17 نوفمبر، 2024 3:32 م
Search
Close this search box.

فيرجوالية .. رواية الحداثة والتجريد

فيرجوالية .. رواية الحداثة والتجريد

بمعزل عن عناصر الرواية الرئيسية، التي يستمد القارئ منها معطيات النص ودلالاته، كتب سعد سعيد روايته ( فيرجوالية) لتكون نصا حكائيا مجرداً، يشكل الحوار عموده الفقري، بغياب عنصر الزمان، الذي يلعب دوراً مهما في بناء النسق الحكائي وتسلسله، وعنصر المكان المسؤول عن منح القارئ منصة لرؤية الاحداث والتفاعل مع بيئتها، اضافة الى افتقادها اهم عنصر في السرد الروائي وهو (الحدث الحقيقي)، الذي يشكل قطب الرحى الذي يدور حوله النص ويستمد منه شرعيته ووجوده. كل هذا الارباك الذي احدثه سعد سعيد في ابجديات السرد الروائي، هو بالمحصلة لا يشكل مثلبة عليه، بقدر ماهو ايذان بولادة اسلوب سردي حداثي، يمكن ان يتواكب مع التطور الحضاري والتقني الذي يشهده العالم، برؤية فنية تفاعلية تستمد ادواتها منه، فهو نص افتراضي غرائبي غير واقعي في معطياته وبواعثه، ينشأ من حصول عطل في حاسوب روائي، ينتج عنه حوارات جدلية افتراضية بين الكاتب ووحدة (SSR2981957-TS) في الحاسوب والتي لم تخلو هذه الجدليات من حضور المنطق والفلسفة فيها.. (SSR2981957-TS لا يفهم معنى كثير من الكلمات يستخدمها بشر مثل فلوس جنس، انثى، رجل، امرأة، شرف، اخلاق، مبادئ وغيرها) بعد هذا الحوار بين انس حلمي مع وحدة SSR في الحاسوب، والذي يطلق عليه اصطلاحا (السرد الكاذب) كون احد طرفي الحوار ليس له وجود حسي على ارض الواقع.. تقرر وحدة SSR الحاسوب بأن تنشر كل حوارات الروائي انس حلمي على مواقع التواصل الاجتماعي (قرر SSR2981957-TS ان يستعيد معلومات محذوفة وينشرها على موقع حقيقة حيث تعود بشر مدير انس حلمي ان ينشر بعض ما يكتب). هذا الحوار الافتراضي الكاذب، يفتح للنص مدخلاً اخر اكثر صدقاً من سببيته، عندما يبدئ جهاز الحاسوب باستعراض حوارات انس حلمي مع مجموعة من اصدقائه والذين كان معظمهم من النساء، وهنا يبدئ سعد سعيد باستخدام ادواته الفنية والمعرفية في صياغة شخصياته وميولها وافكارها وتناقضاتها، بغياب البعد السيميائي عن النص وتفاعلاته البيئية ( تأثيث مكان الحدث) و (التشيؤ: اي ارتباط الابطال بالمكان وتأثيراته النفسية والسلوكية عليهم).
سبع شخصيات مختلفة (بيئياً ومعرفياً وثقافياً ونفسياً وسلوكياً ) اتجاه ثابت معرفي وثقافي ونفسي واحد هو (انس حلمي)، الذي اشار النص في بعض محطاته على انه الروائي نفسه، وذلك بذكر أسم روايته محل النقد (فيرجوالية) وهذا اشعار تطميني للقارئ لإيقاعه بما يعرف ب(وهم الاقناع) اي حضور الروائي في نصه.
حوارات مطولة واخرى مقتضبة، وانتقالات سردية سريعة بين هذه الحوارات، التي تنوعت بين شاخصين رئيسيين هما (الثقافة والجنس) مع الحفاظ على بؤرة علائقية مركزية، هي علاقة البطل انس حلمي مع (روح هائمة) والتي سعى الروائي الى انتشال هذه العلاقة من واقعها الافتراضي الى الوجودي، حين اقدم بطله على السفر الى استراليا لرؤيتها، بعد ان عرفت بطبيعة علاقته الجنسية مع قريبتها ميساء، في انتقالة سردية عمودية، غريبة ومفاجئة تقاطعت مع افقية النص ونسقه الحكائي، الذي اخذ منحاً حوارياً افتراضياً هو اقرب الى ما يسمى ب(مسرح العبث)، فأنتقل النص من التعاطي مع العالم الافتراضي وبواعثه النفسية وتأثيراته على سلوك الانسان المعاصر، الى الحديث عن اخلاق ومبادئ البطل انس حلمي، الذي رفض ان يمارس الجنس مع روح هائمة، لتعارض هذا الفعل مع مبادئه واخلاقه وقيمه السامية.. لكنه برر هذا العمل على لسان بطله في حوار لاحق بينهما :
