23 ديسمبر، 2024 3:45 م

شيء من التاريخ  :
ولنأخذ مثلا التاريخ القريب الذي عايشناه أوسمعنا عنه مباشرة ممن عايشه , فقد شهد النصف الأول من القرن الماضي تشكيل العديد من الدول العربية بحدودها الحالية برعاية الدول المستعمرة التي انتصرت بمساعدة عربية على الامبراطورية العثمانية وتقاسمت اسلابها وفقا لأتفاقية سايكس بيكو بين بريطانيا وفرنسا. وقد شهدت تلك الفترة شعورا متزايدا لدى الشعوب العربية في هذه الدول بكراهية الدول المستعمرة التي أخلفت وعودها لمن حارب معها من العرب تحت قيادة الأسرة الهاشمية وبات هنالك شبه إجماع لدى هذه الشعوب على مناهضة الحكم الوطني المقيد الذي نصبته الدول المستعمرة والذي كان ملكيا وراثيا بشكل عام . وبفعل مثل هذه المشاعر والرغبة الجامحة بالتغييروالتخلص من الاستعمارفقد نشأت العديد من الحركات والاحزاب ذات التوجهات اليسارية والقومية والوطنية المحلية وكذلك الاسلامية والتي انتمى إليها الشباب المتحمس المخلص لما كان يراه قضاياه الوطنية. ورغم الاختلافات الأيديولوجية العميقة فيما بين هذه الحركات إلا أنها كانت تشترك جميعا في مناهضتها للإستعمار وعدم قناعتها بالحكم القائم المرتبط به حسب اعتقادها والسعي لتبديله –  بطرق ثورية –  بحكم وطني ديمقراطي يقضي على ما تعاني منه بعض شرائح المجتمع من فقر وجهل ومرض  ويحقق المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية وينأى بالبلاد عن الإرتباط  بالدول المستعمرة.
  وقد شهد النصف الثاني من القرن نفسه عددا من الإنقلابات العسكرية التي نجحت في الأطاحة بالنظم الحاكمة القائمة في بعض الدول العربية والتي بدأت بانقلاب 23 يوليو في مصر بقيادة جمال عبد الناصرعام 1952 تلاها العراق بانقلاب 14 تموز بقيادة عبد الكريم قاسم عام 1958 حيث تمت تصفية العائلة الهاشمية المالكة بطريقة لا إنسانية بشعة ثم تلاه انقلاب إبراهيم عبود في السودان و عبد الله السلال في اليمن عام 1962 و معمر القذافي في ليبيا عام 1969.  وقد اجمعت البيانات الأولى للإنقلابيين على تبني نظام الحكم الجمهوري ووعدت بالتنسيق مع الأحزاب والشخصيات الوطنية التي تحضى بقبول واحترام جماهيري وبشرت الشعوب  بالحرية والمساواة والعدل والمستقبل الزاهر.
لقد اتخذت الأحداث التي تلت الانقلابات مسارات مختلفة في كل بلد خلال ما يزيد على نصف القرن , ففي مصراستبعد ضباط الإنقلاب رئيسهم الشكلي اللواء محمد نجيب بعد سنتين ونصبوا بدله زميلهم وهوالقائد  الفعلي للإنقلاب البكباشي جمال عبد الناصر وعندما توفي عبد الناصر عام 1970 بعد أن حكم مصر لمدة ثمانية عشر عاما تلاه أنورالسادات وهو احد رفاق عبد الناصر في انقلاب يوليو,وعندما اغتيل الأخيرعام 1981 خلفه نائبه حسني مبارك الذي استمر بحكم مصر لحين إرغامه على التنحي عام 2011.