18 ديسمبر، 2024 9:06 م

فلسفة الدين عند عبد الجبار الرفاعي

فلسفة الدين عند عبد الجبار الرفاعي

ـ (الدين كائن حي ينمو ويتطور ويمرض، وربما يصاب بسرطان مميت. فربّ ديانة منفتحةانغلقت، وربّ ديانة منغلقة انفتحت. من هنا تأتي الحاجةُ إلى تتابع النبوات، والضروراتالأبدية لإصلاح الأديان وتجديدها. فليس هناك ديانةٌ تحتكر المحبةَ والحرياتِ والحقوقَواحترامَ كرامة الكائن البشري، وليس هناك تاريخُ ديانةٍ منزّهٌ من التعصب والعنف وانتهاككرامة الإنسان.) الرفاعي. في الايمانِ تتحدثُ الأديانُ لغةً واحدةً.

ـ (لا يمكننا تحديث التفكير الديني في الإسلام إلاّ بالخلاصِ من الأنساق اللاهوتيةالمتوارثة، التي يجري فيها خلط وتلبيس بين الله وتصور البشر لله، بين المقدس وتصورالبشر للمقدس، بين الدين ومعرفة البشر للدين. وفضحِ العنف والظلم والتعسف والطغيانالذي ظلّ على الدوام يستغل صورةَ الله، ويمارس العدوان ويسفك الدماء باسمه.) الرفاعي. فلسفة الدين: رؤية موجزة لمفهومها واتجاهاتها ومباحثها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يعد حقل ومبحث فلسفة الدين من المباحث الفلسفية المهمة التي ظهرت في الغرب في كتابات الفلاسفة  في القرن الثامن عشر الميلادي مع عمانؤيل كانت وهيجل وفيورباخ وغيرهم ، وقد أهتم بها معاصراً مجموعة من المفكرين العرب والمسلمين، ويتضح ذلك في مشاريع فكرية كبيرة قُدمت في هذا المجال من لدن مفكرين شغلوا حيزاً في الفكر العربي والاسلامي المعاصر، امثال محمد أركون وحسن حنفي ونصر حامد أبي زيد ومحمد أبي القاسم حاج حمد عربياً، وعبد الكريم سروش ومحمد مجتهد شبستري ومصطفى ملكيان وداريوش شايغان ايرانياً واسلامياً، وهناك من جمع بين الخطين أو بين هذين الاتجاهين بصورته العربية والاسلامية، او العربية والايرانية، وهو ما تجسد في فكر المفكر العربي الاسلامي العراقي عبد الجبار الرفاعي، الذي أحد ممثلي ورواد فلسفة الدين في الفكر العربي الاسلامي المعاصر، والذي أستفاد من التجارب الفكرية العربية والاسلامية في هذا المجال، وهناك منابع كثيرة كونت فكر وفلسفة الدين عند الرفاعي، يمكن أرجاعها الى ثلاثة مصادر هي :

1ـ المصدر العربي الاسلامي.

2ـ المصدر الايراني.

3ـ المصدر الغربي.

وهذه المصادر المعرفية أشتركت جميعها في تكوين شخصية الرفاعي الفكرية، بتنوع آداب وفنون وعلوم تلك المصادر المعرفية، من فقهية وكلامية وفلسفية وأخلاقية وصوفية وعرفانية ونفسية واجتماعية، ففي كل مرحلة عمرية وزمنية مر بها الرفاعي نجده ينسجم مع حقول معرفية معينة، يدرسها ويتعايش معها ويتقن فنونها ويتعرف على رجالاتها ويكتب ويترجم أعمالهم الفكرية، واذا كان للمصدرين الأول والثاني قوتهما وأثرهما في فكر الرفاعي في بداية تشكل ونمو مشواره الفكري والمعرفي، فأن المصدر الثالث بدأ يتكون مؤخراً لدى الرفاعي من خلال قراءته وترجمته لنصوص في الفلسفة الوجودية والتأويل وفلسفة اللغة، ويمكن وفق تلك المراحل الزمنية المعرفية وضع ثلاثة مراحل لتشكل فكر الرفاعي ومعرفته وهي :

1ـ مرحلة النشأة والتكون.