روح هائمة :لكن أعبرت المحيط الهادئ لتبقى ثلاثة ايام فقط هل انت مجنون ؟
انس حلمي: لقد اخبرتك منذ البداية
روح هائمة: مالذي اخبرتني به ؟
انس حلمي: انني مجنون
ربما فسرت مفردة ( مجنون) الكثير من التذبذب الذي طال شخصية البطل انس حلمي، وتأرجحها بين (الرذيلة والفضيلة، العهر والشرف، الصدق والكذب، المكر والنبل)، وما يفسر جزء من هذا التذبذب، هو الاطار الحكائي العام الذي منحه صفة (الصياد) في العالم الافتراضي الذي زج نفسه فيه هربا من مشاكل زوجية معقدة.. لكنه حاول ان يظهر خلاف ذلك، بلعبه لدور الضحية بين الحين والاَخر، كما في طبيعة علاقته مع (ميساء) التي لقبها بالعاهرة، حين خطط والح عليها لاستدراجها الى لقاء حقيقي كي يمارس معها الجنس، وعندما تحقق له ما اراد، استنكر ما حصل، والقى باللوم عليها .
(فيرجوالية) نص رائد في عالم السرد الروائي، لانه انتهج التجريد كأسلوب حداثوي، متعكزاً على ركيزتين أساسيتين:
اولا: العنوان الغريب (فيرجوالية) الذي اشار الروائي الى معناه من خلال حوار ثقافي بين انس حلمي وروح هائمة :
– اهلا بك في العالم الافتراضي في الفيرجوالية
– ماذا ؟
– الفيرجوالية هي كلمة من اختراعي مأخوذة من (virtual world) وهي تعني العالم الافتراضي.
لكن هذا المصطلح العلمي التقني الذي استنبطه الروائي من مفردتين انكليزيتين، هو قريب من حيث اللفظ والمغزى من مصطلح طبي يسمى (متلازمة فيرجولي): وهو نوع من الاضطرابات النفسية النادرة، التي توهم الشخص أنه يرى جميع الناس شخصًا واحدًا، فأي شخص يقابله سواء يحبه أو يكرهه هو نفس الشخص.
وهذه المقاربة التي ربما تكون قد حدثت مصادفة في العنوان، هي مماثلة لجزء من السلوك النفسي للبطل، الذي اعتمد على الشك والريبة والميل الغرائزي مع كل المتحاورات.. لكن يبقى ما اشار اليه الروائي في تعريف العنوان هو الأساس في تعاطينا مع النص وعنوانه.
ثانيا: العالم افتراضي، الذي زج الروائي ابطاله فيه، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي ونوافذه التي تتيح للمستخدم التحاور مع الاخرين بكل حرية، وتجريد النص من كل ادواته الفاعلة والمؤثرة، التي تشكل دعائم رئيسية للفن الروائي التقليدي، واعتماده على الحوار فقط في ايصال ما يريد، مستخدماً لغة حداثية، وهي الاداة الوحيدة لدى سعد سعيد في ادارة النص، والتي اتسمت بالبساطة والذكاء في انتقاء المفردات، ومراعاة المستوى الثقافي والمعرفي للمتحاورين، وحضور الاصطلاحات الحداثية العلمية والتكنلوجية المعاصرة، وكان يجب ان يبقى النص في هذا الاطار الافتراضي التجريدي، ومنعه من الانزلاق الى الواقع الفعلي، كما حدث في علاقة البطل مع روح هائمة، وتطور هذه العلائق الافتراضية بدافع غرائزي منفلت، لكن الروائي اعادة النص الى واقعه الافتراضي التجريدي من خلال الخاتمة، التي مثلت حوارا افتراضيا كاذبا بين وحدة SSR وبين انس حلمي، عَبر حوار فلسفي يعي جيدا ازمة الانسان المعاصر في هذا العالم المادي وسطوته عليه:
– يا مسكين هذا الذي لن تستطيع اتقانه ابدا ولذلك ستبقى مجرد الة
– قلت لك اني لست بالة
– كائنا ماكنت انت لست بإنسان ولذلك لن تفقه المنطق الحقيقي
– لم افهم ما تريد قوله
– ولن تفهم .. فالإنسان يستطيع ان يخرق المنطق احيانا ومع ذلك يبقى بأمان.

أحدث المقالات