23 ديسمبر، 2024 11:35 ص

فوق لتل … تحت التل – 3

فوق لتل … تحت التل – 3

الرائد الطبيب نافل…ضابط التوجيه السياسي والرفيق البعثي منذ أن كان معي طالبا في كلية الطب .. لم. تغير الرتبة والشهادة والموقع الحزبي من طباعه القروية و أصالته وتربيته.. كان فقيرا وذكيا جدا .. عرفته في الكلية يكتفي بالمحاضرة التي يلقيها علينا الأستاذ .. يحفظها مباشرة .. اضطرته الظروف للتطوع في الجيش وهو طالب في الكلية، فكان لزاما عليه أن ينتمي للحزب القائد… كنا نثق بشهامته ونبله فنتجرأ ونطلق النكات المحضورة التي كثرت أثناء الحرب والتي يكفي سرد أحدها لأرسال راويها الى خشبة الإعدام أو يكون مصيره طعاما للكلاب!!! كان يبتسم وأحيانا يضحك كثيرا  ثم يسكتنا بتهديد قاس .. ثم بعد أن يأخذ نفسا عميقا من سيجارته يعود الى نصحنا بالكف عن ذلك اللهو الخطير.. أحيانا كان يقول محذرا ؛ سبوا عفلق ، أضحكوا على عزت ، ولكن إياكم والسيد الرئيس…. كان في موقع حساس وحساس جدا.. لكنه وأثناء رحلات صيد كنا نقوم بها بين الحين والآخر وحين تهدأ الجبهة، كان يتحرش بنا مستفسرا : أما من جديد!؟ يخلط بين الجد والهزل لكنه لم يتزحزح يوما عن أصالته .. كان يعمل في وسط وسخ مكون من شلة من الانتهازيين والقتلة والمجرمين!!.. لايكتفون بالبحث عن (أعداء الحزب والثورة) بل دأبوا على تأليف القصص ويكيلون شتى الإتهامات للآخرين من أجل الإيقاع بهم وصعود سلم الخزي عاليا نحو قمة القمامة

كنا نناقش المشكلة التي نحن فيها أنا والطبيب نافل.. تجاوزت عليه بما أحفظ من أنواع الشتائم والكلمات النابية وحيث يخلو بنا المكان.. كان يكتفي بالإبتسام.. عاتبته كثيرا واتهمته(جزافا) بأنه كان يستهدفني باختياره لي عضوا في تلك اللجنة ولديه عشرات الضباط الأطباء الدائميين ومن مختلف الرتب والدرجات الحزبية …..أجابني وهو يبتسم : نعم اخترتك لأن ن ض (اب..) أوصلك بتقارير( مدحه!)الى حد الذقن وأنا بهذه اللجنة وضعت يدي على رأسك لكي أرسلك الى قاع البحر..!!

أضاف وقد أغمض عينيه؛ الوقت يداهمنا وهؤلاء الجنود أخواننا وظروف المعركة وساحات القتال تجبر الإنسان أحيانا أن يحتمي بأخيه تفاديا للرصاص..

أرسل إلينا الطبيب العدلي بطائرة حوامة! .. رافقه هذه المرة عقيد استخبارات مرسل خصيصا من قبل قائد الفيلق..!! أصبحت قضية أولئك الجرحى الشغل الشاغل له.. يمكن أنه قد تصور إعدام هؤلاء سوف يعقد له راية النصر وحسم المعركة…

حين قام الطبيب العدلي بفحص جروحهم علق قائلا: وماذا تنتظرون ؟! هذه كلها إصابات متعمدة لا شك فيها!!!

تهلل وجه ضابط الإستخبارات  العضو في اللجنة فرحا وقال وكأن حملا ثقيلا قد أزيح عن كاهله: إذن سوف أخبر السيد القائد بالقرار!!

كنا قد توقعنا مسبقا رأي الطبيب العدلي ،هذا، لكننا ضابط التوجيه وأنا كنا نراوغ من أجل كسب الوقت وإطالته لعل أمر آخر سوف يستجد.. قال لي رائد نافل: سوف يكون لك الشرف بأن تدفن مع رفيق حزبي تكن له الكراهية والحقد منذ زمن طويل!! أضاف : لو اخترت فلان لكانوا هؤلاء قد أعدموا خلال ساعات!! أضافت كلمات زميلي لي دافعا وقوة إضافية للمراوغة والإصرار على إنقاذ أولئك المساكين!! بل كان لوجوده معي وإسناده لي عاملا مهما ومصيريا لمقاومة رغبة القائد…

تذكرت ذلك العقيد الجريح الذي استلته عناصر الإستخبارات من ردهة الطوارئ قبل عام وهو يهتف بحياة السيد الرئيس !! كان قد أصيب  بقفا قدمه اليسرى بإطلاقة شمت رائحتها عناصر المنافقين!! 

