تمهيد- ما من نص أو جملة قيلت في كتاب المقدمة لابن خلدون ( ت 808 هـ/1406 م) إلا وتصب في صالح طبيعة الحرب وفلسفتها ( أصلها، وأنواعها وأسباب ومشروعية قيامها وجوهريتها في الطبع الإنساني)، وهو ما نجده في أي عبارة قالها هذا المفكر من خلال نقده الرواية التاريخية والخبر وإعمال العقل فيهما، حتى نشأة الدولة وقيامها بالعصبيات، وما يتلوها من العمران البشري عن البداوة إلى الحضارة وانهيار الدولة فيما بعد حين تبلغ الفناء والشيخوخة بحكم الحتم التاريخي، فمقدمة ابن خلدون هي بتعبير آخر كتاب في الحرب وعن الحرب وأصل الحرب، إذ يَعتقد جازما إن أصل قيام الدولة والاجتماع البشري إنما هو قائم على دعامة التنازع والغلبة بوجود وازع يدفع عدوان بعضهم بعضاً. حتى أن هاجسه كان مأسورا في هذا الموضوع بقوة، ولهذا استطيع القول: إن ابن خلدون هو فيلسوف الحرب بامتياز.
ولكن، قبل أن نفصل القول في موقف ابن خلدون من الحرب وجوهريتها ومشروعية قيامها وأنواعها، لابد من طرح جملة أسئلة فلسفية، هي:
ما معنى الحرب؟ وهل الحرب أصيلة في طبيعة الإنسان نفسه؟ أي بمعنى آخر هل الإنسان بطبعه شرير عدواني يحب الحرب وشنها على غيره مهما كان هذا الغير، إنساناً أو حيواناً أو نباتاً، أو بيئةً بكل أشكالها؟ وهل أن السلم عارض، يطالب به الإنسان بعد أن يذوق ويلات الحرب ودمارها؟ وهل أن سبب قيام الحرب وتسويغها دافعه أخلاقي أو ديني أو قانوني أو ثقافي أو علمي تقني؟ إن الإجابة عن تلكم الأسئلة سوف تأتي في سياق هذا البحث.
أولاً- مشروعية الحرب: خصص ابن خلدون في كتابه المقدمة مكانة مهمة لبحث الحرب في أكثر من فصل من فصول مقدمته، منها فصل عن مذاهب الأمم في الحرب، وفصل عن الحرب التي تقوم بين الدولة المستجدة والدولة المستقرة، وفصل عن أثر الموسيقى والرايات في الحروب، وفصل عن التفاوت بين مراتب السيف والقلم.
إن الذي يهمنا من هذه الفصول المخصصة للحرب، الفصل الذي عقده عن الحرب ومذاهب الأمم في ترتيبها، والذي يسوغ فيه مشروعية الحرب بصراحة تامة لا ريب فيها، قائلا: (( إنّ الحرب وأنواع المقاتلة لم تزل في الخليقة منذ برأها الله، وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض، ويتعصب لكل منها أهل عصبيته، (والحرب) أمر طبيعي في البشر، لا تخلو عنه أمة ولا جيل، وسبب هذا الانتقام في الأكثر إما غيرة ومنافسة، وإما عدوان، وإما غضب لله ولدينه، وإما غضب للمُلك وسعي في تمهيده).
من هذا النص الواضح والجلي عن الحرب على الرغم من جمله المقتضبة القليلة، نستنتج الآتي:
أولا- إنّ الحرب جوهرية أي أنها أمر طبيعي في البشر حتمي، أراده الله وليست عارضة في الطبيعة الإنسانية.
ثانياً- إنّ الحرب هي التي تقيم السلطة السياسية وتُمْسِكها، إذ لا توجد في تاريخ البشرية المديد سواء مدنية أو عمران بشري أو بداوة إلا وقد مرّ بالحرب وذاقت ويلاتها، إذ لا تخلوا أية امة أو جيل منها، وهذا بمثابة قانون عام استنبطه ابن خلدون من سيرورة الحضارات وقانونها العام، وهو محق بذلك، لأن الشواهد عليه كثيرة، كما سنبين لاحقا، إذ إنّ هذه السلطة تصدر عن السلطة العسكرية.
ثالثا- إنّ أصل الحرب إرادة انتقام البشر بعضهم من بعض، وعلى الرغم من أن ابن خلدون قد تكلم غير مرة عن ميل أهل البدو إلى النهب، أي أنها من فعل الإنسان وإرادته واختياره.
