23 ديسمبر، 2024 6:53 ص

فوق التل .. تحت التل ! – 1

فوق التل .. تحت التل ! – 1

تسع مرات يحتلون التلة ثم نسترجعها… لم تكن معركة؛ كغيرها من المعارك.. لقد كانت مجزرة..( ها وين وصلوا،)؟؟ كان ذلك السؤال الدائم .. لكن الجنود الجرحى كانوا شبه مخدرين!! لا يشتكي أي منهم .. كان البعض مرعوبين!! ويزداد رعيهم كلما قمنا باستكشاف جروحهم… حين كنت أدقق في الجرح وأقوم بفحص أثر الإطلاقة في السروال ، يعلق المصاب: سيدي كان الإشتباك قريبا!! لقد وصلت بنا الحالة للإشتباك بالأيدي !! ثم يضيف ساخرا : لقد أصبحت تلك التلة منجما للرصاص والدم …
كنا قد تعلمنا أن نشخص نوع القذائف المستعملة من خلال أشكال الجروح فهذه إصابة بقذيفة هاون وتلك آثار شضايا قذيفة مدفع ثقيل وتلك أطلاقا دمدم وهذه طلقة رشاشة رباعية لكن الجروح التي حملها المقاتلون في ذلك اليوم قد اختلفت…!!  كانت المعركة مرعبة وتحمل شراسة ليس لها نظير… معركة الفكه !!! كانت معصم الجروح تحمل اثار وشم البارود و بعضها كانت ترافقها حروق .. بل أن بعض الجنود قد أصيبوا بالطعن بالحراب؛ معارك بالسلاح الأبيض!! كان أحد الجنود مصابا لكسور في كلا ساعديه … لم تكن هنالك جروح في جسده !! اثار ذلك استغرابي وسألته متعجبا! كيف أصبت؟ هل تدحرجت؟! قال وهو مترب الوجه والملابس : سيدي لقد انهال علي  ابن العاهرة بعمود خيمة!! بعد أن اشتبكنا بالأيدي وتدحرجنا من الموضع الذي كان في أعلى التل!! انهال علي بذلك العمود وأنا ملقى على الأرض !!  أضاف قائلا : حاولت أن أتفادى الضرب بساعدي وها أنت ترى ! لم يخلصني منه الا رصاصة  اخترقت جبهته !!  فوقع فوقي !! أشار الى الدم الذي نقعت به بدلته ؛ هذا دمه التجس!!لا أدري من أين جاء بالعمود!!؟؟؟
كانت لتلك الإجابة أثرأ حاسما في قراراتي اللاحقة!!
غصت ردهات الطوارئ بالجرحى.. شغلت جميع الأسرة وتمدد الجرحى على الأرض… وامتلأت الخيم التي نصبت في باحة المستشفى وممراته .. كنت أتنقل بين صالة العمليات وردهات الطوارئ…استدعاني آمر المستشفى.. رفست الأرض بقدمي مؤديا التحية .. دعاني الى الجلوس.. لمحت ضابطا من ذوي البدلات الزيتونية الأنيقة جالسا.. لفت انتباهي وجود ثلاثة أقلام تبرز رؤوسها في ذراع قميصه اليسرى.. ضابط استخبرات… أشار الآمر وهو يعرف الضابط بإسمي ورؤيتي واختصاصي!! أوجز الضابط وهو يمد أعلي جسده باتجاهي .. نقيب فلان: هناك عدد من الجرحى يشك بأنهم قد تعمدوا جرح أنفسهم وقد وضعت علامات معينة على استمارات الإصابة الفورية لهم من قبل عناصرها .. السيد قائد الفيلق يأمر بفحص إصاباتهم وقد شكلتا لجنة تضمكم وضابط التوجيه السياسي وعنصر استخبارات .. فيما لو ثبت ذلك سوف يعدمون فورا!!! أضاف: السيد القائد يأمركم بإنجاز المهمة هذه الليلة وخلال ساعات. دارت بي الدنيا وشعرت برغبة شديدة بالتقيؤ .. وأخيرا جاء دوري بالمشاركة