23 ديسمبر، 2024 11:33 ص

درجة حرارة المجتمع  :
 في ثلاثيته الشهيرة ” الأسس ” أو”القاعدة” (Foundation)  التي نشرها في خمسينيات القرن الماضي  يتحدث “إسحق عظيموف ” وهوأحد أبرز كتاب روايات الخيال العلمي في القرن العشرين عن منظمة أنيط بها إنقاذ إمبراطورية كونية في طريق الإنهيار, حيث لا أمل لها في تجاوز ما ينتظرها من فوضى شاملة تقضي على حضارتها لمدة ثلاثين ألف عام قادمة. وقد وضع رئيس منظمة الإنقاذ المسمى هاري سلدون وفقاَ لمجريات الرواية خطة لاختصار فترة الفوضى المظلمة إلى ألف عام فقط , وقد بنيت ستراتيجيته على إقناع الحكام بتكوين قاعدة من العلماء والمفكرين لحفظ التراث والمعارف البشرية من الضياع وإيصالها للحضارة التي سوف تستعيد ولادتها من جديد في النهاية. ولكن بطل الرواية هاري سلدون استغفل الحكام وشكل تجمعاَ من العلماء مهمته السيطرة على وتوجيه المستقبل من خلال التدخل في مراحل حاسمة من التاريخ المستقبلي لتوجيه الأحداث وفق المسار الذي وضعه سلدون. ولغرض تحقيق السيطرة والتحكم في الشؤون البشرية المستقبلية فقد استخدم هاري سلدون منظومة من القوانين والعلاقات الرياضية التي اخترعها وسماها ” التاريخ النفساني “. ورغم أن الرواية لم تفصح عن نوع و شكل العلاقات الرياضية المزعومة إلا أن المؤلف تطرق إلى الأسس الفيزيائية التي اعتمدها سلدون في صياغة نموذجه الرياضي والتي تقوم على مباديء نظرية الغاز الحركية.
لو أخذنا أية عينة من الهواء سواء أكانت في صندوق أو في غرفة أو في الهواء الطلق فإن العينة ستحوي خليطا من الذرات والجزيئات المتباينة في صفاتها الفيزيائية والكيميائية فضلاَ عن أن كل ذرة أو جزيئة تتحرك عشوائيا من حيث السرعة والإتجاه ضمن العينة. ورغم إننا لا نستطيع تحديد موقع أوحركة كل ذرة أو جزيء في أي وقت من الأوقات فإن بإمكاننا من خلال طرق الميكانيك الإحصائي احتساب مجمل الطاقة الحركية لمكونات العينة واشتقاق قوانين الديناميكا الحرارية التي تحكم سلوك الغاز ككل بدقة عالية فمجمل الطاقة الحركية هي ما نعبر عنه بدرجة الحرارة والقوانين التي تحكم العلاقة بين درجة حرارة العينة مع كل من ضغط وحجم الغاز معروفة ويمكن اعتمادها بثقة تامة في احتساب طاقة التكييف التي تحتاجها غرفة أو بناية مثلاَ, كذلك يمكننا اعتماد ما نعرفه من صفات الهواء العامة في تصميم جناح الطائرة التي ستحلق بنا عبره . فهل أن بإمكاننا وعلى نفس الأساس قياس درجة حرارة المجتمع ؟ أوبتعبيرآخرهل يمكن استنباط مجمل سلوك أو مزاج المجتمع ككل ؟ مع أن مثل هذا السلوك الإجمالي سوف لا ينطبق على أي فرد بذاته تماما وبنفس المعنى الذي يحمله مصطلح درجة الحرارة للغاز.