2ـ مرحلة النمو والتطور.

3ـ مرحلة الانفتاح والتكامل.

ويشبه الرفاعي من حيث تلك المراحل المعرفية بما مر به الفيلسوف الغزالي، مع الفارق الأيديولوجي، الذي أوضحه وطرحه الثاني بصورة مفصلة في كتابه (المنقذ من الضلال) وتنقله من ميدان الفقه الى الكلام الى الفلسفة وصولاً الى التصوف، الذي يشبه العلم الأخير الى حد ما موضوع فلسفة الدين اليوم الذي ولج الرفاعي ميدانه بقوة، لما له من تأثير وحضور ومنهج على الساحة الفكرية والفلسفية، والذي ينطلق منهجها من خلال العقل بعيداً عن هيمنة النص الديني والنقل، ورغم التنوع المعرفي والفكري والثقافي للرفاعي فهو يشبه الكثير من الفلاسفة والمفكرين والمتصوفة ممن وفقوا بين الفلسفة والدين سواء على الساحة العربية الاسلامية، أو على الساحة الغربية المسيحية، ولذلك كان الرفاعي مفكراً منفتحاً على منابع ومصادر معرفية وثقافية متعددة، محاولاً تقليد وتجديد كل ما يمر أمامه من فكر أو تيار أو أتجاه يَطلعُ عليه، ولكن الشيء المهم والهدف الجوهري الذي يبحث عنه الرفاعي في مشروعه الفكري هو الاصلاح والتجديد والنهضة والحداثة الفكرية للمجتمع العربي والاسلامي المعاصر، واذا كانت مرحلة رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الافغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد حسين النائيني ومحمد جواد البلاغي، تعد مراحل ممهدة للفكر الاصلاحي الديني الاسلامي الحديث، فأن مرحلة محمد اقبال وفضل الرحمن وشبلي النعماني وعلي شريعتي ومحمد باقر الصدر، تعد مرحلة متقدمة ومتطورة قياساً بالسابق من الأفكار والتيارات الدينية الاسلامية، ولكن هناك مرحلة متقدمة وجديدة قد تطورت جراء تلك الافكار وتحاورها مع بعضها بالاضافة الى التحاور والانفتاح على الفكر الغربي ومناهجه الحديثة والحداثوية تمثل في فكر محمد عابد الجابري ومحمد أركون وحسن حنفي ونصر حامد أبي زيد وجورج طرابيشي عربياً، وعبد الكريم سروش ومحمد مجتهد شبستري ومصطفى ملكيان وداريوش شايغان ايرانياً، والى هذه المجموعة الفكرية يمكن أن ينتمي الرفاعي، بعد أن مر بالمراحل المعرفية السابقة وأجتازها بنجاح للوصول الى المرحلة الأخيرة، مرحلة التحاور الحضاري والانفتاح الثقافي والتواصل المعرفي، وهنا يتضح التقدم والتطور المعرفي للرفاعي وهو يتبنى طروحات فكرية وثقافية متجاوزة للايديولوجيا، والتقليل من هيمنة المقدس، وأنسنة الدين وعقلنته، من خلال ثقافة حوار الحضارات وتواصلها وتعارفها، ومن خلال تبني أفكار ديموقراطية حديثة تؤمن بالآخر وبالتسامح والاختلاف ومحاربة افكار التطرف والكراهية والاصولية العالمية والاسلامية المتشددة، التي تكرس لغة العنف والارهاب بين الشعوب والبشرية برمتها، وعمل الرفاعي على تفكيك منظومة الدين وتحليلها ونقدها، ومحاولة اظهار الجميل والسليم والمنطقي والانساني من أفكار الأديان المختلفة في هذا العالم، من خلال قيام فلسفة دين رحمانية انسانية تؤمن بالمحبة والخير والسلام لجميع شعوب العالم دون أرهاب وكراهية.        

وقد ساهم الرفاعي في نشر فكره وفلسفته من خلال طروحاته الفكرية والثقافية المتنوعة، والتي تتمثل في :

1ـ تأسيسه لمجلة قضايا اسلامية معاصرة، التي كانت منبراً حراً لنشر أفكار فلسفية ولسانية ودينية ومعرفية متنوعة، تؤمن بقيمة الانسان وأهمية الدين في حياة الناس والمجتمعات، من خلال لغة ومنهج وأسلوب متنور لكُتّاب وباحثين عرب ومسلمين وأجانب.