وفي العراق اتخذت الأحداث مسارا دمويا تعددت خلاله الانقلابات فبعد عدد من المحاولات الفاشلة قاد البعثيون بالتعاون مع عبد السلام عارف انقلابا عسكريا على عبد الكريم قاسم عام 1963 وقتلوه وقتلوا من وقع تحت ايديهم من أنصاره ومؤيديه وخصوصا الشيوعييين بقسوة ووحشية بالغة إنتقاما لأحداث سابقة كان بعض رفاقهم ضحاياها. ثم انقلب عبد السلام عارف على البعثيين فأقصاهم وتفرد بالحكم. وعندما مات بحادث طائرة مشكوك بأنه مدبرتلاه في رئاسة الجمهورية أخوه عبد الرحمن عارف عام 1966 والذي أطاح به البعثيون بانقلابهم الثاني عام 1968 حيث اصبح أحمد حسن البكر رئيسا للجمهورية. وبلعبة دموية شبه مكشوفة قام صدام حسين بتنحية البكر وحل محله عام 1979 ثم ما لبث أن أنهى حياته  بلعبة أخرى عام 1982. وفي ليبيا حكم معمرالقذافي بتذاكي مجنون  وقسوة طاغية طيلة ما بعد انقلابه ولمدة اثنين وأربعين عاما متواصلة ولحين مقتله عام 2011. وفي سوريا قاد حزب البعث العربي الإشتراكي إنقلابا ناجحا عام 1963 ثم انشق حافظ الأسد عن القيادة الرسمية لرفاقه البعثيين بحركة سماها تصحيحية  وحكم سوريا ممثلا لشقه من الحزب عام 1970 وعندما مات عام 2000 اورث حكمه إلى ابنه بشارالأسد الذي ما زال حاكما لسوريا يواجة نصيبه من ثورات الربيع العربي. أما في السودان فقد توالت الإنقلابات العسكرية التي تخللتها فترة قصيرة من الحكم المدني عندما سجل عبد الرحمن سوار الذهب سابقة عربية فريدة بالتنازل طواعية عن كرسي الحكم والتمهيد للحكم المدني  من خلال الانتخابات التي فاز بها الصادق المهدي والذي ما لبث أن أطاح به انقلاب عسكري آخرعام 1989 بقيادة عمرحسن البشير الذي لا زال يحكم السودان منذ ذلك الحين . وأخيرا فقد مرت في اليمن انقلابات وفترات حروب اهلية وانفصال واتحاد الجنوب والشمال وصولا الى حكم علي عبد الله صالح الذي أجبر على التنحي عام 2011.               وبالرغم مما ادرجناه آنفا من فروق جوهرية في مسارات وتطورات الحكم وطرائق تغيير الحكام بين هذه البلدان إلا أن المراقب الدقيق يستطيع أن يميز بينها سمات أساسية مشتركة مثل :
1 – أن جميع الحكام كانوا عسكريين باستثناء فترة قصيرة في السودان , وحتى الرئيس ذو الأصول المدنية ” صدام حسين “الذي حكم العراق باسم حزب البعث العربي الإشتراكي ( والذي لم يسبق له الإنخراط في أي معهد للدراسة أو التدريب العسكري التقليدي , بل إنه لم يؤدي حتى الخدمة العسكرية الإلزامية في الجيش قبل سيطرته على مقاليد الدولة ) قام بمنح نفسه أعلى رتبة عسكرية ولبس الزي العسكري الرسمي قبل أن يعتلي كرسي الحكم . وكذلك فعل بشار الأسد الذي ارتدى الرتبة العسكرية الأعلى رغم أنه درس وتدرب ليكون طبيبا في الأساس. فلقد أصبح العسكر باعتبار مناصبهم التي تتيح لهم امتلاك القوة التي تأتمر بأوامرهم هم وحدهم المؤهلين لحكم البلاد والعباد رغم أن الدول أوجدتهم وصرفت عليهم ودربتهم ليتأهلوا لغير هذا الغرض تماما.                                                                        2 – إن الرعيل الأول من قادة الانقلابات رغم الإختلافات غير القليلة في طبائعهم المسالمة أو الدموية تميزوا جميعا ( شأنهم شأن من سبقهم من الملوك ورؤساء الحكومات ) بالنزاهة والعفة المالية واستنكفوا عن مد أيديهم إلى المال العام فلم تسجل عليهم أية شائبة واضحة في هذا المجال , فأولاد عبد الناصروالسادات لم يتبؤوا المناصب العليا خلال فترات حكم آبائهم ولم يمتلكوا الشركات والمؤسسات الكبرى كما أنهم لم يرثوا من آبائهم بعد موتهم  أملاكا أو حسابات