يجب أن لا نستغرب من هذه المقاربة بالتعامل مع الأفراد كما نتعامل مع الجزيئات فالعديد من العلماء والباحثين اليوم يدرسون السلوك المجتمعي من هذا المنطلق بمعنى أنهم يحاولون قياس ما يكافيء درجة حرارة المجتمع على اعتبار أنه في مجتمع يحوي عددا كبيرا من الأفراد فإن التفاعلات البشرية فيما بينهم سوف تنتج نمطا قابلا للتوقع وتصبح الفروق الفردية قابلة للتجاوز أمام  الصورة الإجمالية الدقيقة التي تصف المجتمع ككل وترسم احتماليات مساراته المستقبلية تماما كما تتفاعل الجزيئات فتنتج النمط الحراري والضغط المعروف للغاز. وفي هذا المجال يمكن إعتبارالإحصاء ثرمومترا مناسبا لقياس درجة حرارة المجتمع. كما يبدو من خلال الدراسات القائمة في هذا الصدد أن من أفضل الطرق لقياس درجة حرارة المجتمع هي النظر للمجتمع كشبكة من العلاقات وذلك لأن رياضيات الشبكات تفصح بشكل كمي عن مدى تواصل وترابط الأعضاء في مجموعة اجتماعية معينة وبالتالي تتيح إمكانية احتساب تأثر بعضهم بآراء وأفكار البعض الآخرلتشكيل رأي عام معين. واليوم فإن رياضيات الشبكات الإجتماعية تطبق الفيزياء الإحصائية في مختلف الشؤون المجتمعية بدءأَ من اتجاهات الموضة إلى السلوك الإنتخابي للجمهور وحتى في دراسة أنماط نمو شبكات الإرهاب .
نظرية اللعبة (المباراة)game theory   :
ويسميها المختصون ب علم التفكير الستراتيجي ورغم ان هذه النظرية ليست جديدة فقد نشرت بداياتها منذ النصف الأول من القرن الماضي كلغة رياضياتية لتناول السلوك الإقتصادي وكيفية التصرف لتحقيق أفضل النتائج ,غير أن تطبيقاتها توسعت مؤخرا لتشمل مختلف الدراسات الإجتماعية والنفسية والبايولوجية وعلوم الأعصاب وكل ما يتعلق بالسلوك البشري كأفراد وكمجموعات. ورغم أن الدراسات في هذه المجالات الجديدة لا زالت في بداياتها إلا أن ما أسفرت عنه من نتائج تعد بالكثير في نطاق مسعى الإنسان لفهم أعمق لأسرار الطبيعة والحياة. إن حدود مقالتنا هذه لا تسمح بشرح معمق لنظرية اللعبة وتطبيقاتها التي قد تحتاج إلى عدة كتب لذلك سوف نقتصر على الإشارة إلى أنها طريقة كمية ( أي بالارقام ) لتوصيف القرارات المتاحة والمكاسب أو الخسائر التي تنجم ليس عن الإختيارات التي يتبناها صاحب القرارفقط وإنما عن قرارات واختيارات المشتركين الآخرين أيضا حيث يتم التعبيرعن كل ذلك رياضياَ بشجرة قرارات أو مصفوفة تتضمن الإختيارات المتاحة للأطراف المشتركة بالموضوع وما يترتب على كل اختيار من مكاسب أو خسائر لكل طرف وفقا لكل احتماليات الإختيارات المركبة للطرفين. وبذلك فهي تمثل طريقة واضحة ومؤكدة تتيح لمن يعرفها قدرة على التحليل المنهجي المسبق وإختيار أفضل القرارات المتاحة لتحقيق مصلحته بغض النظرعما يتخذه الآخرون من قرارات.
ولتوضيح الفكرة وتقريبها لذهن القاريء سندرج مثالين يمكن توظيفهما في نفس الوقت لخدمة الفكرة الأساسية التي تطرحها المقالة.