وأما أسباب الانتقام كما يصفها ابن خلدون ويسوغها، فهي أربعة:
غيرة ومنافسة: وهذا يجري بين القبائل المتجاورة والعشائر المتناظرة.
2- عدوان: وهذا يقوم في الغالب بين الأمم الوحشية الساكنين بالقفر، ويسمي ابن خلدون هذه الأمم الوحشية بأسمائها، وهم: العرب والترك والتركمان والأكراد وأشباههم، إذ عصبية هؤلاء أنهم جعلوا أرزاقهم في رماحهم ومعاشهم فيها بأيدي غيرهم، ومن دافعهم عن متاعه آذنوه بالحرب، وهَمهم غلب الناس على ما في أيديهم. بعدّ أن الأمة الوحشية ملكها أوسع، لأنها أقدر على التغلب والاستبداد واستعباد الطوائف لقدرتها على محاربة الأمم، ناهيك عن أنهم ليس لهم وطن يرتاحون منه، ولا بلد يحجون إليه، فنسبة الأقطار إليهم سواء، فلا يقفون عند حدود أفقهم، بل يطفرون إلى الأقاليم البعيدة ويتغلبون على الأمم النائية. وهنا يطلق ابن خلدون على الحرب الانتقامية في هذين الصنفين بحرب البغي والفتنة.
3- عصبية دينية مقدسة: تحت مسمى الغضب لله ولدينه، وهو ما يطلق عليه في الشريعة اصطلاح ( الجهاد)، فعصبية هؤلاء الحربية هي عصبية دينية، أصلها الدين، جاءت إما من نبوة أو دعوة حق، وهنا نجد ابن خلدون يؤكد في ملاحظة دقيقة جديرة بالاعتبار إن العصبية الدينية وما تدعوه من دعوة تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية، بعدّ أن الصفة الدينية تذهب بالتنافس الذي في أهل العصبية البدوية نحو الدين، وتسمى هذه الحرب بالحرب العادلة.
4- عصبية الحكم والملك: وهي الحرب التي يقول عنها ابن خلدون إنها تقع في الدول بعامة مع الخارجين عليها والمانعين لطاعتها. أي أنها حرب مشروعة على وفق رأيه، إذ يطلق عليها وعلى حرب العصبية الدينية المقدسة بالحروب العادلة.
من خلال تحليلنا لهذا النص يتبين بجلاء أن ابن خلدون يقول صراحة ويسوغ مشروعية الحرب بكل أنواعها، ويدعو إليها ويمجدها، وبخاصة إنْ كانت تقوم بواجب أخلاقي ديني اجتماعي فتعدّ عادلة، وبخصوصية أكثر عندما يكون إعلانها من المسلمين على غيرهم، في حين يحرمها ويذمها إنْ كانت من أعداء الإسلام، ويعدّها حرب جور وظلم، أي بمعنى آخر، يعدّ ابن خلدون من المسوغيين والقائلين بالحرب التوسعية، حتى ليمكن الإفادة من رأيه اليوم في الحروب التوسعية التي تشنها بعض الدول على بعض.
ثانياً- أسباب الظفر والغلبة في الحرب- فضلاً عما تقدم، يرى ابن خلدون في نص مميز آخر، إن من أسباب الظفر والغلبة في الحرب لا يكون في العُدَّة والعديد من الجيش والخطط الحربية المحكمة وكمال الأسلحة وحسن استعمالها وكثرة الشجعان وصدق القتال فحسب. بل إنما يكون بأسباب خفية وأسباب ظاهرة.
1- الأسباب الخفية: في هذه الأسباب يظهر ابن خلدون إنه يُعلي من شأن السببية الطبيعية في العلاقات الإنسانية وبخاصة الحرب، على الرغم من كونه عقدّيا ينتمي إلى المذهب الأشعري الذي لا يقر بالسببية الطبيعية، ويؤمن بخرقها، إذ تقسم الأسباب الخفية عند ابن خلدون على قسمين، هما:
أ. البخت والاتفاق: وقصده في البخت والاتفاق ليس هو مقصد العامة من الناس فيه، بل يعني حصول الظفر بالحرب بأسباب نجهلها نحن، منها على وفق رأيه: أمور سماوية لا قدرة للبشر على اكتسابها، أقرب للمعجزات، تُلقى في القلوب فيستولي الرهب عليهم لأجلها، فتختل مراكزهم وتقع الهزيمة، وفي هذا المجال ينسب ابن خلدون حديثا مرفوعاً للنبي محمد ( صلى الله عليه وسلم) يقول فيه: نُصرت بالرعب. ومصاديقه ما حدث للمسلمين في بداية الدعوة الإسلامية وما حدث لهم لاحقاً في صدر الإسلام من فتوحات للبلدان المجاورة ( العراق والشام ومصر وبلاد فارس).