مصرفية كبرى بل عاشوا عيشة متوسطة أو فوق المتوسطة كمواطنين عاديين يعتمدون على عرق جبينهم بدون أية سمات أو ملامح من الترف الباذخ . ولا زال عبد الكريم قاسم مضربا للمثل في نظافة اليد فغداءه كان يأتي من بيت أخته بالسفرطاس كأي كاسب عراقي  بل ومشهورعنه الصرف من ماله المتواضع الخاص على بعض نشاطاته الرسمية التي يفترض أن تتحملها الدولة . وقد سمعنا عن معاناة بعض أولاد عبد السلام عارف من العوز. أما عبد الرحمن عارف فقد عاش بعد تنحيته خارج العراق وفي العراق عيشة عادية على راتبه التقاعدي كأي موظف عراقي متقاعد ولم يخلف لورثته لا مال ولا أطيان. وينطبق نفس الكلام إلى حد كبيرعلى أحمد حسن البكر وما خلفه لأولاده. ورغم أنني لا أملك معلومات عن تركات عبد الله السلال أو ابراهيم عبود إلا ان من المؤكد أن حالهم في النزاهة لا يختلف عن حال أقرانهم من الإنقلابيين الأوائل وإلا لكانت فضيحتهم بجلاجل كما يقول المصريون خصوصا وقد كانت السرقة وامتداد اليد للمال العام عيبا شائنا ووصمة عاراجتماعي  يستنكف من إ تيانه حتى الموظف البسيط في ذلك الزمان ناهيك عن الشخصيات العامة من كبار الموظفين بعكس ما وصل إليه الحال اليوم.                                                 3 –  لم يطبق أي من الإنقلابيين وعودهم الثورية وأهدافهم المعلنة كمبررات للإنقلابات فقد تقلصت هوامش الحرية المتاحة للشعوب بدرجات متفاوتة بدلا من اطلاقها الموعود وصار قمع المعارضين والتنكيل بهم سياسة  ثورية ثابتة. ولم تطبق من الممارسات الديمقراطية في أحسن الأحوال سوى انتخابات صورية في بعض الدول يفوز فيها الحاكم بأكثر من 99% من اصوات الناخبين فيمتد حكمه مدى الحياة باعتباره الرئيس الفذ أوالزعيم الأوحد أو القائد الضرورة . أما الوحدة العربية االتي نادت بها الأحزاب القومية فقد نساها القوميون عندما أمسكوا زمام السلطة, فحتى حزب البعث الذي استولى على السلطة في بلدين متجاورين وحكمهما عشرات السنين لم يحقق ولا حتى ملامح شكلية من الوحدة أو الأخوة العربية فقد انقسم الحزب نفسه الى شقين متنافرين يحكمان بلدين متعاديين بدلا من توحيدهما وفقا لأهم الشعارات التي ينادي بها الحزب ( الوحدة والحرية والإشتراكية ).
 4 – الغريب أنه رغم الاختلاف الكبير في مسارات تداول السلطة التي تلت الإنقلابات الأولى في الدول المختلفة الا أن الأنماط النهائية التي آلت إليها أشكال الحكم كانت متشابهة تماما بل تكاد تكون نسخا طبق الأصل ففي نهاية المطاف لم يصبح الحكم دكتاتوريا فرديا فحسب وانما تحولت الأوطان تدريجيا إلى ما يشبه الشركات الخاصة التي يديرها أفراد العائلة الحاكمة ولم تعد هنالك حدود بين المال العام والمال الخاص فكل موارد الدولة أصبحت ملكا صرفا للحاكم يعطي منها من يشاء ويمنعها عمن يشاء تماما كما كان هارون الرشيد أو غيره من الخلفاء والأمراء ووكلائهم يأمرون (اعطوه ألف دينار أو اقطعوا رأس فلان ). ولم تعد ثروات الحاكمين الثوريين وأبنائهم وأخوتهم وحساباتهم في البنوك الدولية البالغة عشرات المليارات من الدولارات سرا إذ انكشفت حال سقوطهم  وبدأت الحكومات الجديدة المطالبة باستعادتها ومصادرتها باعتبارها ملكا للشعوب.
