حار المؤرخون متوزعين بين مصطلحات التوثيق، في تصنيف ماحدث في طف كربلاء العام 61 هـ.. هل هو ثورة ام معركة ام انتفاضة ام انتحار 72 رجلا بالتصدي لعشرات الالاف من الفرسان؟ واجمع المؤرخون.. بالتالي.. على انها “واقعة” تستعيد حدوثها كل لحظة وفي كل مكان من العالم.
تكرر الاحداث قتل الحسين.. عليه السلام، في كل مكان وزمان؛ لذلك لم تستهلك التجربة؛ لان الظلم يتجدد والبطولة في التصدي له تنبثق من بين العنق المجرد وحد السيف.. على مر الدهور.
واقعة “الطف” ثورة نشبت منذ أول طاغية تمسك بالسلطة وقتل مناوئيه، في معارك تنتهي.. حتما.. لصالح قوة السيف، وخلود الضحية بموقفه وشجاعته وتعلق الناس به بطلا وقدوة.. لا يجرؤون على اللحاق بها، لكنهم يتوسمون بأنفسهم تمثلها.. بين المرء ونفسه “وهذا أضعف الايمان”.
وستظل الانسانية تندب حظها العاثر؛ باستيلاء الطغاة على الحكم والعجز عن ازاحتهم من دون دماء.. الى ابد الدهر، التاريخ يعيد نفسه، والمأساة تتجدد.
كلمة “وقع” قاموسيا تعني حدث محاط بجلبة وتشظيات وإنفعلات وتبعات مكانية وزمانية.. إذن لم تخطئ حيرة المؤرخين.. ولم تجانب التصنيف المنهجي، مع عدم دقة سدادته في التصويب نحو المصطلح الامثل، وتلك من شيم الابطال التاريخيين، يحار الباحثون في تأطير العظماء.
توهج الامام الحسين.. عليه السلام، بمقتله.. شهيدا في كربلاء، وتلاقف حتى خاذلوه، قيمة ما أقدم عليه؛ جامعين شجاعتهم، في ثورة التوابين 65 هـ يطالبون أنفسهم بالشجاعة ويثأرون من ذواتهم التي تخلفت عن اللحاق بسمو الشهادة ونبل الموقف التاريخي.
توالت حلقات التاريخ، في محاولة لتصحيح مسارات الدولة والسلطة والحكم ومنظومة العمل السياسي التي لن تنتظم الى الابد، ولم تنتظم من قبل يوما.
التأمل في معطيات “الطف” خلال اربعينيته التي تحل علينا هذه الايام، يشكل مراجعة وجدانية لاشتمالات حياتنا.. فكل ما حولنا يستلزم الجرأة والشجاعة.. لحسم شؤون شخصية.. عظمت ام صغرت.. فهي ملحة بحياتنا يتوجب استيفاؤها من دون تلكوء.. حازمين.
فتطبيق منهج عظيم مثل “الطف” على حياة بسيطة نعيشها، واحد من المواعظ الكبرى التي أطلقها الحسين.. عليه السلام، في المكان والزمان، يقتديها المتأملون.. طالبو الصواب في سلوكهم، الذين ينشدون الفلاح.. أؤكد “صغر ام كبر المطلب” يظل المؤمن الواعي مرتبط بالمنهج الميداني الذي عاشه الحسين، بمواجهة قوة غاشمة.. لذلك علينا ان نفترض حضور هذا المنهج في مجريات العمل الانساني.. يوميا.. من حولنا، محتكمين.. مع ضمائرنا.. الى دقة إنتمائنا للحسين.. هل حسينيون نحن، في مواجهة مدير عام فاسد.. ونحن موظفون تحت سطوته؟ وهل نحن حسينيون، عندما نحاسب موظفا بسيطا، يقهره العوز، عندما يتأخر عن الدوام، وقرار معاقبته بين ايدينا…
وتلك قاعدة قياسية يصح تطبيقها في الحياة اليومية من نواحيها كافة، فالدين المعاملة، والحسين منارة الاسلام وقبلة المؤمنين وسبيل الثائرين.. من مسلمين وغير مسلمين، في كل مكان وزمان، نستحضر عظمته، في سلوكنا اليومي، مع الآخرين في الامور كافة.. وبهذا نثبت أننا نتنفس حسينيتنا ونتمثل الموعظة الكبرى التي قدمها للانسانية.. نلتزمها ونتحرك بموجبها ونفكر بهديها سائرين نحو عالم حضاري نؤسسه في الدنيا، على ضوء الفهم الاصيل للآخرة.
ورد في الحديث النبوي: “لو قامت الساعة وفي يد احدكم فسيلا؛ فليزرعه” تضافرا مع حكمة الامام علي: “إعمل لدنياك كأنك تعيش ابدا واعمل لاخرتك كانك تموت غدا” وهو تكامل حقيقي مع ما اقدم عليه الحسين.. عليه السلام، من عدم مداهنة الباطل، والتصدي له؛ مؤمنا بأن الخط الواصل بين الموت شهيد في سبيل الحق، والحياة ملتزما مناسك البطولة، لا ينقطع سواء كان الانسان حيا ام ميتا.. “فأما حياة تسر الصديق.. واما ممات يغيظ العدى”.
لذلك فإن ماحدث في طف كربلاء العام 61 هـ.. ثورة ومعركة وانتفاضة وانتحار، نواجهه كل لحظة بيننا وانفسنا وبيننا والآخرين، في مواقف شتى يجب ان يحضر خلالها معنى اننا حسينيون ونتصرف بموجب ما تشترطه علينا حسينية الوفاء للطف.. هنا والان وفي كل مكان وزمان.