتطوير، وهو مطلوب ثانٍ.. ليترتب عليه جملة من الإحباطات، ربما أولها: الشعور الجماعي بالندم. فالمهدد بالموت يرضى بالحمّى.. واستبداد الأمس خير من فساد اليوم!
[email protected]