5 – ان النتيجة الغريبة الأخرى التي تتناقض تناقضا صارخا مع كل المباديء الثورية التي نادى بها الإنقلابيون هي تهيئة كل حاكم أحد أولاده ليرث الحكم ورئاسة الحزب الحاكم منه بطريقة ديمقراطية ! وكأن الإبن يرث الصفات القيادية الفذة من أبيه كما يرث صفاته البايولوجية. فقد أورث حافظ الأسد حكم سوريا الى ولده بشار وهيأ صدام حسين ولديه عدي ثم قصي لخلافته في حكم العراق , وهكذا جمال لرئاسة مصر بعد ابيه حسني مبارك و سيف الإسلام  لحكم ليبيا بعد أبيه معمر القذافي وكذلك كان إبن علي عبد الله صالح الضابط الذي لا يحضرني إسمه متوقعا لحكم اليمن بعد أبيه ولا أدري إن كان  لعمر حسن البشير ولد يخلفه في حكم السودان ولكن المعروف أن أخاه أصبح مليونيرا وربما مليارديرا.
أن الحكم الفردي العائلي المستبد هو سمة ثابتة في تاريخ الأمة العربية والإسلامية بل أن التاريخ العربي في مختلف عصوره الزاهرة كان بالدرجة الأولى عبارة عن تاريخ لعوائل فقد استولى بنو أمية على الخلافة العربية الإسلامية بحجة مطالبتهم بدم ابن عشيرتهم الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان الذي قتلته ثلة من الرعية الثائرين الذين كانوا يعتقدون أنه ظلمهم وتلتها دولة بني العباس الذين ادعوا أحقيتهم بالخلافة نظرا لصلة قرابتهم بالنبي محمد (ص) حيث أن جدهم العباس بن عبد المطلب هو عم النبي , وعلى نفس الأساس قامت دولة الفاطميين باعتبارهم أحفاد إبنة النبي فاطمة الزهراء. وهكذا كانت دولة بني أيوب ودولة المماليك ودولة الأدارسة وغيرها دول عائلية صرفة يتداول الحكم فيها الأبناء عن أبائهم . بل إن الثورات العلوية على مدى حكم الدولتين الأموية والعباسية كثورة الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب ( ع ) على يزيد بن معاوية الأموي وثورة الإمام زيد بن علي بن الحسين على هشام بن عبد الملك الأموي وثورة محمد ذو النفس الزكية على أبي جعفر المنصور العباسي كانت تقوم على أساس اعتقادهم بأحقيتهم شرعا في وراثة حكم دولة جدهم  النبي محمد بن عبد الله (ص). وبسبب مثل هذا الإعتقاد التوارثي العائلي  فإن الدولة العثمانية في سعيها لإضفاء لقب الخلافة الإسلامية على حكامها اضطرت لتبني المذهب الحنفي لأن الإمام أبي حنيفة النعمان هوالوحيد بين أئمة المذاهب الإسلامية الذي يجيز تولي خلافة المسلمين لمن هم ليسوا من قبيلة قريش. وبوجود الخليفة العثماني لم يعد أمام الدولة الصفوية سوى التحول إلى المذهب الجعفري الإثنا عشري لكي تحكم باسم الأئمة من آل البيت ( ع ) أصحاب الحق الشرعي في خلافة المسلمين حسب عقيدة المذهب الشيعي .  ولا يفوتنا أن نذكر في هذا الصدد أن بعض الدول العربية لازات حتى يومنا هذا تحمل أسماء العوائل المالكة التي تحكمها .       
