23 ديسمبر، 2024 5:43 م

فلسفة الدستور ومرونة التأسيس

فلسفة الدستور ومرونة التأسيس

عاد الحديث بقوة عن مفهوم الدستور بعد أن تمت المصادقة عليه من قبل المجلس التأسيسي وخُتِم من قبل تحالف السلطة التوافقية الحاكمة وخف بالتالي التشويش الحاصل في القضايا السياسية المصيرية للشعب وقلت الحيرة بشأن المستقبل وحول الدور الذي يمكن أن يلعبه القانون الدستوري في تأمين المرور من الحالة الثورية الى الحالة المدنية وأنصتت النخب السياسية الى حكمة العيش معا وبرهنت على استعدادها للذهاب الى البناء وتوخي أسلوب التأسيس المرن وأثبتت قدرتها على التفكير بسياسة استراتيجية واستكمال أهداف الثورة بوسائل أخرى مدنية.

لكن ما المقصود بالدستور؟ وهل الدستور موجود سلفا أم محور تقرير ذاتي من طرف مجموعة من الأفراد؟ وهل الدستور شيء موجود ببساطة أم شيء يصنع؟ ومن الذي يصنع الدستور؟ وكيف يمكن لمجموعة من الأفراد أن يكتسبوا دستورا؟ هل بطريقة ذاتية أم بمساعدة الآخرين؟ وهل يحصل ذلك بالقوة أم بالفكرة؟ وهل شيء مقدس وثابت وفوق دائرة التغيير أم شيء نسبي ومحل تواضع واتفاق وقابل للتعديل؟ وألا ينبغي أن تتم عملية تعديل الدستور بطريقة دستورية؟ وهل يعتبر الدستور التونسي نصا قانونيا ثوريا أم مدونة توافقية ترضي جميع المطالب الحزبية؟

من المعلوم أن الدستور هو نص يثبت تنظيم ووظيفة جسم معين يكون دولة عموما، ويمتلك دستور الدولة قيمة القانون ويمثل في الآن نفسه الحركة السياسية التي لها قيمة حقوقية والقانون الأساسي الذي يوحد ويحكم بطريقة منظمة وتراتبية مجموع العلاقات بين الحاكمين والمحكومين في حضن الدولة، من حيث هي وحدة المكان الجغرافي والسكاني.

علاوة على أن الدستور يعمل على ضمان حقوق وحريات الجماعة البشرية المعنية ويرسم حدودا لكل السلطات حتى تمارس مهامها في كنف الوظيفية والأداء والاحترام المتبادل. عادة ما يسعى صاحب السيادة الى وضع الدستور الذي تسير عليه الدولة ولكن في ظل وضع أصلي ونظام ديمقراطي آتي يساهم المواطنون عن طريق انتخاب ممثليهم في صياغته. لهذا السبب يريد الوهم الحقوقي أن يؤسس الدستور قبل الدولة وتستمر نفوذه على مر التاريخ وأن تستمد هذه الأخيرة مشروعيتها من الدستور ولكن فلاسفة الحق يرون أن الدستور يجب أن يتفق مع الارادة الشعبية.

” فالدستور السليم القوي هو أول ما يجب العمل على تحقيقه والحيوية النابعة من حكم صالح أفضل من أية موارد يكفلها التوسع الاقليمي.”2[2]

ان الدولة هي روح الأمة وإنها تتجلى من خلال القانون الذي يتغلغل في جميع العلاقات بين الأفراد ويظهر في وعي المواطنين والعادات بالتالي يعتمد دستور الأمة على شخصيتها ودرجة نضجها العقلي ووعيها الذاتي وتمثل حرية الشعب التحقق الفعلي للدستور. عندئذ يكون ” لكل أمة دستورها الخاص الذي يلائمها والذي تتناسب معها”3[3]

هكذا يجب أن يتضمن كل دستور شيئين أساسيين:

–           مجموعة القواعد التي تنظم السلطات العمومية والعلاقات بينها ( حكومة برلمان ورئيس)

–           الحريات الأساسية التي تمنح لكل شخص ينتمي الى هذه الدولة عن طريق الولادة أو الاقامة والانتماء.