2ـ نشره لمجموعة من المؤلفات والكتابات والدراسات الدينية والاكاديمية، فقهية وكلامية وفلسفية وعرفانية، لكُتّاب أمتازوا بالتنوير والتجديد والخط الاصلاحي، من خلال دار الهادي للطباعة والنشر، التي كان الرفاعي يديرها ويحرر مؤلفاتها ويقدم لها.

3ـ مشاريع التحقيق والدراسة والترجمة التي أمتاز بها الرفاعي في مشروعه الفكري طوال فترات زمنية متعددة من حياته الفكرية، فقد حقق ودرس وترجم مؤلفات اسلامية كثيرة، على مستوى الفقه والتفسير والأصول والكلام والفلسفة والعرفان.

4ـ تأسيس الرفاعي لمركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، وذلك بعد عودته من المهجر في ايران، بعد فترة قضاها هناك تقارب الربع قرن، وبعد عودته للعراق عام 2003 قام بتأسيس هذا المركز، حيث عكف الرفاعي فيه على تأليف ونشر وترجمة وتحرير كتابات ومؤلفات وموسوعات تختص في مجال علم الكلام الجديد وفلسفة الدين والفلسفة والتصوف.

5ـ المؤتمرات والندوات والمحاضرات والبحوث المتعددة التي حضرها الرفاعي، في العالمين العربي والاسلامي، وعلاقاته الفكرية والثقافية مع شخصيات عربية واسلامية متنوعة، كونت علاقة طيبة ومنفتحة مع هؤلاء المفكرين، شكلت أهمية كبيرة في حياة الرفاعي الشخصية والفكرية.

والشيء المهم الذي نود الاشارة اليه في هذا المقال هو التحول الكبير في طريقة تفكير الرفاعي خلال المراحل التاريخية التي مر بها وما رافق تلك السنوات من أحداث تاريخية ومنعطفات كبرى، والتي يمكن أيجاز هذه المراحل بالآتي :

1ـ بداية مشوار الرفاعي مع الحركة الاسلامية في العراق، مع حزب الدعوة الاسلامي، والتي سبقتها دراسته في حوزة النجف الأشرف والتأثر برجالات وفكر تلك المرحلة، وكان على رأسهم السيد محمد باقر الصدر ومشروعه الفكري وشخصيته الرسالية الملهمة.  

2ـ تأثر الرفاعي بالثورة الاسلامية في ايران، وبمنجزات هذه الثورة وأفكارها الاصلاحية السياسية والدينية، من خلال دراسته في حوزة قم، ومحاولة دراسة وتقليد رجالات وفكر تلك المرحلة. ولكنه بعد ذلك قرأ وأحتك بالمشروع التحديثي في ايران على يد نخبة من المفكرين والباحثين الحداثويين الذين قدموا رؤية نقدية تنويرية جديدة على الساحة الفكرية في ايران والعالم الاسلامي.

3ـ استفاد الرفاعي كثيراً سواء في المهجر أو في سفره أو في بلده، من علاقاته المتنوعة التي أمتاز بها وأستفاد من توظيفها والتواصل معها في تنمية وتطوير مشروعه الفكري العربي والاسلامي، الذي لم ينعكس على اداء وفكر الرفاعي فحسب وانما أنعكس على اداء وفكر المفكرين والباحثين العرب والمسلمين أيضاً.  

4ـ التغير السياسي والاجتماعي والفكري الذي طرأ على خارطة العالم، عربياً واسلامياً وعالمياً، وخاصة ما جرى من أحداث كبرى على مستوى العالم الغربي والاسلامي، والعلاقة بينهما، وأهمها أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، التي أثرت على وجه العالم عموماً، وعلاقة الغرب والمسلمين خاصة، خاصة بعد اتهام جهات اسلامية بالعدوان وتفجير برجي التجارة العالمي وما حدث في هذا التاريخ. فقد كان ذلك عاملاً مؤثراً في نقد وتصحيح ما طرح من أفكار سلفية أو أصولة أجتاحت العالم، ومنها ما قدمه الرفاعي من بحوث ودراسات في مجال فلسفة الدين، لابعاد شبح التطرف والارهاب والتكفير عن الفكر والواقع العربي والاسلامي، وتقديم رؤية فكرية تسامحية تؤمن بالآخر واحترام كرامة الانسان وكينونته على هذه الارض.

