23 ديسمبر، 2024 1:12 ص

أول عهدي بالمدرسة كنا نتعلم الأحرف الهجائية في القراءة الخلدونية , وأخذنا نجمع الحروف إلى بعضها ونصنع منها كلمات ونتعرف على الأسماء , وكنا نذهب للمدرسة (مدرسة سامراء الإبتدائية الأولى) , التي تقع في الركن الذي يربط بين شارع القاطول وشارع الإمام أو البنك سابقا.

وعلى سور المدرسة من جهة شارع القاطول , كانت كلمة كبيرة وطويلة مكتوبة باللون الأحمر هي (فلسطين) , وما كنا نعرف معناها فإجتهدنا بلفظها ورحنا نردد “فلس + طين” , وتحولت إلى ممازحة ومن ثم لعبة , على شاكلتها أخذنا نصوغ الكلمات ونبتكرها , فنأتي بمسميات ونضعها مكان فلس وطين , ونمضي في لعبتنا الكلماتية كل يوم.

ولا زلنا لا نعرف ما معنى كلمة “فلسطين” , ففي وعينا كانت لعبة نأنس بها ونبتكر كلمات جديدة على شاكلتها , حميدة وغير حميدة , في دوامة اللعب الذي يأخذ معظم وقتنا , ولم ندركها , إلا ذات يوم عندما إقترب منا شاب وقد غضب على ما نقوم به فنهرنا , وهو يقول , إنها فلسطين , ومضى مزمجرا بغيرة فائقة , وهو يلقي خطبة لم أفهما في حينها , لكننا عرفنا بأن ما نقوم به شيئ غير صحيح , فبقينا ننظر إلى بعضنا والخوف يكتنفا , وعندما ذهبت إلى البيت سألت أمي عما حدث , فأوضحت لي معنى (فلسطين) وقصت لي الحكاية , فتركت تلك اللعبة!!

ومنذ ذلك العمر وفلسطين ترافقنا , وما وجدت لها مخرجا أو حلا وإنما هي تدحرج إلى الوراء , حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم , وكأنها تهاوت من كونها قضية العرب الأولى إلى القضية رقم مئة!!

وكلما تأملت ما جرى أعود إلى لعبتنا (فلس + طين) , وأحيانا أدرك أن طفولتنا البريئة كانت تتنبأ بمصير القضية , وما هي إلى فلس بعد أن كان مضافا إليه طين , صار مطروحا منه طين , فهي اليوم “فلس – طين” , أي فلس ناقص طين , ولا أدري في هذا القرن هل سيبقى الفلس على حاله , أم سيتم تحويشه وتنتهي اللعبة مثلما إنتهت لعبتنا بالذي نهرنا وردعنا بغضب شديد.

ولن ينفع بعدها توضيح أمي لمعنى الكلمة , ولن تفيد تمائم الخاملين الخامدين القابعين في أوعية التبعية والخذلان والهوان المشين.

فأين الفلس وأين الطين؟!!

أمة تتهاوى وتفقد أبسط حقوقها بعد مسيرة عقود من اللعب واللهو , والتبجح بالكلمات والشعارات والخطابات , والعنتريات والتحزبات والفئويات والثورات والإنقلابات , وها هي اليوم تنخرها التصارعات المتفاقمة والمشاكل المتعاظمة , وأعدؤها يستثمرون بما فيها من تناقضات ويوفرون لها مؤهلات الجزر السريع والدمار الفظيع والخراب الشنيع.

ووفقا لآليات تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ , فأن فلس لن تعرف طين , وأن أبناء القضية يتلاحون ويندثرون ببعضهم وينقرضون , ما دام الدين من أروع أسلحة الدمار الشامل التي ستبيد العرب عن بكرة أبيهم , وليفرح الطامعون فيهم , ويشربون أنخاب النصر المؤزر بدين!!

ويا ليت الأمة قد أصغت للعبتنا الطفولية (فلس + طين) , وإستلهمت منها مسارات ذات قيمة واقعية ومنطلقات حضارية , لكن هيهات , فقد سقط الجدار الذي كان يتباهى بكلمة (فلسطين) , وصار أجردا تعشعش عليه لافتات سوداء ذات داء مبين!!