إسلامية المجاورة  أيضا ) على مرالتاريخ تبدوأقرب الى النمط الفردي العائلي المطلق للحكم منه الى النمط الديمقراطي الجماعي حيث تلعب القوة والهيبة التي تتمتع بها شخصية القائد أوالزعيم دورا رئيسيا في اكسابه احترام وطاعة الرعية التي لاغنى عنها في تحقق الإستقرار. والسبب في ذلك حسب رأيي هو بقايا العقلية البدائية والرواسب القبلية التي ورثناها عن أسلافنا البدو والتي وإن لم تعد صافية ومهيمنة تماما على الجميع إلا أنها لا زالت تحتل حيزا كبيرا في العقلية العربية . فهذه المشاعر هي التي تدفع الحاكم لتقريب عائلته وعشيرته ومنحهم المناصب والإمتيازات أولاَ باعتبار أن ” الأقربين أولى بالمعروف ”  وثانياَ  لان اصطفافهم معه في أوقات الشدة مضمون حيث أن  قيمهم القبلية علمتهم حكمة ( أنا واخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب ) . كما يبدو أننا كعرب نضفي الطبيعة القبلية على مختلف انتماءاتنا الأخرى ففي انتمائنا الحزبي مثلا نعمل مع رفاقنا بروحية ونزعة قبلية حيث تنسى المباديء والمثل العليا و ينعدم التمييز بين معاني الحق والباطل والصح والخطأ والعدل والظلم فننصررفيقنا الحزبي ظالما كان أو مظلوما, وبدلا من المطارحات الفكرية والجدالات العقائدية المفترضة بالأحزاب السياسية لطالما دخلت أحزابنا السياسية في صراعات عضلية وصلت حد الإقتتال الدامي بنفس الدوافع والطرق التي كانت تتقاتل بها القبائل العربية في غابر الأزمان أيام حروب البسوس وداحس والغبراء ومن منطلق أن الكرام  ” لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا ”  وقل نفس الشيء عن بقية انتماءاتنا الدينية والطائفية والمناطقية فلقد وصل الشد الطائفي في العراق مثلا في بعض السنوات التي تلت الإحتلال الأمريكي وسقوط صدام ونظامه الى حد ان يذبح المواطن مواطنه المختلف طائفيا على الإسم والهوية رغم أن الذابح والمذبوح كلاهما لا يعرفان الفروق العقائدية بين طائفتيهما بل أنهما قد لايؤمنان بالدين أصلا ولا يؤديان الفرائض الدينية بموجب  تعاليم الطائفه التي ينتمي كل منهما إليها, فالدوافع إذن هي عواطف قبلية بدائية ساذجة وليست غيرة دينية حقا. وحتى تعاملنا مع انتماءاتنا المناطقية أو الفئوية الثانوية كمشجعين لفرق كرة قدم معينة مثلا غالبا ما يتسرب إليه الطابع الأعمى للعصبية القبلية فيصل الهوس بالفريق المفضل إلى حد قتل من يقدح بلاعبيه أو يشجع الفريق الخصم , ونضرب في هذا الصدد مثلا حادث مدينة الإسكندرية المصرية المروع الذي نقلته لنا وسائل الإعلام  قبل سنوات قليلة والذي تلا مباراة كرة قدم محلية بين فريقين وطنيين مصريين حيث قتل فيه سبعون شخصا من مشجعي الفريق الآخر ناهيك عن التخريب والتدميرالعشوائي الذي طال الملعب والمنشآت والمحلات المجاورة .
إنني لا أدعي هنا أن العادات والتقاليد والممارسات القبلية التي عاش في كنفها وافتخر بها اجدادنا معيبة أو رديئة بالمطلق وانما أقول أن هذه الطبائع وإن كانت صالحة ومناسبة تماما للبقاء والإستمرار في بيئة الصحراء القاسية ولمجتعات بدائية بدوية أو شبه بدوية محدودة الثقافة وقليلة المتطلبات الحياتية , فإنها لم تعد تصلح في المجتمعات المدنية الحديثة ولا تنسجم مع متطلبات بناء الدول الدستورية المعاصرة التي تركز على حقوق الإنسان كقيمة عليا وعلى مبدأ أن الوظيفة العامة بما في ذلك قمة الهرم الوظيفي هي مواقع تكليف لخدمة المواطن وتيسير سبل حياته, بعكس مجتمع القبيلة الذي تكون فيه مواقع الرؤساء أو الشيوخ مواقع تشريف سلطوية يفترض الواجب على أفراد القبيلة  خدمتها وتنفيذ أوامرها دون تلكؤ أومناقشة. ولهذا السبب فإن مغادرة رؤساء وقادة الدول الديمقراطية مناصبهم عند انتهاء فترات ولاياتهم أوبسبب خسارتهم الإنتخابات يعتبر أمرا طبيعيا يمرمرورالكرام دون ضجة أو استغراب وغالبا ما يعود الرئيس السابق الى عمله او مهنته الأصلية أو يحصل على منصب مهم في شركة أو منظمة يدرعليه أضعاف ما كان يتقاضاه كرئيس للدولة. وهو عكس ما يحدث في مجتنعاتنا التي لا زالت مسكونة بالعقد القبلية البدائية حيث يمثل فقدان المنصب الأعلى والسلطة التي يمنحها هذا المنصب إذلالا مابعده إذلال ويعتبرنهاية المطاف لحياة الرئيس كشخصية محترمة تنحني لها القامات . لذلك ليس من المستغرب أن يعمد رؤساؤنا إلى الإلتصاق بالكرسي والتمسك بالحكم بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة  ولا يغادرونه عادة إلا إلى القبورأو في حالات استثنائية إلى المنافي.