المثال الأول  /  إشكالية السجناء Prisoner’s Dilemma    :
في روايته  ” لغز ماري روجت ” ( The Mystery of Marie Roget ) تناول الروائي البوليسي الشهير أدجار ألن بو جريمة قتل كان المفتش المكلف بالتحقيق فيها السيد دوبين على قناعة بأنها ارتكبت من قبل عصابة متعددة الأعضاء وحيث أن المجرمين لم يتركوا أثرا يقود لمعرفتهم فقد لجأ إلى ستراتيجية ذكية لكشف هذه العصابة, حيث أعلن أن أول من يتقدم من أعضاء العصابة للإعتراف بالجريمة وكشف جماعته المشاركين سيمنح عفوا خاصا من العقوبة المترتبة على الجريمة. ورغم أن أفراد العصابة لم يكونوا متحمسين أو راغبين أساساَ بخيانة زملاءهم والتقدم للإعتراف غيرأن خشية كل فرد فيهم من قيام غيره من الأعضاء بالخيانة والإستئثار بالعفو الخاص, خلق لديهم دافعا للتنافس على من يصل للمفتش أولا لغرض الإعتراف قبل غيره.
ومن المؤسف أن ألن بو لم يحاول صياغة التنافس الخياني الذي تضمنته روايته بصيغة رياضية وهو الذي درس الرياضيات أصلا كاختصاص , فلربما أوصلته تلك المحاولة إلى اكتشاف نظرية اللعبة قبل اكتشافها الرسمي بقرن من الزمان.
أن إشكالية السجناء هي أحدى الأمثلة الكلاسيكية لنظرية اللعبة وهي تنطلق بشكلها التقليدي من السيناريو التالي : تصور إنك وشخص متواطيء معك قد أمسكتكم الشرطة في جريمة كبرى ولكن المحقق لا يمتلك الدليل المادي القاطع الذي يقنع المحكمة بتجريمكما وكل ما يملكه يقتصر على قرائن لا تؤدي إلا إلى عقوبة خفيفة. لذلك يلجأ المحقق إلى إستجوابكما كل على انفراد ويعرض على كل منكما على حدة العرض التالي : إذا اعترف أحدكما بالجريمة ولم يعترف الآخر فإن المعترف سوف يطلق سراحه ويحكم على غير المعترف بالسجن لخمسة سنين وإذا لم يعترف أي منكما فسيكون الحكم بالسجن لسنة واحدة لكل منكما أما إذا اعترفتما كلاكما فسيحكم على كل منكما بالسجن لثلاثة سنين . ويعبرعن ذلك وفقا لنظرية اللعبة بمصفوفة الخيارات (الستراتيجيات) وما يترتب عليها رياضياً كالآتي :
                                 هو
                      اعتراف            انكار
                       0 , 5             1 , 1         انكار
                                                                             أنت
                    3 , 3             5 , 0         اعتراف  

ماذا سيكون خيارك ؟ هل ستتبنى ستراتجية الإعتراف أم الإنكار؟ !! . إن من الواضح إذا ما أهملنا أية دوافع أخلاقية أو الميل للتضامن مع رفيق عمل مشترك أو الخوف من انتقام أو الطمع بمكسب أهم من السجن وحصرنا خيارنا بما يحقق المصلحة الخاصة الضيقة فإن الستراتيجية الأفضل هي الإعتراف بغض النظر عن موقف الآخر, فإذا كان موقفه الإعتراف فإن اعترافك يحقق لك عقوبة أخف وهي ثلاثة سنين بدلاَ من خمسة سنين فيما لو لم تعترف , وأذا كان خيار رفيقك عدم الإعتراف فإن إعترافك يحقق لك نتائجا أفضل أيضا لأنك سيطلق سراحك بدلا من السجن سنة واحدة فيما لو لم تعترف أنت أيضاَ.
إن الإشكالية هنا هي أن سعي كل طرف لتحقيق مصلحته سيدفع الطرفين للإعتراف وبالتالي خيانة الرفيق وتكون النتيجة أن يحكم على كليهما بالسجن ثلاثة سنين أي أن العدد الكلي لسنوات السجن للمجموعة هو ستة سنوات وهو أسوأ الخيارات المطروحة إذا ما أخذنا بنظر الإعتبارمصلحة المجموعة وليس المصلحة الفردية . هذا من ناحية ومن الناحية الثانية فإذا كان أحد الطرفين يتميز بالإيثار والإخلاص للرفيق والحرص على المصلحة العامة  فيرفض الإعتراف فإنه سيكون الطرف الخاسر في الصفقة لأنه سوف ينال خمسة سنوات من السجن بعكس الاناني ونهاز الفرص الذي يقوده سلوكه المصلحي إلى الإعتراف فيكون رابحا من الناحية المادية على الأقل حيث سيطلق سراحه.
