لم اسمع بهذا الشاعر من قبل، إلا عن طريق مجلة العربي الكويتية، يوم كتبت عنه الأستاذة سعدية مفرح (*) عام 2001 وقبلها ما كتب عنه بالمجلة ذاتها الأستاذان يعقوب السبيعي ومحمد عبد الله (**) في مقالة مشتركة عام 1992، فهو شاعر بارز بين عدد جد قليل ممن أنجبتهم الكويت من شعراء..
هذا شاعر موهوب لكنه سيء الحظ، عاش ورحل في زمان ومكان غريبين عليه وهو غريب ومستلب فيهما..عاش في جدب موحش وفقر ثقافي، وفي مجتمع متخلف محافظ الى حد التزمت، مثقل بعادات وتقاليد بالية لا ترحم..وفي ظل هذه الظروف تفجرت شاعريته التي تنم عن ذكاء ثاقب وإحساس مرهف، وكانت شموعه في هذا الظلام الحالك هو ما يطالع من كتب نزرة ومجلات عربية تصدر في القاهرة وبيروت وبغداد ودمشق يتنسم فيها طعم الحرية ويتقوى بها في تمرده على المجتمع الذي يعيش فيه كياناً منفصلاً عنه وجداناً وشعورا، فتفجرت قريحته بشعر صادق هو مرآة نفسه الثائرة المتمردة الرافضة لعقد اجتماعي وأعراف لم يخترها وإنما فرضها عليه قدرٌ ضالٌ فرضا..هو لم يشهد من نعيم الكويت البترولي ولا من تجددها وتمدنها شيئاً بل شهد جحيمها في بلاد مصحرة مقفرة يغلب عليها طابع البداوة..
إذن؛ نحن أمام شاعر رائد من الكويت، وما أندر شعراء الكويت وما “أبخس” البضاعة حين تكون من شاعر ثائر متمرد لا يراعي عُرفاً ولا يعبه بتقاليد ثقيلة كأنها قيود رصاصية!
ولد الشاعر فهد العسكر الظفيري في مدينة الكويت عام 1917 أو قبلها بعامين أوثلاثة لعائلة دينية محافظة،ربها يعمل إماماً لأحد المساجد ومعلّم لقراءة القرآن فيه، وتعلم الصبي فهد قراءة القرآن على يدي والده، ثم التحق بأحد الكتاتيب ليتعلم القراءة والكتابة، ويلتحق بالمدرسة الرسمية ويتخرج منها عام 1930وزاد عليها في المدرسة المباركية سنوات قليلة، وكان طفلاً شديد التدين، يصحبه والده للمسجد غدوّا ورواحا لأداء الصلوات..
ولما شبّ عن الطوق بدأ يجرب كتابة الشعر وبرز به في بلد لم يجد له فيه منافساً إثر ماتحصل عليه من خزين أدبي من مطالعاته النهمة.. وضاق بالكويت ذرعاً وضاقت به هي الأخرى أشد الضيق، فأرسل للملك السعودي عبد العزيز بن سعود عن طريق ممثله في الكويت قصيدة يمتدحه فيها، فدُعي الى الرياض ليُعيَن كاتباً في ديوان ابن الملك، محمد بن عبد العزيز في جنوب المملكة قرب اليمن، فضاقت السعودية على سعتها في عينيه، والتمس من الملك أن يعود من حيث أتى إلى الكويت، فأذن له!
وزار العراق وتحديداً البصرة يوم كانت ترفد الكويت بما يحتاج من مواد غذائية وماء وكذلك ما يصلها من كتب ومجلات شكلت غذاء فكرياً وروحياً وأذكت في خاطره الشعري شعلة التمرد على كل ما هو سائد من قيم بالية، وثار على الدين ثورة عارمة .. تسببت له بعزلةٍ ونبذ اجتماعيّ من أقرب المقربين من أهله وعشيره و جل أصدقائه..فله في قصيدة “كفي الملام” وفي قسمها الوطني يفرغ فيها كل همّه في وطن اعتبره سجناً لابن البلد وفردوساً للغريب نقتطف منها ما يأتي:
وطني وما أقسى الحياة – به على الحر الأمينِ
وألذ بين ربوعه – من عيشة كأس المنون
قد كنتَ فردوس الدخيل – وجنة النذل الخؤون
لهفي على الأحرار فيك – وهم بأعماق السجون
ودموعهم مهج وأكباد – ترقرق في العيونِ
ماراع مثل الليث يؤسر – وابن آوى في العرين
والبلبل الغريد يهوي – والغراب على الغصون
وتتسم كباقي شعره في صدق التعبيرعن لوعة غربته في وطنه بلغة منسابة مكثفة وتصوير دقيق لأحاسيسه وأفكاره وحلمه بوطن غير هذا الذي يعيش فيه ولا يملك من حطامه غير الألم والمعاناة والعزلة والشكوى المريرة..