ب- الأسباب الطبيعية: يعدّ ابن خلدون من القائلين بهذه الأسباب في تفسيره لقيام الحضارات والعمران البشري وانهيارها، إذ الإنسان عنده ابن عوائده ومألوفه لا ابن طبيعته ومزاجه، ولهذا فمن الأسباب الطبيعية في الظفر بالحرب على حد قوله: استعمال الحيل والخداع في الحرب، والشهرة والسمعة والصيت والدعاية والتأثير النفسي الذي يولد الخوف والفزع والرعب وغير ذلك، أي أنها أسباب تتعلق بمعنويات العدو، ويعزو ابن خلدون هذا النوع من الأسباب أهمية في تقرير الظفر والغلبة في الحرب، حتى أنه ليجعلها تفوق في التأثير الأسباب الظاهرة.
2- الأسباب الظاهرة: وهي من أسباب الغلبة والظفر في الحرب عند ابن خلدون، والتي يعزوها إلى حال العصبية، وهي أن تكون في أحد الجانبين عصبية واحدة جامعة لكلهم، في مقابل مجموعة ذات عصائب متفرقة متعددة، والأخيرة يقع بينها التخاذل والجبن والخوف. ويضرب ابن خلدون لذلك مثلاً في العصبية الواحدة إنها موجودة في الأمم المتوحشة التي مرَّ ذكرها آنفاً، ولهذا تَغلب وتَظفر هذه الأمم في الحرب على غيرها، لأنها أقرب إلى البداوة في القوة والعصبية والشوكة واللُحمة الدموية من العصائب المتفرقة، وبهذه العصبية يَقومُ المُلك وتقوى الدولة على وفق رأيه، في حين العصائب المتفرقة والقبائل الكثيرة قلَّ أن تُستَحْكَم بها الدولة، لاختلاف الأهواء والآراء وتشتتها، ويحدث هذا التشتت والاختلاف لهذه العصائب في الدول التي غادرت سورة العصبية واقتربت من الحضارة والعمران فضعفت همتها في المطاولة في الحرب، أو ما يسميها ابن خلدون بالحروب السجال التي تحدث بين الدولة المستجدة ذات العصبية الواحدة في مقابل الدولة المستقرة ذات العصائب المتعددة المتشتتة الأهواء. إذ يَعدّ العصبية والتوحش والعدوان سبباً في نشوء المُلك والدول بجميع ما يكون للإنسان من سعي وعمل وكسب وتحصيل وإنشاء علوم وصنائع وعمران.
يربط ابن خلدون ببلاغة معهودة وحكم منطقي فلسفي تاريخي بين الحرب والشر، ذلك أن الشر هو أقرب الخلال الأخلاقية إلى الإنسان، كما أن من أخلاق البشر ما يتركز فيهم الظلم والعداوة بعض بعضاً، فمن امتدت عينه إلى متاع أخيه على حد قول ابن خلدون فقد امتدت يده إلى أخذه إلا أن يَصدهُ وازع،…، يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم، …، فيكون الوازع واحداً منهم يكون لهم عليه الغلبة والسلطان واليد القاهرة حتى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان.
ثالثاً- أصول منطلقات ابن خلدون في الحرب: انطلق ابن خلدون من منطلقات عِدّه في معالجته للحرب، منها: فلسفية ودينية عقدية واقتصادية واجتماعية ونفسية وحضارية وثقافية، ومنها: تاريخية معاشة في زمانه وقبله، ومنها: شكل السلطة السياسية في زمانه وعصره، فضلاً عن أثر البيئة الطبيعية والموقع الجغرافي لأقاليم الأرض.
وهنا يلاحظ ابن خلدون ببصيرة نافذة إن ما تتركه الحرب من آثار واضحة وبارزة في الحضارة والثقافة والمدنية، وهو ما يتجلى عنده في حديثه عن أثر الغالب في المغلوب وكون المغلوب مولع بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله.