إن تسمية المثال أعلاه بإشكالية السجناء لاتعني أن هذا النمط من الإشكالية محصور بقضية السجن والسجناء لأنها حالة يمكن تطبيقها على أي موضوع آخريشترك فيه اكثر من طرف في استغلال مورد واحد مشترك حيث تؤدي الرغبة في الإستغلال الأكبروالخشية من استئثار الشريك بحصة أكبر الى تنافس محموم نتيجته الإفراط في الاستغلال الى حد استنفاذ المورد قبل أوانه أو تخريبه وبذلك يخسرالجميع , خذ على سبيل المثال شركتين أو تاجرين يطرحان في السوق منتج أو منتجات متشابهة فهما متنافسان في السوق يمكن أن يخون أحدهما الآخر بتخفيض السعرمنفرداَ في غفلة من غريمه فيكسب السوق كما يمكن أن يؤدي تنافسهما في تخفيض السعر والتخفيض المقابل إلى تخفيض أرباحهما معا أو حتى خسارتهما وفي كل الأحوال فإن التاجر المبدئي الذي لا يغدر بصاحبه ويتصرف بمنطق المصلحة المشتركة سيكون هو الخاسر الأول .
إن هذه الإشكالية يمكن أن تفسر لنا الكثير من الأحداث التاريخية وتلك التي عاصرناها في الحروب والسياسة والتنافس على السلطة والمناصب حيث يخسر حسنو النية والمتمسكين بالمباديء وقواعد الشهامة والأخلاق والمصلحة العامة ويربح البراغماتيون الذين قد يلجأون إلى الحيلة ولا تقيد سلوكهم إية حدود مبدئية أو خلقية في سعيهم لإنقاذ رؤوسهم عند الخطرأولإزاحة منافسيهم والإنتصارعلى خصومهم. ولعل لدى كل قاريء العديد من الأمثلة التي عايشها أو سمع أو قرأ عنها مما يغنينا عن الخوض في تفاصيل عملية وشواهد لإثبات وجهة النظر هذه ونكتفي بأن نذكر بأن أغلب قادة الأحزاب الأيديولوجية المؤمنين حقا بالمباديء التي ينادون بها المتمسكين بقواعد السلوك التي تنسجم مع هذه المباديء والرافضين للإيقاع برفاقهم , هؤلاء أما قضوا في سجون الخصوم أو قتلهم رفاقهم الفائزين بالسلطة والساعين لاحتكارها بأي ثمن ولا يحتملون وجود من يمتلك مؤهلات أوتاريخ حزبي أو نضالي يتفوق على مؤهلاتهم وتاريخهم وبالتالي يذكرهم بضئالتهم عند المقارنة أو يشكل تهديدا لسلطتهم المتفردة آنياَ او مستقبلياَ. ينطبق ذلك على الأحزاب الشمولية في العالم العربي بشكل خاص وعلى بقية دول العالم غير الديقراطية بشكل عام.