ومما لا شك فيه أن هنالك نسبة من الطبقات المثقفة في العالم العربي قد تفوقت فكريا على واقع مجتمعها القائم واستطاعت التحرر من المشاعروالطبائع والعادات والأعراف القبلية الى حد كبير واصبحت مؤمنة إيمانا واعيا  بالقيم المدنية المعاصرة , ولا ريب أن البعض من هذه الطبقات المتنورة يسعى قدر المستطاع لتوعية الناس بأضرارالقيم البالية وعدم انسجامها مع متطلبات الحياة العصرية ويحاول تثقيف الناس بقيم ومباديء حقوق الإنسان كما أقرتها الشرائع والنظم الحديثة وإقناعهم بمدى فائدتها  للإرتقاء بالمجتمعات وضمان حياة أفضل لكل فرد,غير أن هذه الفئه لا تمثل إلا اقلية ضعيفة العدة والعدد مقارنة بالأغلبية العظمى من عوام الناس التي تسيطرعلى عقولها نخب مستفيدة من الجهل المتفشي بينها وتمتلك القدرات المادية والمعنوية التي تتيح لها الإمعان في تجهيل الناس والتمادي في استغلال سذاجتهم.     توقعات المستقبل :
رغم أن الفترة التي تلت سقوط النظم الحاكمة شهدت ملامحا من الممارسات الديمقراطية وذلك  بإجراء انتخابات على درجة معترف بها من الشفافية والنزاهة لاختيارأعضاء السلطتين التشريعية والتنفيذية. إلا أن السلوك الذي تلا تلك الممارسة لا يبشر بخير. فالروحية الديمقراطية تفرض احترام رأي الناخبين والقبول بالنتائج التي تمنح الفائزين بالأغلبية حق استلام السلطة التنفيذية طيلة الدورة الإنتخابية القائمة وإعطائهم الفرصة لقيادة المجتمع كرجال دولة لا كرؤساء أحزاب وفقا لما يرونه محققا للمصلحة العامة والإرتقاء بالمجتمع على مختلف الأصعدة والمستويات دونما غمط لحقوق الأقلية كمواطنين متساوين, وفي المقابل قيام الخاسرين أو ممثلي الأقلية بتشكيل معارضة منظمة تتولى مراقبة أداء السلطة التنفيذية وانتقاد سلبياتها وفضح مفاسدها بالطرق القانونية التي تضمنها المباديء والأعراف والسياقات الديمقراطية , بغية تصحيح المسار والسعي لاقناع الناخبين بأنهم (أي المعارضة ) الأفضل والأصلح لتولي السلطة وقيادة المجتمع في الدورة الإنتخابية اللاحقة.