لقد طور هانس كيلسون نظرية تراتبية المعايير بين فيها أن كل قاعدة في الحق تستمد شرعيتها من قاعدة في الحق أعلى منها والتي ينبغي أن تكون متفقة معها. ان الدستور هو القانون الأساسي الذي يعطي المشروعية لكل المعايير الأصغر منه، وان المبدأ الدستوري يقر بأن الدستور هو المبدأ الأعلى للحق في الدولة وأن احترامه واجب وضروري ويضمنه الرجوع ال المجلس الدستوري والاحتكام الى الرقابة الدستورية4.[4]

هذه المكانة التي يحتلها الدستور في قمة تراتبية المعايير يخلقها المجلس الدستوري الأصلي ويتم تثبيته من طرف السلطة التأسيسية المنبثقة منه في شكل مؤسسات. ان هذه الحركة الحقوقية يتم فرضها على الأعضاء الذين ينتمون الى الدولة والمجتمع وتنبع من منطق عمودي في السلطة في مستوى القوانين والتراتيب ويتناقض مع المنطق الأفقي الذي يساوي بين المتعاقدين في الحقوق والواجبات قانونيا.

ان الاشكال الذي تقع فيه هذه النظرية هو اعتقادها بقيام النظام الديمقراطي على توازن هش بين الحرية والعدالة وإقرارها بأن دستور الدولة يرجع بالنظر الى عقد تم ابرامه في الماضي بين كل المواطنين المتساوين من جهة القانون. هذا يعني أن هذه النظرية تقع في الخلط والدور وتقديس الارادة العامة ولا تمتلك حقيقة قانونية ومرجعية شرعية بما أن القانون الذي تحاول تنظيم العلاقة به هو نفسه يفتقد الى قانون ينظمه.

ان مسألة استكمال أهداف الثورة واستثمار الحراك الاجتماعي من جديد بعد عدة محاولات الالتفاف والتسويف يتناقض مع كل الافتراضات المسبقة المتشائمة ويحمل مغزى سياسي مهم يتمثل في قيام دولة عصرية وقوية وفي قدرة ثقافة الضاد على الانتاج والولادة والتأسيس والشروع في التغيير الثوري لأنظمة الحكم عن طريق الارادة الشعبية.

ان الأمر يبدو كما لو أن هناك سباق محموم نحو الفوز بغنائم الثورة والالتفاف على نتائجها حيث يظهر الجميع مقدرة عجيبة على الركض وراء التأشيرات واحتكار المؤسسات وسلطة الكلام والاستيلاء على الرغبة في التأسيس ومصادرة أحلام الشبيبة بالتكلم بأنفسهم والتعبير عن تصوراتهم الشخصية لعالم آخر ممكن.

من جهة أخرى تزايد الاهتمام في الآونة الأخيرة بمفهوم التأسيس في ظل التوجه نحو انتخاب المجلس التأسيسي واختلط على القوم بين عودة المكبوت والخروج من السرية الى العلنية ومن اللاّقانونية الى الشرعية وفق الآليات التقليدية للتحزب وبعث الجمعيات والهيئات على قواعد عائلية أو فردية.

ان المأزق الذي وقع فيه من توهم صلابة التأسيس هو الاعتقاد في التأسيس التام والنهائي وذلك لأن تركيز الأسس لا يقل ميتافيزيقية عن البحث عن الأصل والصعود الى القمم وان الاعتقاد في التأسيس هو بمثابة زيف الانطلاق من الصفر والعود على بدء والابتكار من عدم.

بينما الأساس هو مجاز مأخوذ من الهندسة المعمارية ويدل على وجود دعامة يرتكز عليها نظام معين أو مجموع من المعارف. ويمكن أن نعثر على معنيين يخصان لفظ الأساس5[5]:

–           ما يعطي الى شيء معين وجوده وسبب ظهوره الى العيان ومعقولية فهمه ويبرر مشروعية عمله.

–           ما يشير الى قضية الأكثر عمومية وبساطة وما يمثل البداهة واليقين وما لا يحتاج الى برهان.

ما نلاحظه أن ما يميز الأساس أنه بلا أساس6[6] ولا يحتاج الى أساس  ولا الى تأسيس حتى بل هو يؤسس نفسه بنفسه وهو أيضا ما يتم التأسيس عليه. بل إن ما يقع تأسيسه هو صلب وعادل وليس معرض للتلف أو يكون في وضع هش وقابل للعطب. وحينما يتعلق الأمر بالتأسيس الأخلاقي والسياسي فإن المطلوب هو الاستناد الى القيمة المطلقة والخير الأسمى والعدالة في ذاتها والواجب المفروض والغايات النهائية وليس مجرد منافع جزئية ووسائل ناجعة وفروض تفسيرية.