5ـ أثر ثورات الربيع العربي وما جرى من أحداث سياسية واجتماعية عربية على الدول والفرد والمجتمع العربي، فأحداث تلك الفترة قد شكلت عبئاً ثقيلاً ومضطرباً على الواقع العربي، ودخل فيه العرب في منزلقات خطيرة أدت الى بداية التشظي والانقسام السياسي والاجتماعي وبداية الخطاب الطائفي والايدلوجي المقيت. وهذا ما جعل مجموعة من المثقفين والمفكرين ومنهم الرفاعي في مشروعه الفكري، للنضال من أجل بيان أثر السياسة السلبي على بنية المجتمعات، ومحاولة تنقية واقعنا العربي من تلك الممارسات الخاطئة التي شوهت علاقاتنا العربية العربية، والعربية الاسلامية.

6ـ  أثر الفكر السلفي والاصولي الاسلامي المتطرف الذي غذى الحركات الاسلامية المتشددة وما نتج عنه من تطرف وعنف وارهاب عالمي، وما جرى في المنطقة العربية والاسلامية والعراق تحديداً، دعا ذلك الرفاعي ومجموعة كبيرة من المفكرين والباحثين العرب والاسلاميين لتجديد الخطاب الاسلامي وتنقيته من التراث الدموي والعنفي المتطرف الذي أنعكس بصورة كبيرة على الواقع، وأدى الى تشويه صورة الخطاب والفكر والدين الاسلامي الذي كان يوماً ما فكراً متنوراً وحداثوياً اثر على أوربا والغرب في خروجها من عصرها المظلم ونزعتها الاصولية المتطرفة.

7ـ محاولة الرفاعي في مشروعه الفكري ومن خلال فلسفة الدين، اخراج المجتمع العربي والاسلامي من النفق المظلم ومن متاهات الجدل الكلامي والأيديولوجي والديني، ورسم مسار وخارطة طريق موحدة تحارب العنف والكراهية والارهاب وتدعو لبناء انسانية واحدة متعايشة فيما بينها، من خلال المحبة والاخلاق الانسانية المنفتحة التي تدعو لها الاديان عموماً والتي تتفق مع الذوق والوجدان والمنطق الانساني السليم.  

ومما يحسب للرفاعي طوال مسيرته الفكرية والمعرفية هي تفانيه واخلاصه وصبره الطويل من أجل المعرفة والفكر والثقافة، والعمل الدؤوب لتقديم أفكار جديدة تحاول انقاذ المجتمع العربي والاسلامي من هيمنة الأيديولوجيا والمقدس والافكار المتحجرة ، التي أعاقت حياتنا ووجودنا ومجتمعاتنا كثيراً، وجعلت منا شخصيات صنمية مقلدة لا تنتج ولا تتقدم خطوة نحو الامام، وهذا ما جعل الرفاعي ومجموعة من المفكرين والمثقفين السعي الحثيث والجاد لتقديم رؤى جديدة تنسجم والواقع الانساني المتغير، وأستطاع الرفاعي بمفرده خلال سنوات طويلة أن يعمل بهدوء وصمت وروية في خدمة الثقافة العربية والاسلامية، فهو بحق مؤسسة في رجل، كما وأستطاع الرفاعي أن يتقدم خطوات كبيرة على مستوى الفكر من خلال نقده لأفكاره أولاً وللتراث الثقافي والفكري العربي والاسلامي، وأن يتخلص من نزعته الأيديولوجية التي نشأ عليها شأنه شأن غيره من المثقفين والدارسين في بداية مشوارهم الفكري، ولكنه في سنواته الأخيرة أمتلك وعياً وفكراً متنوراً جعله يتحرر من نزعة الأدلجة والتكور داخل منظومة فكرية واحدة توجه الفرد نحو سكة واحدة وطريق منفرد يحتكر الحقيقة بأسم الدين أو المذهب أو الحزب أو المعتقد، وهذا لا يتوفر للشخص الا اذا أستطاع أن يحاور ويجاور الأفكار والمناهج والطروحات الفكرية الانسانية والعلمية الجديدة، والرفاعي أحدهم ممن يسير في هذا الطريق، وهو بحق كما يصفه الصديق والمثقف والمفكر الدكتور علي عبد الهادي المرهج بأنه قد (نزع الجبة والعمامة التي في داخله)، ليتحرر من قيود وهمية ومثالية قد علقت على عقولنا زمن طويل، وعشناها معاً تحت تأثير أيديولوجيا السلطة والدين والمذهب، ولا نستطيع التخلص منها الا بتمكين العقل من الغوص بقوة لكشف عوالم الزيف والخداع وتعرية الجهل المقدس الذي مورس علينا بوعي أو دون وعي منا، وعنديذٍ فقط نستطيع أن نحقق كينونتنا ومسؤوليتنا الحرة في هذا العالم.