استعان ابن خلدون في معالجته الفلسفية للحرب وأسباب قيامها وأصلها ومشروعيتها، بآراء الفلاسفة السابقين عليه، سواء من اليونانيين أو العرب المسلمين، وبخاصة الفيلسوف الفارابي ، إذ استقى أبن خلدون تصنيفه لأنواع الحرب والمقاتلة منه، وأخذ عنه فكرته الرئيسية لتسويغه مشروعية قيام الحرب، وأنها جوهرية في الطبع الإنساني، معتقداً هذا الأخير أن سبب قيامها هي الغلبة، أو شفاء غيظ، أو لذة ينالها، أو اكتساب خير تستأهله المدينة من خارج ممن في يده ذلك، أو هي لدفع عدوان وَردَّ المدينة من خارج، أو في حالة الجهاد لنشر الدعوة، إذ الحرب هي من أعظم أسباب قيام المدن، وأن كانت نتائجها الخراب والدمار.
أما البعد الديني العقدّي لأسباب قيام الحرب فيتمثل عند ابن خلدون من خلال معالجته لموضوعة الغضب لدين الله والجهاد في سبيله، وهنا رجع هذا الفيلسوف إلى التاريخ الإسلامي الأول وما جرى فيه من فتوحات، وهو بهذا المجال لم يستعمل معايير فيلسوف أخلاقي، بل طبق معايير فقيه لموضوع الحرب العادلة التي اسماها بالجهاد، وحصرها بالفتوحات الإسلامية فقط، في حين جعل حرب الجور التي أطلق عليها بالظالمة مما تشن على الإسلام ديناً وحضارة،. وممّا يجب أن يقال هنا: إن ابن خلدون استند في تقسيمه للحرب الدينية أيضاً على رأي الفارابي من قبل، حين قسم الأخير الحرب على وفق ذلك.
كما يتمثل البعد البيئي الجغرافي لقيام الحرب ومشروعيتها عند ابن خلدون، من خلال البحث في أثر المناخ وموقع الإقليم الجغرافي في النفس البشرية والقيم الأخلاقية، إذ يقول: إنّ من يسكن من البشر في الأقاليم الحارة والمتطرفة في حرارتها، إنما تكون طباعه أقرب للطباع الحيوانية الشريرية المتوحشة، إذ يمتاز هؤلاء السكان كونهم متوحشون بطبعهم يأكل بعضهم بعضاً، فيصبحون بعيدين عن أي فعل إنساني قيمي، بعد أن تخالط أبدانهم لحوم البشر. وهذا هو ما دفع بابن خلدون إلى أن يصف سكان البادية وأهل البدو بالصفات الوحشية كونهم بعيدن عن المدن حاملين للسلاح يقتاتون منه بالسطو والهجوم على الرحل، فأصبحوا بذلك أولي بأس شديد، ويقابل هؤلاء سكان الأقاليم الباردة أو المتطرفة بالبرودة إذ يتسمون بخصال أخلاقية، هي: الشجاعة والبسالة والإقدام في الحرب بتوحش، وهؤلاء هم: سكان بلاد الترك والأكراد ومن جاورهم من البلدان الباردة.
ثالثاً- مشروعية الحرب: إنّ دراستنا لموقف ابن خلدون من الحرب قادتنا إلى تتبع هذا الموضوع عند الفلاسفة السابقين عليه واللاحقين له. إذ انقسم الفلاسفة في نظرتهم لأصل الحرب ومشروعيتها على فريقين كبيرين، هما
الأول- يعتقد أن الإنسان شرير بطبعه، وهذا الشر متأصل في طبيعته البيولوجية والسايكلوجية، وأن الفلسفات التربوية والأخلاقية والأديان والقوانين والتشريعات وقيام الدولة بمؤسساتها المتعددة والأعراف والتقاليد إنما جاءت لتَحدّ من شرِيته التي فطر عليها.