” ان تجربة التأسيس المصحوبة بالاعتقاد بان حكاية جديدة هي على وشك أن تظهر في التاريخ ستجعل الناس محافظين وليس ثوريين، وهم متلهفون الى الحفاظ على ما تم عمله وضمان استقراره وليس الى فتح الباب أمام أمور جديدة وتطورات جديدة وأفكار جديدة.”7[7]

ان التأسيس8[8] السياسي للهيئات والأحزاب يقتضي التصديق والإجماع والتأييد ويبرر ذلك بأن ما وقع تأسيسه هو الذي سيمنح الذين ينتمون اليه شخصية قانونية وهوية حزبية جديدة وقيمة أخلاقية ووجود معنوي. كما أن التأسيس يعطي الأرضية المرنة التي يقف عليها الجميع وتشتق منها قواعد الحكم والتوجيه. ربما الأنسب هو التوقف عن الحديث عن التأسيس والتغيير والتشييد والتوجه نحو التطرق الى الاجراء والولادة والابتداء والتسويغ والتشكيل والابتكار لأن ” الثورات هي الأحداث السياسية الوحيدة التي تواجهنا مباشرة وبكل لا مناص منه بمسألة البداية.”9[9]

ان الطبيعة الظاهرية للعالم ينبغي أن يرافقها وصف للطبيعة الظاهرية للسياسة وان الفاعل السياسي ينبغي ان يهتدي الى ذكاء الشيء السياسي ويبلغ المفكر القدرة على فهم الظاهرة الثورية ويجيد فن الحكم على ميدان الشؤون البشرية وبالتالي يوجد فكر سياسي في السياسة الفكرية ويستكمل الفعل السياسي في السياسة الظاهرية وتسرد الجماعة ولادة التعدد. ” ان العالم يولد وينبعث ويأتي الى الوجود عندما يتم محاكاته بواسطة الكلام، وعندما يتم عرضه وتمثيلها في قول ما.”10[10] والمقصود أن العالم يسرد ولا يؤسس. آيتنا في ذلك أن مهمة التأسيس التي نهض من أجلها الثوار تصطبغ بالتعقيد النظري والعملي وتقتضي تحديد بداية جديدة وقد تتطلب ممارسة تتجنب العنف وتتفادي العدوان عند ابتداع سلطة جديدة ووضع القوانين وبناء مؤسسات عصرية.

 ان التحدي الكبير هو الذي يفرض نفسه أمام الفكر السياسي المعاصر للثورة هو “أن السلطة في ظل التعدد الانساني لا يمكن ان ترتقي الى الكلي القدرة الواحد الأحد، كما أن القوانين التي تستند الى سلطة بشرية لا يمكنها أبدا أن تكون مطلقة.”11[11]

من المعلوم أن الديمقراطية بماهي شكل صراعي للحياة تخضع قوة السلطة للتثبت والاختبار وذلك بأن تضمن انتاج موازنة عادلة بين الحقوق والمصالح من الصراع بين المعتقدات والتنافس بين التأويلات. كما أن العلاقات الديمقراطية تقوي التأويل وتمثل شرطا ضامنا للصراع بين القراءات وتمكن الفرد من الدفاع القوي عن معتقداته ومصالح ومن التفاوض مع غيره من المنافسين من أجل القيام بتنازلات وتعديلات بغية تحقيق المصالح المشتركة والاحترام المتبادل. لكن اذا كانت الديمقراطية هي الشكل المؤسساتي المناسب لنمو التأويل والحالة السياسية الأفضل لضبط العلاقة بين المعرفة والسلطة فإن الصراعات الهرمينوطيقية التي تدار بطريقة ديمقراطية لا تنتصر دائما الى الحقيقة وتضمن العدالة وإنما قد تكرس المنفعة الفئوية وتضاعف التمييز والإقصاء وتكرس الانغلاق والتعصب.

“ان التفاوض الديمقراطي على المسار المستقبلي لشؤون الجماعة…يجعل من الضروري وجود انفتاح عقلي أمام امكانات الافادة من المنظورات الأخرى، ورغبة ليس فقط في تقبل الانشقاق لكن في الاصغاء اليه، بما في ذلك الاستعداد لتغيير الرأي اذا ما ظهرت أسباب مقنعة تدعو الى القيام بذلك.”12[12]

المطلوب اليوم هو ايجاد الاختلافات المنتجة والصراعات المستحكمة والالتزامات المتسامحة والاستخدام المسؤول للحرية من أجل بث جرعة من الديمقراطية في الفضاء العام والعمل على تحقيق ازدهار التأويل. بين اذن “ان تعلم كيفية الاختيار بين اعتقادات لا سبيل الى التوفيق بينها لكنها تتساوى في قدرتها على الاقناع لهو أمر ضروري لخلق روح مواطنة فاعلة في مجتمع متنوع وتعددي أيضا.

