23 ديسمبر، 2024 5:25 ص

فن الإصغاء لما تقولهُ الطائفة

فن الإصغاء لما تقولهُ الطائفة

لا شك بأنَ بزوغ فجر الهويات الفرعية المتصارعة أصبح أهم ما يُميز واقع العراق السياسي والإجتماعي خصوصاً بعد أن أطلقت رياح التغيير الامريكي العنان للهويات الدينية والطائفية والعرقية وسمحت لها ان تشترك في مارثون السياسة, ولاسيما أن هذه الهويات قد غُيبتْ لعقود طويلة بفعل توالي السُلطات ذات التوجه الفردي منذُ سقوط الملكية حتى دخول العم سام مرةً أخرى أرض العراق في مارس 2003, فمُنحتْ الطائفة جَراء ذلك التغيير زِمام المبادرة السياسية والاجتماعية بمباركة شعبية واسعة باستثناء بعض الجيوب المدنية و الليبرالية ذات التأثير المحدود التي ضلت تدافع حتى اليوم عن حقها في رسم هوية مدنية للبلاد.

وتُشكل الطائفة اليوم في العراق الشاغل الاجتماعي الرئيسي المُعتمل  في اذهان الكثيرين والمحرك الأساسي لعواطفهم والقبان الذي يَزنون به افكارهم و رؤاهم ويُقيمون من خلاله الأشياء ويكونون الصور والمواقف, الطائفية هنا بكونها طريقة تفكير شعبوي والمسيطر الديني على أذهان العامة. ومريدي الطائفة وأتباعها هم شريحة واسعة من أبناء الشعب العراقي ممن يرون بأن أدبيات طوائفهم كفيلة بإيجاد الحلول للمشكلات السياسية وطرق ادارة الدولة العراقية , وهم يرون كذلك بأن الأحقية في ادارة المناصب العليا في الدولة يجب ان تكون حِكراً على حاملي هويتهم الطائفية, لذا تراهم يجهدون انفسهم من خلال إستخدام صناديق الاقتراع لإيصال شخوص يمكن وصفهم بكونهم الأكثر إيمانا من كونهم الأكثر إلماماً في مجالات السياسة والمال و الإقتصاد وباقي القطاعات الحيوية, ومن هذهِ النقطة تحديداً تبدأ المحنة الوطنية حيث يتناسى مريدو الطوائف بأن فن ادارة أي مرفق من مرافق الدولة لا يعتمد على مستوى أيمان المسؤول بل على معايير الإحتراف الوظيفي ووسع الخبرة وعمق النظرة في رسم الخطط وبناء الاستراتيجيات, وإن لم تكن هذه الفرضية دقيقة لما أصبحت شنغهاي بفضل حاكمها (الذي هو على الأغلب وثني غير مؤمن ) غابة من ناطحات السحب وواحدة من أهم المراكز الإقتصادية في العالم بينما لازالت قندهار المغرمة هي الاخرى بما تقوله لها الطائفة تنظر بعين الشك والريبة لدعاوى بعض (المارقين الأفغان) من الذين لا يرون جُنحة تخلُ بشرف الشريعة أذا ما عُبدت الطرق او بُنيت الجامعات, بينما يرى زعماء قندهار الأصوليون بأن الحداثة بِدعة لم ترد في سياقات التاريخ الاسلامي الأول وكل بِدعة ضلالة وكل ضلالة في النار , وواقعاً لا نارَ أكوى من نار واقعهم البائس.

 إن وجود الديمقراطية وأليات الإنتخاب يَمنحُ المواطن فرصة تقرير مصير البلاد عبر أختيار إحدى الهويتين, المواطنة بجوهرها المدني أو الطائفة بجوهرها الديني لترتقي إحدى هاتين الهويتين الى مراكز صناعة القرار السياسي و الذي بدوره يحدد إتجاه سير قافلة الوطن , ولا يختلف اثنان اليوم بان قافلتنا اتخذت الخيار الطائفي وسارت بنا الى المهالك وان العراقيين اثبتوا للعالم بأسره أنهم الأقرب لفن الإصغاء لما تقوله الطائفة من الإصغاء الى ما تقولهُ المدينة.