كما يذهب هذا الفريق إلى أن الحرب مباحة وضرورية ومشروعة، وبها تنتظم الحياة وما فيها، ويقف على رأس هؤلاء الفيلسوف اليوناني هيراقليطس الذي مجد الحرب في كتاب له بعنوان ( جدل الحب والحرب) ، إذ يقصد هنا بالحب السلام، أما الحرب فهي التغير المستمر في الأشياء. في حين أشار أفلاطون إلى الحرب والسلم في محاوراته، وبخاصة الجمهورية والقوانين، ففي الجمهورية دعا إلى كيفية بناء المدينة المثالية الخالية من التناقض والقائمة على العدالة والخير، والتي يعمل فيها الإنسان حسب طاقته ومؤهلاته، فضلاً عن بناء نظام تربوي صارم يشذب ويهذب الإنسان من الشرور ويقربه من الخير والعدالة والفضيلة، كي يبني هذه المدينة الفاضلة المثالية، ويشير أفلاطون إلى أن هذه المدينة هي نموذج خاص ووحيد للأخلاق والعدالة والفضيلة لأن فئاتها تعرف ما ذا تريد وتفعل، وهذه الفئات هي: الحرفيين والحراس والحكام الفلاسفة، ولأنها مدينته الفاضلة مثالية فإنها تنظر إلى كل الدول أو المدن المجاورة لها على أنها مدن غير فاضلة وليس فيها عدالة، مما يستلزم كما يشير أفلاطون إلى خيار الحرب لتطبيق الحق والعدالة والفضيلة، معتقداً أن سبب قيام الحرب لتحقيق الخير الأكبر المتمثل بالسلام والعيش في المدينة الفاضلة، وهذا النوع من الحرب الذي تشنه المدينة الفاضلة على غيرها من المدن تعدّ حرباً عادلة وليست ظالمة أو عدوان على وفق رأيه، لأنها قامت من المدينة الفاضلة ضد الأمم المتوحشة الناقصة في إدارتها واجتماعاتها السياسية. إذ لا خيار عنده للأمم غير الفاضلة وشعوبها سوى الرضوخ والانضمام إلى المدينة الفاضلة.
ومن جهته يعتقد أرسطو أن السبب في قيام الحرب هو ابتعاد الإنسان عن طبيعته السياسية التي خلق من أجلها، فيسعى للحرب من اجل إعادتها لوضعها الطبيعي.
ويذهب كذلك الفيلسوف المسيحي القديس أوغسطين إلى تسويغ الحرب، لأنها أصيلة في طبيعة الإنسان، إذ يرى فيها أنها حِملاً على الإنسانية أن تحمله نظراً لطبيعتها الفاسدة منذ الخطيئة الأصلية ( يقصد خطيئة آدم وخروجه من الجنة).
وفي ذات السياق نجد الفيلسوف الفارابي هو الآخر قد أباح وسوغ قيام الحرب بقوة، وهو ما نجده في كتبه تحصيل السعادة وتلخيص النواميس وفصول منتزعة والسياسة المدنية، في حين أغفل ذكر الحرب في كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة. إذ يحدد الفارابي في كتابه فصول منتزعة ( = فصول المدني) الحرب إنما تقوم إما لدفع عدو ورد المدينة من خارج، أو اكتساب خير تستأهله المدينة من خارج ممن في يده ذلك، كما يسوغ الفارابي قيام الحرب إنْ كانت لدفع ضرر عن المدينة، أو لردع عدوان خارجي، أو الجهاد لنشر الدعوة، وهذه الأخيرة هي الحرب الدينية بامتياز وهي: العادلة. كما يعتقد الفارابي إن أسباب قيام الحرب هي الغلبة، أو لشفاء غيظ أو لذة ينالها لا شيء آخر.
والحرب عند الفارابي على نوعين: عادلة وظالمة ( جور)، ومن الجدير بالذكر إن هذا التمييز بين نوعي الحرب عند الفارابي قد تبناه ابن خلدون فيما بعد كما نوهنا لذلك سابقاً، مع ملاحظة أن الفارابي يعتقد أن الحرب تسبب الخراب والدمار. حتى ليمكن القول: إنّ الفارابي أفضل فيلسوف إسلامي حلل قيام الحرب في الفلسفة الإسلامية قبل ابن خلدون.