وعاقر الخمر وتمادى فيها الى حد الإدمان.. وطرد من بيت والديه، وأحرق والده كل ما وقع بين يديه من شعر ابنه متهماً أياه بالمروق والكفر وأنه خيّب آماله وأصبح مجلبة للعار.. ولم تعطف عليه سوى أمه الرؤوم الحنون.. التي خصها بقصيدة طافحة بالألم وهي عنوان شعره وأكثرها تعبيراً وأغزرها سرداً شعرياً مكثفاً بانسيابية صافية ونسج رقيق الحاشية، ولعل ما يثير الانتباه أنه لا يكتفي بمعاناته النفسية بل يصف مرض السل الذي يفتك به بأسى بالغ:
كَفّي المَلام وَعلّليني – فالشّكُ أودَى بِاليَقينِ
وَتَناهَبَتْ كَبِدي الشُّجون – فَمَنْ مُجيري مِنْ شُجوني
وَأمَضَّني الدَّاء العَياء فَمَنْ مغيثي؟ مَنْ مُعيني؟
الله يا أمّاه فيَّ ترفّقي لا تعذليني
وتصل الشكوى ذروتها مصحوبة باستعطاف، مبرر حالته شارحاً مرضه لأمه التي بقيت معه ولا حول لها ولا قوة:
أَنا شاعر, أَنا بائِسْ – أنا مُسْتَهام, فاعذُرِيني
أَنا مِنْ حَنيني في جَحيم – آه مِنْ حَرِّ الحَنين
أنا تائِه في غَيْهَبِ – شَبَحِ الرَّدى فيه قَريني
ضاقت بِيَ الدُّنيا دَعيني – أَنْدِبُ الماضي دَعيني
وأنا السجين بعقر داري – فاسمعي شكوى السجين
ضاقت بي الدنيا دعيني – أندب الماضي دعيني
بهزال جسمي باصفراري- بالتجعد بالغضون
أي تناص هذا الذي يبدو بينه وبين الشاعرعلي الشرقي (1890- 1964) في البلبل السجين، حين يقول الشرقي:
وما بلد ضمني سجنه
ولكنه قفص البلبلِ
ترفُّ جناحاه لم يستطع
مطاراً فيفحص بالأرجلِ
لقد أقفلوا باب آماله
فحام على بابه المقفلِ
وتستمر دوّامة المعاناة حتى في ذكره حبيبته ليلي حين يلوذ بها هي الأخرى بعد والدته مستعطفاً إياها ألا تهجره فلم يبق له أحد يبثه شكواه وبلغ التوسل والاستعطاف ذروته في التكرار البلاغي في “ليلى تعالي” أو حبيبته مضافاً لضمير الشاعر المتكلم “ليلاي” للتحبب والترجّي:
ليلى تعالي زوديني – قبل الممات وودعيني
ليلى تعالي واسمعي – وحي الضمير وحدثيني
ليلاي لا تتمنعي – رحماك بي لا تهجريني
ودعي العتاب إذا التقينا أو ففي رفق ولين
ويستغرق الشاعر في تفاصيل محنته مع الذين ناصبوه العداء وقذفوه بشتى التهم وشوهوا سمعته دون حق ودون وازع من ضمير، ويذكر التهم الباطلة من شذوذ ومُجون وخلاعة ووتصل الى أعلى رتبة وهي التكفير، ويفند هذه التهم الباطلة ويرد كيدها على متهميه ويؤكد أنه أشرف منهم سجيّة وأنقى ضميرا.. ثم يختتمها بتضمين قرآني: لكم دينكم ولي ديني..
