21 ديسمبر، 2024 1:48 م

فهم المعاني بواسطة السياق القرآني

فهم المعاني بواسطة السياق القرآني

عندما يطرح القرآن الكريم قضية معينة ويسلط الضوء عليها لايغفل الأغراض الأخرى المتضمنة للجوانب المتشعبة التي لها صلة في النظم القرآني والأسلوب البياني الذي يجتمع في نسق واحد لإظهار النتائج المستفادة من السياق حتى لايحصل التنافر في طريقة التلقي وذلك مراعاة لشمولية المادة وإخراجها بالصورة التي يتحقق معها الفهم المتداول دون البحث والتنقيب عن أجزاء المعاني الغامضة من الوهلة الأولى، وإن شئت فقل دون الرجوع إلى البحث في المعاجم لاستخلاص المعاني التي وضع لها اللفظ، وبناءً على هذا أعتبر السياق القرآني سياقاً يسيراً وفي متناول الجميع وإن كان ذلك بوجه من الوجوه التي يألفها الناس في تعاملهم بالألفاظ التي اعتادوا عليها كما قال تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) القمر 17.
 
وبالإضافة إلى هذا نجد أن القرآن الكريم يرشد إلى التدبر المتواصل كما في قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) النساء 82. وكذا قوله: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) القتال 24.
 
وهذا اليسر الذي أشارت له الآيات الكريمة يظهر حسب الألفاظ المكون منها السياق في جميع وجوه اختلافه، ولو جردت تلك الكلمات من السياق المقرر لها لأعطت جميعها المعنى الأول الذي وضع للكلمة اصطلاحاً، وهذا ما أشكل على نفاة الترادف في القرآن الكريم، علماً أن الأغراض المترتبة على المعاني لا يمكن الاستدلال عليها عنوة إلا من خلال القرائن المصاحبة للألفاظ أو الحالة التي نزل بها القرآن الكريم.
 وكذلك اللوازم المحددة للسرد القرآني سواء في القصص أو الوعظ وصولاً إلى آيات الأحكام وكذا المعنى المستخلص من فحوى الكلام ومقامه. ومن هنا يظهر لنا أن الجو العام للسياق القرآني هو الذي يحدد المدلول النهائي الذي يقف عنده المعنى سواء كان ذلك في الأثر الراجح للمصاديق الناتجة عن اللفظ أو التعريض والكناية وكذا التشبيه أو الاستعارة وغيرها من الأدوات التي يفهمها أصحاب الذوق السليم.
 
بعد كل هذا يظهر أن للسياق الأثر الفاعل على كشف المغطى من المعاني التي رسمها اللفظ، أما في حالة تفريق السياق أو إتباع الظن في عدم الأخذ بالترادف نكون قد أخطأنا الطريق السليم الموصل إلى البغية المنهجية التي تجعلنا أمام البينة المستخلصة من كتاب الله تعالى.
 
ومثالاً على ذلك فإن قوله تعالى: (الشمس والقمر بحسبان***والنجم والشجر يسجدان) الرحمن 5-6. لايمكن أن نفهم منه أن المراد من النجم هو الكوكب المتعارف عليه لأن ذلك يقتضي عدم مطابقة النظم للتقابل الحاصل بين النجم والشجر، ومن هنا لابد أن نفهم أن الأصل الذي وضع لمعنى النجم يترتب عليه الظهور بكل أبعاده التي يتقرر بموجبها ربط الألفاظ بعضها بالبعض الآخر حتى يتم الحصول على الدلالة المستخلصة من معنى النجم حسب السياق الذي يحل فيه، ولما قرنته الآية المبحوث عنها بالشجر فمن الطبيعي نفهم أن المراد منه هو النبات الصغير الذي يظهر دون ساق حتى ينتظم هذا المعنى مع السياق الظاهر في الآية، ولعمري إن هذا لهو الأصل في معنى الوضع، حيث لو جردنا أي نوع من الكلمات عن السياق المقرر لها سواء في الشعر أو النثر، لابد أن تكون مقلوباتها مجتمعة على أصل واحد، لذلك نجد أن السياق القرآني هو الذي يحدد لنا اختلاف المعاني مع الحفاظ على أصلها الثابت أو ربما يأتي بها على طريقة المشاكلة أو التهكم كما في قوله تعالى: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصديةً فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) الأنفال 35. وكذا قوله: (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم) آل عمران 21. وكررت هذه البشرى في التوبة والإنشقاق، ومن الطبيعي لايتبادر إلى الأذهان أن المكاء والتصدية من الصلاة وكذلك البشرى لاتأتي مع العذاب وهكذا.
 