ولأن مجتمعاتنا لم تتشرب بعد بالمباديء الديمقراطية وما تنطوي عليه من أصول في التفكير والتصرف والنظرة إلى ألآخر , وبفعل ما ترسب في عقول شعوبنا من مفاهيم قبلية فقد سارت الأمور بعد الإنتخابات وفقا لسيناريوهات لا تمت للأعراف الديمقراطية المذكورة بصلة. فقد تصور الفائزون فوزهم شيكا على بياض يتيح لهم وحدهم حق امتلاك البلد والتصرف على هواهم معتبرين الملايين التي لم تنتخبهم في خانة الأعداء الذين سقطت حقوقهم , وتعاملوا مع الممارسات الديمقراطية كمجرد سلم للوصول الى سدة الحكم ومن ثم احتكاره وليس كطريقة مستمرة لتداول السلطة وتبادل المواقع وفقا لرغبة الناخب الحرة , وبدأوا باتخاذ خطوات عملية لتكريس هيمنتهم الدائمة  فقاموا بتوزيع المناصب الهامة على أساس الولاء والقرب منهم لا على أساس الكفاءة والنزاهة والإستحقاق , وباشروا باصدار التشريعات وتكييف الآليات الإنتخابية بالطريقة التي تكفل استمرارهم بالفوز في الدورات الإنتخابية القادمة. أما الحرص على المصلحة العامة والنزاهة ونظافة اليد فقد أصبحت صفات نادرة لا يتمتع بها غير الملائكة أو أشباه الملائكة. وفي الجانب الآخر فقد رفض الخاسرون النتائج الإنتخابية بحجج وأساليب متنوعة وكيف يرضون الإقرار بأفضلية الآخرين عليهم ويقنعون  باحتلال موقع المعارضة الذي يعتبرونه ثانويا ولسان حالهم يقول : ”  وإنا لقوم لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر ” فقد ارتفعت أصوات الخاسرين في كل بلدان الربيع العربي مدعية حصول التزويرفي عمليات الإقتراع أو العد , وسيّرالبعض المظاهرات المليونية ومارسوا الإعتصامات مطالبين الرئيس المنتخب أن يحكم وفق رؤيتهم هم وليس وفق رؤيته ورؤية حزبه والمؤتلفين معه والا فإنهم سيقلبون عاليها سافلها ولن يسمحوا بهدوء واستقرار في المجتمع ,ولم يرعوي البعض عن ارتكاب الجرائم واللجوء إلى الارهاب لخلق الفوضى التي قد تطيح بالحاكم المنتخب. كذلك فقد توصل السياسيون المزعومون في بعض الأقطار إلى اتفاق يتقاسم بموجبه السلطة ومناصب الحكم هذا الجمع المتنافر بالأفكار المتضاد بالأهداف حسب نسب تمثيلهم في المجالس التشريعية , الأمرالذي يشي بسوء طويتهم ويكشف سعيهم الدنيء لإقتسام المغانم وليس لخدمة الناخبين الذين وثقوا بهم واختاروهم لتمثيلهم والدفاع عن مصالحهم, وقد طلعوا علينا بمصطلح  سموه بالديقراطية التوافقية وهي تسمية مهذبة لدكتاتورية الأقلية حيث تمنح الأقلية حق الفيتو في أي قضية وكل موضوع وتلغي أية قيمة لرأي أو رغبة الأغلبية. وفي كل الأحوال فإن الصراع بين السياسيين المنطلق أساسا من دوافع مصلحية أنانية شخصية تم تأطيره بديكورات وألوان دينية وطائفية وعرقية فأنعكس على المجتمع فرقة وتشرذما واقتتالا أهليا مدمرا انحسر من خلالة تأثير الهوية الوطنية الجامعة لصالح التخندق وفقا للإنتماءات الفرعية التي تعمقها وتزيد من خطورتها طبيعتنا القبلية المستعدة على الدوام لاستعمال السيف في حل المشاكل والخلافات.      والأخطر من ذلك أن ضعف السلطات التي انبثقت عن حركات الربيع العربي وانهماك القادة الجدد في صراعاتهم البينية لاقتناص السلطة ونيل أكبرالمغانم لهم ولأحزابهم لم يترك للناس خيارا غيراللجوء الى التكتل مع الأقارب وافراد العشيرة لتأمين الحماية لبعضهم البعض في ظروف الفوضى والعنف السائدين مما يعززالنزعة والطبائع القبلية ويعيد مجتمعاتنا قرونا إلى الوراء. ففي العراق مثلا لم تعد العشائر في كثير من المناطق تعترف بالقانون المدني الذي تديره الحكومة عبر أجهزتها المختلفة , فقد استعادت قوانين أسلافها القبلية من ثأر ونهوة وعطوة ودية ودخالة وغيرها من أعراف الجاهلية بل وقد تفنن البعض في تطبيقها  بأبشع الصور على المستضعف الذي لا ينتمي إلى عشيرة مماثلة في القوة والبأس , فقد أصبحنا نسمع القصص الغريبة من قبيل قيام الأهل بتغريم الأطباء المعالجين مبالغ خيالية إذا مات المريض أو تعوق أو طلب دية من الأستاذ إذا رسب إبن لهم في الإمتحان كفصول عشائرية.