وهناك منهم من رماني – بالخلاعة والمُجون
وَتَطاولَ المُتَعصِّبون – وَما كَفَرْت وكَفَّروني
وأنا الأَبِيّ النّفس ذو – الوِجْدانِ والشّرَفِ المَصونِ
اللّه يَشْهدُ لي وما – أنا بِالذّليلِ المُسْتَكينِ
لا دُر دِرهَم فَلو – حُزْتُ النّضار لألّهوني
أو بِعْتُ وُجداني بأَسْواقِ النِّفاقِ لأكْرَموني
أَوْ رُحتُ أحرِقُ في – الدواوين البُخور لأنْصَفوني
يا قَوْمُ كُفّوا دينَكُم – لَكُمْ وَلي يا قَومُ ديني
ومما يلفت النظر في هذه القصيدة التي أعتبرها أهم ما تبقى من شعر الشاعر، أنها تحكي محنة الشاعر وتشرح استلابه وأسباب الاستلاب، وهي مغرقة في التفاصيل التي تُشبه تفاصيل ابن الرومي، كما نجد في السرد التعليل والاستعطاف من محبيه؛ وفيها الشكوى المريرة من جور الزمان و محنته مع المجتمع الذي لا يرحم..وهي طافحة بمعاني الشكوى من ظلم لحق به وتهم باطلة ألصقت به من أناس فارقهم ضميرهم.. وهو يدفع عن نفسه غائلة التهم ويفندها كأحسن ما يكون التفنيد..بلغة شعرية تتسم ببساطة السرد وسلاسته وحسن تسلسله بعيداً عن التعقيد اللغوي والتكلف.. فشعره ينساب، على مجزوء الكامل، والقافية هي النون المكسورة، وهذه قافية سهلة ثرّة، والنونيات عموماً استخدمها كبار الشعراء مثل الجواهري ” دجلة الخير” و”جربيني”، وابن زيدون بنونيته الشهيرة، ولسهولة هذه القافية استخدمت في المطولات الدينيه والزهدية مثل نونية ابن القيم ونونية أبي الفتح البستي…
ولا بدّ أن أقول أن قصيدة “كفّي الملام” للشاعر فهد العسكر تذكرني بقصيدة الشاعر هاشم الكعبي الذي يقول فيها:
لو كان في الربع المحيلِ – برءُ العليل من الغليلِ
كفّي أميمة من ملامك – ما المعزي كالثكولِ
وليس في الأمر غرابه فهاشم الكعبي أهوازي ومن شعراء الطف المشهورين، ولطالما تلقى قصائده في المجالس الحسينية في العراق والكويت! والقصيدتان من البحر ذاته مع اختلاف الروي.. ولا يحسن المقارنة بين القصيدتين، فقصيدة الكعبي الذي عاش في القرن الثالث عشر الهجري(ت 1221ه) أمتن لغة وأحكم سبكاً وأحسن بلاغة وتصويراً وأرق وأجزل لفظاَ، والفرق كبير بين تجربة الشاعرين فالكعبي أطول تجربة وأكثر مراناً..وهذا لا يقلل من شاعرنا فهد العسكر قط.
وهذه ثلاثة أبيات من قصيدة أطول بعنوان “ليلة” لم يبق منها الا ثلاثة:
ليلة ذكرياتها ملء ذهني – وهي في ظلمة الأسى قنديلي
ليلة لا كليلة القدر بل خيرٌ وخيرٌ والله من ألف جيل
أنا ديني الهوى ودمعي نبيي – حين أصبو ووحيه إنجيلي
هذه الليلة القصيرة المتوهجة في داخل الشاعر بددت الظلمة وهي لها قدسية الحب التي تُشبه ليلة القد بل خيرمن ألف جيل وإذا أدركنا إن الجيل في حساب الزمن 30 عاما، فاحسبوا كم تكون؟ ثلاثين ألف سنة!! ثم يعلن الشاعر فهد العسكر أن دينه كدين سابقه ابن عربي الذي اتخذ من الحب ديناً وإيمانا!!
ومن خلال إلقاء نظرة متفحصة نجد أن هناك تفاوتاً في المستوى الفني للقصائد من ناحية السبك ومتانة اللغةوالقدرة التعبيرية وحسن التصوير والتراكيب البلاغية.. ففي قصائده الملتاعة على الرغم من التكرار في الفكرة وفي المفردات وبساطة السرد إلا أنها أكثر صدقاً وانسيابية كما مرّ معنا وسيتأكد ذلك في قصائد أخَر، وتفسير ذلك أن القصائد كتبت بمراحل عمرية مختلفة، وأن الشاعر لم يلتزم بدراسة ممنهجة للأدب عموماً والشعر خصوصاً، وإنما اعتمد على التثقيف الذاتي من خلال ما يقرأ في المجلات على الأعم..
