عرف المسرح ، منذ القدم،عدداً من الأنواع الفنية المسرحية ، ومنها الـ(البانتمايم) ، وهذا النوع يؤدي فيه الممثل، أو الممثلون ، أدورهم ،عن طرق (الجسد) عبر حركات إيمائية مع استثمار الإشارة، ويعود ، في أصله إلى المسرح اليوناني، ويشارك هذا الفن نوعاً آخر من المسرح هو الـ (مايم) ، وفي اليونانية يعني (التقليد)،وهما وان اقتربا في شكل أداءهما التعبيري، إلا أن لكل منهما بعض اختلافه عن الآخر.( فالمايم) تكون الحركة والإيماءة عماد المشاهدة ، في حين (البانتو- مايم) يمكن أن تتخلله أصوات وموسيقى وحوار قصير. يؤكد بعض الباحثين في الشأن المسرحي ، أن (البانتو- مايم) ظهر كفن في القرن الخامس (ق . م) في اليونان واعتمد على الارتجال ، وابتدأ في احتفالات ( ديونونسيوس) اله الخمرة والحب والخصب ، الذي تقام عبادته في الربيع ، وتتخلله إيماءات جنسية ، عبر (باخوس) عند الرومان و (تموز) عند العراقيين القدماء . بينما بعض الباحثين، في تاريخ المسرح العالمي، يُـرجع أصوله إلى جهات عدة عرفها التاريخ الإنساني وأكدتها المكتشفات والبحوث ( الاركيولوجية ) ، ومنها: القبائل البدائية ، واحتفالات السومريين والبابليين والفرس والفراعنة والصينيين واليابانيين والشعوب الأخرى.وكان يؤدى من قبل شخص واحد ، وقدم كذلك (شعرياً) بمصاحبة مؤدي، يعد بمثابة ((ممثل آخر)) نيابة عن الشاعر. وفي حقب زمنية أخرى ،ظهر بعض الراقصين في جنوب الهند،يطلق عليهم (بهاراتا ناتيام) يصورون أجزاءً من القصص بالإشارات والحركات الراقصة ، إما في مسرح (النو) الياباني فوجد (ممثل) يؤدي فواصل صامتة،ويقرر بعضهم ،أن للـ(مايم) كذلك، أصل هو (البانتو- مايم) من المسرح ، ولا يزال حتى الوقت الحاضر.وهذا الفن لم يأخذ حظه عند العرب مع إن مسرح (خيال الظل) نشأ في القاهرة أيام الفاطميين وهو قريب من هذا الفن،يمكن حول ما ورد أعلاه مراجعة كثير من المصادر باللغة العربية وشبكة الانترنت العالمية، ونؤكد على استفادتنا منها. بحدود اطلاعنا فان معاهد وكليات الفنون في العالم العربي لا تُدّْرس، فن (البانتو- مايم)، ولا تشير له حتى ، و ما قام به بعض الممثلين العرب في هذا المجال ليس غير جهود ذاتية ، لعل ما قدمه الدكتور (سعدي يونس)،بجهوده الشخصية، خلال مرحلة السبعينات في بغداد فقط ،مع محدوديته، لازال في الذاكرة. ليس (للمايم و البانتومايم) من شكل واحد ولم يكن صامتاً تماماً، فقد كان يحتوي على أصوات وكلمات وموسيقى وجمل حوارية قصيرة،وثمة فعاليات مجاورة لهذا الفن في عصرنا الراهن، نتيجة انعدام الحدود بين الفنون ، فنلمس العروض الرياضية- العالمية ، تعتمد الـ (بونتو- مايم) ، ومنها ما يقدم في الألعاب الأولمبية وغيرها ، كما تعتمده بعض الحركات الجماهيرية الاحتجاجية ، وحتى ممارسات الشعائر الدينية، و كلها تنتمي إلى إظهار المشاعر والانفعالات وتكون على شكل حركات ( بانتو- مايم) كفن يتعامل مع البشر كمؤدين ومتلقين ، ويستطيع تجسيد الأشياء عبر فضاء العرض المسرحي. وهو ما استثمره الكاتب المسرحي “عبد الحليم مهودر” في :” الصمت:..أنهُ الصمت”* الذي احتوي على ثماني مسرحيات “مايم- بانتوميم” هي :” النقد، القلم والورقة ، شعاع الماضي القريب، أطوار، شخابيط ،النقطة الخيط ، العيون..التي، قتل الصمت”. وسعى عبرها، للربط بين السرد والكتابة للمسرح ، وفن الـ”مايم- بانتوميم” بالذات ،وحاول فيه استغلال كل الفنون التي توظف قدرات الجسد الإنساني على النطق ، معتمداً على إن بلاغة (الجسد الإنساني)، في توصيل ما يريده الفكر، من خلال الحركات والأفعال الإيمائية. نلاحظ إن نصوص” الصمت ..أنهُ الصمت” تتلاقح مع السرد والنص المفتوح ، من خلال تحويل المشاهد الصامتة إلى فعل كتابي ،ففي نص ((النقد))،مثلاً تحدد الشخصيات بالتالي : البهلوان ،الأبيض،الأسود،الأصفر،الأحمر،الأخضر،الأزرق ، ويوضع صندوق مكعب في وسط المسرح ،ولكل وجه لونه ،مع خلفية لحيوان خرافي – بهلوان، ليس فيها جميعاً ألوان الصندوق، وكل شخصية تحمل عصا ملونة، بألوان باهتة (ص6 – 9 )، وهو ما يجعل هذا النص اقرب إلى مسرح الطفل ، كونه ينطوي على مكونات وعناصر خاصة بمسرح الأطفال ، وثمة غيره كذلك في “الصمت ..