ان تعلم المرء كيفية الدفاع عن التزاماته بقوة، حتى وهو يستمع بتعاطف الى الآخرين ويحافظ على انفتاحه على تغيير آرائه، لهو أمر جوهري لا للصراع الهرمينوطيقي المنتج فحسب، لكن للمفاوضات السياسية الديمقراطية أيضا. يحتاج الصراع التأويلي الى مؤسسات وممارسات ديمقراطية. والبراعة في الصراع التأويلي شرط الديمقراطية الفعالة.”13[13]

غير أن أهم طقس يجدر بنا أن نؤديه على أحسن وجه ونتعقل في اختيار آليته هو الانتخاب حتى نعطي الاشارة بشكل جماعي في نفس اليوم لبداية المسار الديمقراطي الفعلي. ويدل هذا الطقس على الاقتراع السري والاختيار الحر والعقلاني والواعي للذين سيمثلون الشعب في هيئات ومؤسسات تسيير الدولة.

 في الواقع يجب أن تكون الادارة وبيوت العبادة محايدة وأن وسائل الاعلام على ذمة جميع المترشحين بالتناصف وأن تتم الحملة الانتخابية في كامل الشفافية المالية والتنافس النزيه والسلمي وأن يتم تطبيق مبدأ المساواة بين المترشحين في تنظيم الاجتماعات الحرة ويضمن الحرمة الجسدية للمترشحين والناخبين ويتفادى الاعتماد على شعارات فئوية أو جهوية أثناء الحملة الدعائية. لكن العناية البالغة يجب أن تتوجه الى منوال المواطن الذي نريد ومنظومة المواطنة التي نبحث عنها ويمكن أن تكون حاضنة لقيم الثورة.

على هذا النحو يلزم التنصيص على الأخلاق الاجتماعية وأن يسمح النظام السياسي الجديد لكل واحد أن يظهر قدرته المعيارية في التشريع الذاتي والقرار العمومي والاختيار الحر مهما كانت ثقافته ومنحدره وتوجهاته ولا ينظر الى ذلك على أنه يمثل خطرا على الديمقراطية بل منبع مصالحة وتعاون. ربما ما نحتاج اليه مستقبلا هو أن تتحول الديمقراطية الى نموذج اتيقي وسياسي وليس فقط الى ميكانيزم اجتماعي واقتصادي. لكن الى أي مدى يمكن اختزال العملية الديمقراطية في تنظيم الانتخابات؟ أليست الانتخابات مجرد آلية اذا ما وقع توجيهها بعناية قد تفرز نظاما غير ديمقراطي وتعبد الطريق الموصل الى الاستبداد والشمولية؟ وهل ستظل نتائج الثورة باقية معنا بواسطة الدستور مستقبلا ؟ أليس من يربح هو الأقدر على فهم طبيعة الثورة؟

الهوامش والإحالات:

[1] هيجل، أصول فلسفة الحق، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة ، 1996. الفقرة 272، ص.530.

2جان جاك روسو، في العقد الاجتماعي، ترجمة عبد الكريم أحمد ، مراجعة توفيق اسكندر ، بإشراف الادارة العامة للثقافة بوزارة التعليم العالي ، مصر، من دون تاريخ ،ص.121.

3هيجل، أصول فلسفة الحق، ص.539.

4Hans Kilson, Théorie pure du droit, 2e édition traduite par Charles Eisenmann, Dalloz, 1962, Paris. Hans Kilson ,Théorie générale du droit et de l’État suivi de La doctrine du droit naturel et le positivisme juridique, LGDJ – Bruylant, 1997, Paris, coll. La pensée  juridique.

5Fondement

6 Sans fondement

7حنة أرندت، في الثورة، ترجمة عطا عبد الوهاب، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت، 2008. ص.56.

8Fondation

9حنة أرندت، في الثورة،. ص.27.

10Françoise Proust , Le récitant, Politique et pensée, colloque Hannah Arendt, éditions Payot & Rivages, 1989,  p .112.

11حنة أرندت، في الثورة، ص.53.

12بول ب- آرمسترونغ، القراءات المتصارعة، التنوع والمصداقية في التأويل، ترجمة فلاح رحيم، دار الكتاب الجديد المتحدة، ليبيا، الطبعة الأولى، 2009، .ص.196.

13بول ب- آرمسترونغ، القراءات المتصارعة، التنوع والمصداقية في التأويل، ص.211.

المصادر والمراجع

بول ب- آرمسترونغ، القراءات المتصارعة، التنوع والمصداقية في التأويل، ترجمة فلاح رحيم، دار الكتاب الجديد المتحدة، ليبيا، الطبعة الأولى، 2009،

حنة أرندت، في الثورة، ترجمة عطا عبد الوهاب، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت، 2008

هيجل، أصول فلسفة الحق، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة ، 1996.

جان جاك روسو، في العقد الاجتماعي، ترجمة عبد الكريم أحمد ، مراجعة توفيق اسكندر ، بإشراف الادارة العامة للثقافة بوزارة التعليم العالي ، مصر، من دون تاريخ

كاتب فلسفي