ودونكم هذه القصيدة التي تعبر عن حسه القومي والتي يستنهض بها العرب لكي يستفيقوا من سباتهم ويعيدوا مجدهم التليد، ومن الواضح تأثره بقصيدة إبراهيم اليازجي (1847-1906) الذائعة:
تنبهوا واستفيقوا أيها العربُ – فقد طمى الخطْبُ حتى غاصت الرُّكَبُ
وتبدو قصيدة العسكر لينة الشكل، بسيطة اللغة، خفيفة الوزن، فاترة القافية، ولا تتناسب مع حرارة الموضوع:
يا بني العُرب إنما الضَّعفُ عارٌ – إي وربّي سلوا الشعوب القويّهْ
كم ضعيفٍ بكى ونادى فراحت – لبكاه تقهقه المدفعيه
لغةُ النارِ والحديد هي الفصحى – وحظ الضعيف منها المنيهْ
ها هي الحرب اشعلوها – فرحماك الهي بالأمة العربيه
غيرُنا حقق الأماني وبتنا – لم نحقق لنا ولا أمنيه
فمن الغبن أن نعيش عبيداً – أين ذاك الإباء؟ أين الحميه
وفي قصيدة أخرى وجدانية شاكية مرارة العيش، يتعمق لديه الشعور بالعزلة وهجر الأحبّاء، فيجد بالشمول خير جليس وأنيس، يبثها همومه فتسمع شكواه وتخفف عنه كربته وتشرح مزاجه، وتجعله ينسى همومه ولو الى حين حيث يقول:
لا الروض روضٌ ولا الصهباء صهباءُ – ولا الندامى ميامين أحبّاءُ
شطّ المزار فلا طيفٌ ولا أملٌ – أين الأخلاّء لا عاش الأخلاّء
حوّاء أوذاه من داءٍ تأصل في – قلبي الدوا واستفحل الداء
ومن لواعج شوق قطّعت كبدي – حتى رثى ليَ أعداءٌ ألداء
ومن الواضح أيضاً أن هذه القصيدة تقليدية، تتكر فيها المعاني التي امتلأ فيها ديوان العرب حتى أن العبارات مألوفه ومسموعة من قبيل ” لا الدار دار ولا الخلاّن خلاني!” ولله در البهاء زهير ” تذللتُ حتى رقّ لي قلبُ حاسدي”، ولكن هذا النوع كان شائع في ثلاثينات وأربعينات وحتى خمسينات القرن الماضي فيها شيء من عقابيله!! ولم تتعزز مرحلة التجديد والتحديث في الشعر بعد، وإنما إرهاصات بطيئة تعقب التغيرات السياسية والاجتماعية الكبيرة تقدماً وانتكاسا!
استفحل المرض على الشاعر وفتك برأتيه فتكاً ونخرها نخراً وساءت حالته النفسية نتيجة العزلة والنبذ الاجتماعي لكن أحاسيسه بقيت مرهفة وقريحته فيّاضة، ولم يعتنِ هو بشعره أو يشذبه لكي يطبعه.. فبقي موزعاً عند أصدقائه أقله أما اكثره الذي احتفظ به في بيته فأطعمه والده للنار دون رحمة!
توفي الشاعر المتمرد الذي لم يتراجع عن آرائه وحيداً في الخامس عشر من آب عام عن أربعة وثلاثين عاما1951، وصلّى عليه مجموعة من شيعة البهرة وإمام جامع من معارف أبيه..
تولى جمع ما تبقى من شعرة صديقه الأديب عبد الله زكريا الأنصاري وكتب شيئاً عن سيرة وطبع في كتاب على حسابه عام 1951..
وكعادة العرب ُينكرون مواهبهم في حياتهم ثم يُكرمونهم بعد مماتهم.. صدر طابع بريدي من دولة الكويت يحمل صورة واسم فهد العسكر ، وسمّت وزارة المعارف مدرسة ابتدائية باسمه، وأخرج التلفزيون الكويتي مسلسل بالفصحى يحكي حياته!!
——
(*) سعدية مفرح، فهد العسكر شاعر الكويت في ذكراه الخمسين، مجلة العربي ، نوفمبر 2001.
(**)يعقوب السبيعي، د. محمد حسن عبد الله، الشاعر فهد العسكر، العربي، فبراير 1992.
يمكن مراجعة:
فهد العسكرحياته وشعره، عبد الله زكريا الأنصاري، ط5 الربعان، الكويت 1997،وهو مجموعة قصائد جمعها صديقه عبد الله زكريا الأنصاري، وهو ليس ديوان..
كما يوجد العديد من قصائد الشاعر فهد العسكر على بعض المواقع يكتنفها كثير من الأخطاء.. مثل ديوان العرب، وأدب وفن…
2ت1/اكتوبر 2018