أنهُ الصمت”،والتي تعد نصوصاً مسرحية تحتاج إلى تقنية متقدمة وحديثة مع ممثلين لهم الدربة والخبرة والممارسة المسرحية الاحترافية. الـ “مايم- بانتوميم” للكاتب المسرحي ” مهودر” يعد بمثابة (ثماني مغامرات) حرث فيها بأرض بكر. ومع أهمية هذه النصوص لكن لا توجد إمكانية تنفيذها عملياً،كون (المايم)هو حركة الجسد والإيماءة دون الحوار، ومن المعروف ، توثيقياً ، إن أول لقاء مع فن (المايم) جاء عبر السينما الصامتة. أن نصوص الكاتب المسرحي “عبد الحليم مهودر” مفتوحة وتترك القارئ – المتلقي لهذا النوع من النصوص، حراً في تعامله معها ومع مكوناتها المسرحية. الكاتب (مهودر) في ما قدمه ، قام بتحويل الـ”مايم- بانتوميم” إلى الكتابة ، ويمكن عدها بمثابة أعمالاً استثنائية، لكن هذا النوع من الأعمال المسرحية لا يمكن اختزالها بالكتابة فقط ، بل بالفعل المسرحي للعرض المباشر على الجمهور،ويقوم بتوصيل خطابه عن طريق الحركات الجسدية والإيماءات، ونلاحظ أنه عمل على تنوع الشخصيات فيها ،وكذلك عددها ففي بعضها يكون العدد (7 ) شخوص ، وفي غيرها يتجاوز عددها(21 ) شخصاً – نص (شعاع الماضي القريب) (ص 59 ) ،وتتبادل التشخيص في ما بينها، فبعضها يؤدي (أربع) شخصيات على التعاقب ، و في بعض النصوص ،ثمة ( شخصية واحدة) فقط ، كما في (الخط) ص (73 ) وغيرها ، وبعض النصوص تألفت من فصول متعددة، وأخرى من فصل واحد ، ولكن بمشاهد متعددة، وقد تمكن- الكاتب مهودر- من ترحيل بعض النصوص الموجودة في” الصمت ..أنهُ الصمت”، إلى مسرح الطفل ، لكن لا يمكن لأي نص التعامل معه لـ(مسرح الأطفال)،إلا من خلال المعالجة الإخراجية والفكرية واستخدام التقنية المناسبة . ومن الصعب الذهاب إلى قسرية التأويل باتجاه واحد لبعض نصوص “الصمت ..أنهُ الصمت” ، فكلما اتسعت محاولات تأويلها فأنها ستصل إلى مدى أرحب وأغنى.في الغلاف الأول والمتن نلاحظ الكاتب (مهودر) يجنس كتابه بكونه ((مسرحيات مايم/ بانتومايم ))، لكنه يستبدله في الوجه الثاني للغلاف بـ” كتاب مسرحي”؟!. لذا يمكن أن يقرأ العنوان الموازي،للتأكيد على فرادة المتون التي احتواها الكتاب ، وهي إشارة غير مضمرة ، و تقترب من مقاصد المؤلف كعلامة دالة،كما يمكن اجتراح مقاصد أخرى حول (الكتاب) بوصفه الثاني ، المذكور، اعتماداً على نظرية التلقي الحديثة التي تمنح القارئ الحرية في تأويله الخاص لما يقرأ، لأن في كل كتاب عادة بنى متعددة سطحية – عميقة، والكتاب، أي كتاب، يمكن إن يقرأ تأويلياً كشكل من أشكال توجه القارئ ومتعته، وميزة هذا النوع من الفن المسرحي انه يستطيع الكل فهمه ، فلغة الجسد التي يعتمدها تتغلب على صعوبة اللغات المحكية ، كون الجسد له القدرة على إيصال توجهه الفني- الإنساني للمشاهدين.نلاحظ أن (الكاتب) لم يؤرخ نصوصه، فهل كتبت في حقبة النظام السابق، وتم التكتم عليها؟.أم بعد سقوطه؟.خاصة وان أغلبها يعكس حالات العنف والتعسف والقسوة التي ميزت الوضع العراقي – الاجتماعي في المرحلتين. ويعرف عن الكاتب “عبد الحليم مهودر” تعدد اهتماماته بين كتابة القصة والرواية ،وسبق أن اصدر “ظل استثنائي” قصص قصيرة ، و”ذاكرة الحكايات- حكايات مهودر الساخرة- حكايات”،ورواية ” الـذلـول”، كما أصدر كتاباً بعنوان: ((اهوارنا..نص مفتوح ))- دار تموز للطباع والنشر- دمشق- 2016- بالاشتراك مع الباحثة السيدة (خيرية عبود ياسين)- مديرة بيئة المنطقة الجنوبية سابقاً – وهو بمثابة نصٍ انثروبولوجي، وتداخل لعلاقات وتوجهات تجنيسية بين ما هو تاريخي – سردي مفتوح على آفاق موغلة في (الزمكان) العراقي،و توثيق للأهوار العراقية ، معززاً بعشرات الصور الفوتوغرافية الملونة عنها، وله ممارسات تطبيقية – عملية – إدارية – أرشيفية، مع بعض الفرق المسرحية في البصرة.
* اتحاد الأدباء والكتاب في البصرة – الغلاف : جمانة عبد الحليم – مطبعة النخيل – بدعم شركة “آسيا سيل للاتصالات”