 اتفقنا على محاولة إقناع الطبيب العدلي بايجاد بابا من أبواب الرحمة في هذه الورطة .. كان مترددا وخائفا بل مرعوبا من اتخاذ قرارا نهائيا.. قلت له أمام ضابط الإستخبارات: سيدي هؤلاء جنود القوات الخاصة ومن لواء  العقيد كامل ساجت الذي يعتز به السيد الرئيس القائد حفظه الله!! فغر رائد نافل فمه وهو يتابعني .. أضفت:  نعم معظم الدلائل تشير الى انها إصابات  أذية النفس ولكن وجود الوشم البارودي حول الجروح وبداخلها يجب أن يؤكد بالتحليل الكيمياوي ولذا أطلب أن  نقتطع من الجروح أجزاءا ونرسلها الى مختبر الطب العدلي في بغداد لكي لا نظلم جنود القائد صدام حسين!!!

عقدت المفاجأة ألسن الأعضاء حين أقحم إسم السيد الرئيس! ابتسم رائد نافل ولكن ضابط الاستخبارات استشاط غضبا ..!

كانت الساعة قد جاوزت الواحدة بعد منتصف الليل …غادرنا ضابط الإستخبارات حاملا هذا الرأي الى مراجعه ونحن عدنا الى المستشفى … كانت سيارات الإسعاف لا زالت تنقل المزيد من الجرحى والشهداء..

دلفت الى صالة العمليات وأنا خائف من أن تزورني مفرزة من زوار الليل .. في الصباح ذهبت الى مركز الشباب لكي أتابع الجرحى العشرين الذين أخذت جروحهم تتقيح ! كان الراديو يبث أناشيد فرح وانتصار!! 

لاحضت أن المركز يسوده هدوء غريب وغير عادي.. تزايدت دقات قلبي وأصبحت أحسها كدقات مطرقة تكاد أن تخترق أضلعي..  كانت باحة المركز كبيرة وترائى لي أن ممر الدخول أصبح طويلا وطويلا جدا.. كنت أسمع الأغاني وأناشيد الإنتصار وهي تصدح بها مكبرات الصوت كانت تدق في مسامعي كأنها عواء الذئاب!! كانت وجوه جنودي المصابين ماثلة أمام عيني وعيونهم ترنو إلي معاتبة وهم مقيدين ويسحلون نحو خشبات الإعدام… لمحت كلبا قد خرج من باب المركز وقد ولى هاربا حين رآنا وهو يخفي ذيله بين سيقانه الخلفية  بذل وخوف..كانت الردهات خالية .. !! قلت في داخلي : عملوها إذن؟؟!!!سارع جندي بالإجابة على تساؤلي قبل أن أسأل: سيدي، لقد جاء القائد بنفسه فجرا وأطلق سراحهم مستصحبا إياهم للتكريم !! أضاف فرحا: سيدي لقد خاطبهم السيد القائد : أولادي كلكم أبطال وكانت إصاباتكم نتيجة اشتباك بطولي قريب…

ملاحظة أخيرة

( رواية حقيقية عشتها لحظة بلحظة … في اليوم التالي كنت في العيادة الخارجية  لمستشفى العمارة العسكري .. راجعني نفس الجنود وكل منهم معلق على صدره نوط الشجاعة والبعض منهم يحمل توطين… أحدهم كان يحمل على صدره نوط الشجاعة وقد زينت كل من كتفيه نجمة … فصار ملازم ثاني..أثار ذلك لدي تساؤلا فاخترت أحد الجنود المكرمين ؛ زميلي في ثانوية الحي فسألته عن ذلك  وكان لا يزال مكتئبا .. أجاب بانكسار : سيدي لقد كان بالفعل اشتباكا قريبا.. لقد أخذ السيد الرئيس برأي السيد آمر اللواء كامل ساجت ورفض رأي الفخري! أما الملازم الثاني الذي سألت عنه فهو طباخ السيد قائد الفيلق!!!!  ثم أضاف بحزن ..سيدي أرجوك أتركني ! ينتظرني ماراثون من نوع آخر مع صديقي الذي سوف لن يترك صحبتي .. عزرائيييييييل….)

تمت