ولو تأملنا أكثر في متفرقات القرآن الكريم نجد أن هناك بعض المفاهيم التي تختلف مصاديقها حسب المادة التي يتطرق لها السياق، ومثالاً على ذلك فإن مفهوم الظن في اللسان العربي يعني العلم المتأرجح بين الشك واليقين وفي بعض المعاجم نجد أن الظن يطلق ويراد به اليقين مجازاً ولو تأملنا مورد الظن في الآيات القرآنية نجده يطلق في بعضها ويراد منه اليقين المطلق كما في قوله تعالى: (قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة) البقرة 249.
وكذا قوله: (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون) البقرة 46. وكذلك قوله: (وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض) الجن 12. ومنه قوله: (وظن أنه الفراق) القيامة 28. وقوله: (إني ظننت أني ملاق حسابيه) الحاقة 20. فجميع هذه الآيات تطلق الظن وتريد به اليقين، ويستفاد ذلك من القرائن التي تحدد المعنى من خلال وضعه في السياق القرآني للآيات.
 
وقد يطلق الظن ويراد به الشك كما في قوله تعالى: (ومنهم أميون لايعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون) البقرة 78. ومنه قوله: (ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء) الفتح 6. وقد يكون الظن هنا بمعنى توجيه المسؤولية إليه جل شأنه لذلك عقب بقوله: (عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيراً) الفتح 6. وهذا كقوله: (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين) فصلت 23.
ومن هنا يظهر أن قوله تعالى: (وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه) الأنبياء 87. يمكننا حمله على اليقين إذا فسرنا قوله: [لن نقدر عليه] بمعنى عدم التضييق وعلى الشك إذا فسرناه بعدم الاستطاعة والأول أقوى لدلالة الكلام عليه وتنزيهاً للأنبياء.
 
وقد قابل تعالى الظن بالحق في قوله: (إن الظن لايغني من الحق شيئاً) يونس 36. ولذلك ذم تعالى الظن في قوله: (إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون) الأنعام 116. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن كل ظن في القرآن الكريم من المؤمن يعتبر من اليقين، أما إذا ذكر على لسان الكافر فهو من الشك إلا أن هذا مردود بقوله: (وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض) الجن 12.
 
هذا وهناك كلمات ومصطلحات أخرى تأخذ هذا الإتجاه كما هو الحال في كلمة [أمة] التي يختلف معناها نظراً لورودها في السياق، فقد تطلق ويراد بها أمة الرسالة كما في قوله: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) آل عمران 110. ويراد منها الأمد كما في قوله تعالى: (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة) هود 8. وكذا في قوله: (وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة) يوسف 45.
 
وتطلق الأمة ويراد منها الإمام المقتدى كما في قوله: (إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين) النحل 120. وقد تطلق ويراد بها الدين أو الطريقة المتبعة كما في قوله: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) الزخرف 23. وكذلك تطلق على الجمع من الناس كما في قوله: (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون) القصص 23. وقد تستعمل في الفرقة أو الطائفة كما في قوله تعالى: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) الأعراف 159.
 وهذا يجري في كثير من الكلمات التي يتغير معناها حسب السياق القرآني مع الحفاظ على أصل الوضع كما هو الحال في كلمة [آية] التي تأتي بمعنى العلامة أو الحجة والدليل كما في قوله: (آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً) مريم 10. وتأتي بمعنى البنايات الظاهرة كما في قوله: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون) الشعراء 128. وتأتي بمعنى الآيات الكونية كما في الليل والنهار وكذلك تأتي بمعنى الآيات القرآنية وهذا التطابق في اللفظ والاختلاف في المعنى لايؤثر على أصل الوضع وإنما يأخذ الإتجاه العرضي للمعاني حسب ورود الألفاظ التي يظهر معناها بواسطة السياق القرآني.