يقول الرفاعي في كتابه (الدين والظمأ الأنطلوجي) كاشفاً عن المرحلة المزيفة التي يمر بها الدين اليوم، الذي خرج من اطار وظيفته الأخلاقية والاصلاحية الى اطار الارهاب والعنف والتكفير، حيث يقول : (أن الصياغة الأيديولوجية للدين تخفض طاقته المقدسة، بعد أن تهتك سحر العالم، وتطفىء شعلة الروح التي يتلمسها الانسان فيه، وتجفف منابع ما يؤلد معنى المعنى في مداراته، فيصاب الكائن البشري بالسأم والاحباط والضجر والغثيان، بع أن يموت كل شيء من حوله، ويفتقر الى ما يلهمه مزيداً من الطاقة…وضع الدين اليوم في مأزق تاريخي، هو ترحيله من مجاله الانطلوجي الى المجال الأيديولوجي)(1)

والمجال الأنطلوجي للدين هو ما يسعى الرفاعي لتحقيقه في فكره وفلسفته، ورؤية الرفاعي هذه ذات بعد صوفي ذوقي مثالي، تذكرنا برؤية متصوفة الاسلام كالحلاج وأبن عربي وأبن الفارض وغيرهم ممن سعى لاقامة فلسفة انسانية تبنى على المحبة ووحدة الأديان في تحقيق هدفها الاخلاقي والاصلاحي النبيل.

ولسان حال الرفاعي يردد ما قاله أبن عربي :

أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجَّهتْ      رَكائِبُهُ فالحُبُّ ديني وإيماني

وكما يقول الدكتور ميثم الجنابي في تحليله لفكرة وحدة الأديان عند متصوفة الاسلام ومنهم أبن عربي مبيناً جدوى وفلسفة هذه الفكرة ومغزاها الفلسفي الصوفي الانساني، يقول : ( وفي الإطار العام لم يكُفر أبن عربي ولم يتهم أياً كان في اعتقاده ودينه. لقد فسحللجميع حق الوجود، وأعطى للأديان وحدتها في درجات التوحيد).(2)

ان الانفتاح الذي بشر به الرفاعي في فهمه لفلسفة الدين يحمل الكثير من الوعي والتجديد براهنية الواقع العربي والاسلامي وعلاقته بما يسود في العالم اليوم، من متغيرات سياسية واجتماعية وثقافية كبرى تتطلب منا التعامل معها ومع المنجز العلمي والعقلي الغربي بقبول حسن، شريطة تحقق الجانب الانساني السليم، حيث يقول الرفاعي : (ما تعد به فلسفة الدين، يتطلب الكف عن الموقف الارتيابي المسكون بالتوجس من فتوحات وأكتشافات عقل الآخر، والشفاء من الفوبيا “الخوف” من كل ما هو جديد في العلوم والمعارف البشرية…فلسفة الدين لا يمكن أن تستغني في دراسة النصوص الدينية، والتجارب الدينية، والتراث، عن : اللسانيات الحديثة والمعاصرة، والهرممنيوطيقا وعلوم التأويل، وفلسفة اللغة، وعلم نفس الدين، وعلم اجتماع الدين، وأنثروبولوجيا الدين…الخ. أنها مغامرة جسورة في عبور أنفاق الموروث، والانعتاق من تكرار الحواشي، والشروح وشروح الشروح)(3)