ب(حفلات) الإعدام المتكررة منذ أن بدأت هذه المحرقة اللعينة بعد أن نأيا بنفسي عنها مرات كثيرة وعملت خلسة على انقاذ الكثير من المقاتلين وبدون أن يعلموا عن خشبة الإعدام!! كنت حين أشك بجروحهم وفيما إذا كانت إصابات متعمدة أسرع بهم الى صالة العمليات لكي أستأصل كل ما يثير الشك ، بل كنت أقوم بنكث ( قسم أبو قراط) وأقوم بتوسيع الجرح من أجل تأخير شفاؤها!! وإبعاد صاحبها عن جحيم المعارك!! لو اكتشفوني يوما لكنت في عداد الخونة!!!
بعد ساعة أرسل يطلبي ضابط التوجيه السياسي بطلبي.. كان طبيبا من دورتي وكان رفيقا حزبيا ويعرف كل أولياتي منذ أن كنا طلابا في الكلية.. أمسك بي يوما وأنا أحمل ورقة كانت حروف كتابتها دقيقة جدا!! كانت ضمن  ملزمة طبية أعطيتها له سهوا! أعادها لي وهو يبتسم .. قال لي محذرا : لو وقع هذا المنشور بيد غيري لكنت اليوم ضيفا تشرب القهوة مع الرفيق ناظم اكزار!
وجدته جالسا في غرفته وكانت منفضة السكائر ممتلئة..قال لي ساخرا: اليوم سوف نعمدك شريكا في الإقتصاص من المتخاذلين! أضاف وهو يسحب نفسا عميقا من سيجارته: سوف نرقص سوية كالسعادين حول بركة الدم وسوف تثبت( إنشاء الله) وبجدارة ولائكم للحزب والثورة!
غير وجهة الحديث وهو يقدم لي سيجارة بعد أن قام بإشعال طرفها..
– رفيق: لدينا خمسون جريحا مصابا بمقذوف ناري مشتبه به والسيد القائد يصر على معرفة من قام باطلاق النار المتعمد على نفسه لكي يعدم هذه الليلة!! وأضاف: هذه مسألة فنية تخصك أنت بالذات لأنك جراح الكسور الوحيد في مستشفى العمارة العسكري..نحن سوف نوقع بحوافرنا ! على ما سوف تقرره مولانا وسيدنا وتاج رأسنا وشفيعنا في الآخرة إنشاء الله!! مد يده الى جانب ذقنه ودفعها  وسمعت طقطقة فقراته العنقية..
قمنا بفحص الجرحى المقصودين في ردهة معزولة.. كانوا جميعهم مصابين بإطلاقات نارية من مسافة قصيرة! والبعض منها قصيرة جدا وملامسة .. استطعت أن أنفي
تعمد الإصابة عن ثلاثين جريحا مدعيا أن مسافة الإطلاق أكثر من متر!! حيث لا وجود لآثار حروق في الملابس.
بطر من لا يعيش قسوة الحرب ويعايشها.. تكثر الإدعائات ويتفنن الناس بسرد القصص حين يبتعدون عن جحيم المعركة.. ويكذب الكتاب وهم يجلسون على أرائك مريحة أو يحتسون كؤوس الخمرة ويبدأو بالكتابة عن صور البطولة والعنتريات … بل يتقمصون شخصية عنتر ويقحمون صور عبلى وهي تومض مع بريق إطلاقات المدافع..أما نحن فما دخلنا ساحات الوغى ولا توضئنا بدم الأعداء لكننا وبتواضع مغمس بالألم عشنا نتائج ذلك السعير عبر تحطم الأرواح وتمزق الأشلاء وتبعثرها..عشناها وجها لوجه مع ضحايا تلك المعارك … مع ذلك فلن أجرؤ على بخس حق الشجعان من أبنائنا وما بدرت منهم من بطولات وشجاعة ونكران ذات وشيم وغيرة وهم يخوضون أشرس المعارك التي سيقوا اليها بإرادة تجار الحروب ونرجسية الحكام وغطرستهم ….

يتبع