فإلى ماذا ستقودنا هذه الصورة السوداء لوضعنا الحالي ؟ وهل لنا أن نامل بمستقبل أفضل لأولادنا أو لأحفادنا على الأقل ؟
من الطبيعي أن يكون لكل شخص رأيه الخاص الذي يحدد جوابه على هذه الأسئلة وكل رأي محترم سواء اتفق مع قناعاتنا أم اختلف. وفي رأيي المتواضع أن الجواب هو نعم……….. ولكن بعد سنوات وربما عقود من الفوضى والصراعات التي يفرضها التناقض الصارخ بين متطلبات الديمقراطية كطريقة في التفكيروالتصرف وعقليتنا البدائية المتأثرة بالقيم القبلية والتي تغذيها وتعمقها الأصابع الخارجية التي تتصيد في الماء العكر ( وهو ما لا أريد الخوض في تفاصيله الشائكة لأن هذه الدراسة تركز على العناصر الذاتية الداخلية ). فطالما بقي المجتمع مقسما إلى العديد من مراكز القوى والرؤوس ذات المصالح المتضاربة التي يشعر كل منها أنه الأجدر والأقدر على حكم البلاد والأحق بالإستئثار بالإمتيازات والخيرات, فإن هذه الصراعات الدامية سوف تستمر لسنين قد تطول وسوف يذهب ضحيتها الآلاف بلا ريب , فالسفينة إذا كثر ملاحوها  تغرق والأكل إذا كثر طباخوه يفسد كما تقول الأمثال.
وبما أنني مؤمن بالقانون الطبيعي الذي يفرض حتمية تحرك المجتمع لا إراديا  باتجاه نقطة التوازن الذي يحقق الإستقرار, وبما أن الفرد العربي بشكل عام  ( وربما كل الشعوب المتخلفة عن ركب الحضارة والتطور ) ما زال لا يحترم أو يطيع إلا الشخصية الكارزمية التي تتمتع بالهيبة والشجاعة والقوة الطاغية التي يخشاها فينصاع لأوامرها , فإنني ارى أن هذه الشخصية ستبرزحتما من بين أفراد مجتمعاتنا العاديين (وليس بالطريقة الغيبية التي يفترض أن يظهر بها المهدي المنتظرحسب اعتقاد البعض ) لتحكمنا بالطريقة التي تعيد احترام وهيبة القانون وتفرض النظام والإستقرار بالقوة والإكراه. فلنأمل أن لا يتأخر بروز مثل هذه الشخصية كثيراَ. ولنتمنى أن لا يكون هذا الحاكم دكتاتورا متخلفا دمويا ظالما يعود بنا إلى أزمنة القهر والذل والطغيان التي نلنا منها ما يفوق حصتنا العادلة, بل أن يكون حكيما عاقلا مستبدا عادلا ( حسب تعبير المفكر الفذ عبد الرحمن الكواكبي )  يقود بلداننا ضمن مرحلة انتقالية موجهة يتم خلالها وبخطة علمية محكمة إعادة تربية وتأهيل المجتمع وتثقيفه لتقبل الحداثة ومتطلباتها ونبذ القيم القديمة المتخلفة وصولا إلى حكم ديمقراطي حقيقي تنسجم فيه عقليات الحكام مع متطلبات هذا النوع من الحكم  وتدرك فيه الشعوب حدود واجباتها تجاه المجتمع ومصلحته العامة وتعرف فيه تفاصيل حقوقها وامتيازاتها التي يضمنها انتماؤها للدولة أو المجتمع ويكفلها دستور الدولة المعاصرالذي يكتبه العقلاء من بينهم , وتمتلك الإرادة الواعية التي تجعلها تتفانى في الدفاع عن هذه الحقوق, وعلى غرار ما فعل قادة أوربيون تاريخيون كالجنرال فرانكو في أسبانيا وبسمارك في ألمانيا وكرومول في بريطانيا.
[email protected]