فعلاً دخل الرفاعي المغامرة بقوة وجسارة كبيرة لينعتق من تلك الثقافة التقليدية ومن العقل السكوني المسكون بهاجس التراث الفكري والموروث الديني الذي تشبعنا به لمدة طويلة من الزمن، ونحن نقرأه ونسير خلفه كأنه مسلمة دون نقد أو تمحيص، وهذا ما جعلنا نجتر التاريخ والماضي الى حاضرنا بقوة وأن نكون كائنات تراثوية ماضوية ونسخ جديدة لفكر ووجوه قديمة.

لقد توفر للرفاعي الجو الفكري والثقافي المناسب لكي يمر بهذا التغيير الكبير والتحول المثير للانتباه، والامكانات المعرفية ومنظومة العلاقات الواسعة التي تحصل عليها من مجموع اللقاءات والدراسات والكتابات والندوات والمؤتمرات التي جعلت الرفاعي أشبه بسفير معرفي وثقافي وفكري معروف في الاوساط الثقافية والفكرية العربية والاسلامية، يعقد الصلات والعلاقات الطيبة بين جميع فئات الناس الذين يتعرف عليهم، متخذاً من همه المعرفي الهم الأكبر في عملية البناء وتوطيد تلك الرابطة والتواصل الانساني النبيل، وهذا ما جعله مقبولاً وقديراً لدى فئة واسعة من المثقفين والباحثين العرب والمسلمين، وخير دليل على ذلك هو تكريمه من قبل مؤسسات وجمعيات عربية واسلامية وعالمية كبيرة فقد تم تكريمه من قبل (المعهد البابوي في روما) تقييماً لجهوده الكبيرة في ادارة واشراف وتحرير مجلة قضايا اسلامية معاصرة، فقد أصدر المعهد البابوي في سنة 2012 كتابه السنوي الذي تضمن نشر نصوص منتخبة من مجلة قضايا اسلامية معاصرة وترجمتها الى الايطالية والانكليزية والفرنسية، تحت عنوان (الاشكاليات الراهنة للتفكير الديني وفق مجلة قضايا اسلامية معاصرة).(4)

وفي عام 2013 تم تكريمه من قبل الحركة الثقافية بأنطلياس في لبنان عن جهوده الفكرية في اشاعة وتكريس قيم التعايش والتعددية والحوار بين الأديان والثقافات.

هذا بالاضافة الى التكريم الذي ناله الرفاعي مؤخراً في الدوحة في شهر كانون الأول من العام 2017، في جائزة الشيخ حمد للانجاز والتفاهم الدولي، تثميناً لمنجزه في التواصل والحوار الثقافي بين اللغات والثقافات وعن تراجمه الفكرية والبحثية عن الفارسية، وهي أحدى أهم المرتكزات الفكرية التي أستند عليها مشروع الرفاعي الثقافي الذي يعمل على اشاعة روح الحوار والتثاقف والتواصل بين الأمم، وتصحيح الكثير من المفاهيم الفكرية الخاطئة التي تم تغذيتها للفرد العربي والمسلم طوال التاريخ وما زالت حاضرة في واقعنا ومنظومتنا الاجتماعية والسياسية حتى اليوم.

د. رائد جبار كاظم. الجامعة المستنصرية. العراق.

الهوامش:

(1) عبد الجبار الرفاعي. الدين والظمأ الأنطولوجي. ط1. دار التنوير. بيروت ـ لبنان. 2016. ص 10.

(2) ميثم الجنابي. التصوف الإسلامي وفكرة وحدة الأديان. مقال في موقع الحوار المتمدن. العدد: 1061 – 28/12/2004.

(3) عبد الجبار الرفاعي. انقاذ النزعة الانسانية في الدين. ط2. مركز دراسات فلسفة الدين. بغداد ـ العراق. ص 123.

(4) ينظر: الكتاب التذكاري عن فكر الرفاعي. مجلة الموسم. العدد 105. أكاديمية الكوفة. هولندا. السنة 26. 2014. ص 754.