المثال الثاني /  نقطة توازن نا ش   Nash Equilibrium Point  :
التوازن يعني أن الأشياء في حالة استقرار, إن فكرة التوازن أو الإستقرار تمثل مبدءاَ أساسيا في فهم العمليات والتفاعلات الطبيعية في حقول الفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة وغيرها من العلوم حيث يوجد ميل طبيعي باتجاه تحقيق التوازن وبالتالي الإستقرار. وبمعرفة موقع أو نقطة التوازن المستهدفة يصبح بالإمكان التنبؤ بمسارالأحداث المستقبلي من خلال تشخيص الطريق المفضي لموضع التوازن. فالحجر الموجود في أعلى التلة من السهل أن نتوقع تدحرجه نازلاَ وصولاَ إلى نقطة استقرار له في الوادي , ولآن الهواء يتحرك من مناطق الضغط العالي باتجاه مناطق الضغط الواطيء سعيا لتحقيق التوازن والإستقرار فإننا نستطيع التنبؤ بتغيرات الطقس. والثلوج المتجمعة على قمم الجبال نعرف مسبقا أنها سوف تسيل في مجاري الأنهار عند ذوبانها وصولا إلى موقع توازنها في البحاروالمحيطات.                                        
وهنالك نوع آخر من أنواع التوازن هو التوازن الحركي , فلوأنك حاولت إذابة كمية كبيرة من السكرفي قدح الشاي فستكتشف أن كمية من السكر ستترسب في النهاية في قعر القدح, إن حالة التوازن هنا لا تعني التوقف التام لعملية ذوبان جزيئات السكر في محلول الشاي والسكر وإنما الحاصل هو تعادل بين ما يذوب من جزيئات السكرفي المحلول مع ما يترسب من الجزيئات من المحلول إلى القعربعملية مستمرة طالما بقي شاي وسكر في القدح. وينطبق نفس المبدأ إلى حد ما على التفاعلات الكيميائية , فعند تفاعل مادتين لإنتاج مادة ثالثة لا تختفي المادتان الأصليتان تماما في العادة وإنما يتم الوصول إلى حالة التوازن عنما تصبح سرعة تفاعل المادتين مساوية لسرعة تحلل المادة الثالثة الناجمة عن التفاعل إلى مكونيها الأصليين لذلك ففي حالة التوازن تبقى الكميات أوالكتل ثابتة لا تتغير سواءَ للمواد الأصلية أو تلك الناجمة عن التفاعل رغم استمرارعمليات التفاعل وعمليات التحلل.
وتخضع المواضيع الإنسانية والسلوك البشري سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات لنفس المنطق . وقد استطاع عالم الرياضيات الأمريكي الحاصل على جائزة نوبل جون ناش البرهنة رياضيا َمن خلال نظرية اللعبة على وجود نقطة توازن ( سميت نقطة توازن ناش ) في أية لعبة أو منافسة  تؤول إليها الأمور في نهاية المطاف فتستقرستراتيجيات جميع الأطراف على الحالة التي أنتجت هذه الاستقرارية, حيث أن التوازن إذا تحقق فلن يكون هنالك أي دافع لأي من اللاعبين لتغيير ستراتيجيته لأن تغييرهذه الستراتيجية سوف لن يقود إلا لنتائج اسوأ بالنسبة له بثبات ستراتيجية الآخرين. فعلى سبيل المثال إن الشخص المنتج لأية سلعة من مصلحته بيعها بأعلى الأسعارولكنه إذا وضع سعرا مبالغا فيه فسوف يعزف المستهلكين للسلعة عن الشراء فيضطر لتخفيض السعر وفي الجانب الآخر فإن مستهلكي تلك السلعة من مصلحتهم  شراءها بأقل الأسعارولكنهم لا يستطيعون إقناع المنتج على تخفيض السعر الى ما دون الكلفة حتى لو امتنعوا عن الشراء لذلك ففي النهاية سيصل السعر الى الحد الذي يرضي المنتج لأنه يحقق له ربحا معقولا و يرضي المستهلك لأ نه يشعر بأن المنفعة التي يجنيها من السلعة تتناسب مع ما يدفعه من سعر فيتحقق التوازن وتتمسك الأطراف باستراتيجيتها التي أوصلتها الى هذا التوازن .                                                                                          وفي المجتمع يتحقق التوازن وبالتالي الإستقرارعندما يكون أفراده بشكل عام قانعين بمواقعهم ضمن التراتبية الإجتماعية السائدة باعتباره أفضل الممكن دون أن يعني ذلك أن كل فرد لا يطمح أو يتمنى احتلال موقع أكثر تقدما ومردودا ولكنه على قناعة بأن تغييرستراتيجيته أوبتعبير آخر التمرد المعلن على واقعه سوف لن يحقق له اية مكاسب اضافية بل على العكس يمكن أن يقوده الى وضع اسوأ (  في المجتمعات الديمقراطية الحرة  ) أو حتى كارثي ( في المجتمعات التي تحكمها الدكتاتورية ). وعليه لن يكون أمام الساعين للتغيير سوى اللجوء الى خطط طويلة الأمد, ضمن الآليات الديمقراطية المتاحة ( في المجتمعات الديمقراطية الراسخة ) , أو العمل السري المنظم من أجل التغييرالعنيف في  ( المجتمعات الدكتاتورية ). ويختل التوازن وتحدث الثورات الجماهيرية عندما تزول قناعة غالبية أفراد المجتمع بوضعهم القائم ( في المجتمعات الديمقراطية ) أو يصل الإحتقان وعدم الرضى إلى الحد الذي يتغلب فيه البعض على مخاوفهم من الأسوأ ( في المجتمعات الدكتاتورية ) وعندئذ لن يحتاجوا غير الشراره على شكل حدث يشعل الثورة فيتجمع الثائرون وتتكاثر أعدادهم ويتشكل الجمهور النفسي الذي ينكسر لديه حاجز الخوف تماما فتندفع الجماهير من أجل التغيير الذي تعتقد بأنه سيحقق لها وضعا أفضل .
إن طبيعة الحكم ونوع العلاقات الإجتماعية التي تحقق التوازن في مجتمع ما تتوقف على عوامل كثيرة ومتشابكة منها ما يعتمد على البيئة الطبيعية المحيطة بالمجتمع ومدى وفرة ونوعية الموارد الطبيعية وكذلك المصنوعة المتاحة لذلك المجتمع ومنها ما يتعلق بالمستوى الثقافي العام للأفراد وبالعقائد الموروثة والقيم والعادات والتقاليد والأعراف التي ترسخت في المجتمع عبر الأجيال المتعاقبة . فمتطلبات التوازن في المجتمعات الصحراوية ضئيلة الموارد هي غير متطلبات المجتمعات الحضرية الغنية, وما يتطلبه التوازن المجتمع الفلاحي في الريف يختلف عن متطلباته في مجتمع المدينة, كذلك فإن النظام الذي يحقق التوازن والإستقرار في المجتمع شديد التدين بشكل عام لا يشابه ذلك الذي تحتاجه المجتمعات التي لا تكترث للدين خارج أماكن وتوقيتات العبادة التقليدية .
وإذا كانت مساحة وطبيعة هذه الدراسة لا تسمح بالخوض في كل العوامل المؤثرة في تحديد شكل ونوع حالة التوازن في المجتمعات العربية التي شملتها ثورات الربيع العربي – أو تلك التي تنتظرفي الدور- بطريقة منهجية علمية نظرية وصولا الى وضع توصيفات رقمية تعبرعن الوضع المجتمعي الحاضر وتتنبأ بملامح الطريق المفضي الى المستقبل المتوازن, فإن بالإمكان استقراء التاريخ وتتبع أحداث المجتمعات العربية وطبيعة واتجاهات التحولات والتطورات التي مرت بها عبر الحقب والقرون واستنباط ملامح نقطة توازن ناش التي تندفع نحوها المجتمعات العربية ,الأمر الذي يشكل منطلقا يمكننا من خلاله صياغة توقع لمسار الأحداث الذي سيلي اندفاعة الربيع العربي. وفي هذا الإطار فإنني سأتعامل مع العراق كأحد دول الربيع العربي رغم أن تغيير الحكم فيه لم يتم من خلال ثورة شعبية ولكن الكثير من الوقائع والأحداث التي تلت الإحتلال تشابه إلى حد كبير ما يجري في بلدان الربيع العربي .
يتبع