استمرَّ هذا الموقف من تسويغ قيام الحرب وجعلها غريزية في الإنسان مع الفلاسفة في العصر الحديث وحتى يومنا هذا، وهنا نستحضر موقف الفلاسفة والمفكرين من أيام ميكافيلي ودوركهايم وسيغموند فرويد إذ ظلت هذه المواقف هي السائدة والشائعة عند هؤلاء، والتي تقول أن طبيعة الإنسان هي التي تخلق الصراع. وأبرز رأي في هذا المجال قال به الفيلسوف توماس هوبز ( ت 1679)، إذ صرح في كتابه الليفاثيان: إنّ الإنسان ذئب لأخيه الإنسان حالة الطبيعة إذا ما جردنا المجتمع من السلطة السياسية، كما ويعدّ هوبز ذلك حرب الواحد ضد الآخر، إن سلمت المجتمعات من عمل الدولة، والتي هي منوطة بالقانون والشرطة والمؤسسات السياسية، ومع ذلك فإن الدول تخضع للاندفاعات الغريزية عينها التي يخضع لها الأفراد.
أما بعض فلاسفة القرن العشرين فنجد لديهم تفسيرات لمشروعية قيام الحرب، منها أن الحرب هي سوء وظيفي خاص تقترفه هذه الدولة أو هذا المجتمع ، وهنا نجد عالم الاجتماع أميل دوركهايم قد عدَّ الحرب ظاهرة طبيعية في حياة الشعوب على امتداد التاريخ، إذ يعتقد إن أسباب قيام الحرب إنما يعود لأسباب اجتماعية وسياسية، وهنا يؤرخ عنده السبب الأول في قيام الحرب هو تأسيس الدولة الأولى في التاريخ وهي دولة المدينة في العراق القديم.
كما يعضد مشروعية الحرب وضروريتها الفيلسوف نيتشه ( ت 1900)، قائلاً: إنّ الحرب ضرورية ومشروعة لقيام الدولة وأساس نشأتها. وأن مشروعية قيامها سببه الصراع بين الرُوحين الديونيزية والهيراقلطية، إذ عرض لذلك في كتابه جينالوجيا الأخلاق، فالحرب هي أداة لتنفيذ إرادة القوة وقلب وتغيير كل شيء. وقيام طبقة العبودية للآخر، وهذه العبودية هي ناتج إرادة القوة.
وهناك من يعتقد أن سبب قيام الحرب اقتصادي، وأما ومشروعيتها فمردها إلى الإنسان نفسه، وهنا يحضر رأي الفلسفة الماركسية في الصراع الطبقي بقوة.
في حين وجد الفيلسوف الألماني هيدجر ( ت 1978) مشروعية قيام الحرب، إنما مردها القدرة على امتلاك الوجود والتصرف والتحكم به من خلال قوة التقنية وإرادة العمل. فالتقنية التي يترامى الإنسان في أحضانها هي التي سوف تطحنه طحنا، وهنا تقع الحرب. فالحرب انتزعت الموجود من ذاكرتها وأضاعته في لحظة استخدام للمادة البشرية عادمة الأوهام في خدمة توكيل غير مشروط لإرادة القوة. ولهذا صرح هيدجر بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بالقول: إنّ العالم الانجلو- ساكسوني قرر أن يفني العالم بواسطة التقنية. ويضرب مثلا باستعمال القنبلة النووية في هيروشيما.
الفريق الثاني- يذهب إلى أن الإنسان مسالم بطبعه أو في حالته الطبيعية، وإن النظام الاجتماعي هو السبب في قيام الحرب وتسويغها، أي أن الحرب لا تعدّ قانوناً جوهريا في سلوك البشر في علاقاتهم بعضهم بعضاً، وإنما هي حالة عرضية أسبابها عدوان خارجي أو فتنة داخلية أو غلبة سياسية أو غير ذلك، وتنتهي الحرب عند هذا الفريق بانتهاء أسبابها التي قامت من أجلها وهي السيطرة على أموال وأراضي الغير بالقوة المسلحة.
كما ويعتقد هذا الفريق إن الارتماء بأحضان الجسد ومتطلباته تجعله إنساناً شريراً بهيمياً لا يشبع من شهواته وبخاصة شهوة السيطرة والاعتداء على ما عند الآخرين وأخذ ما يملكون بالقوة، ومن هنا يبدأ التأسيس للحرب وبأبسط صورها. يقف على رأس هذه الفريق الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو ( ت1778) في كتابه العقد الاجتماعي، إذ يعارض روسو وجهة نظر هوبز السابقة، بل ويذهب إلى أن قيام الحرب هو عدم المساواة بين الدول في الموارد الطبيعية والنظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية.
في حين يرى فلاسفة آخرون أن الحرب تنتهي متى توفرت النشاطات الأكثر عقلانية مثل التجارة أو الصناعة وهذا ما يذهب إليه كل من جرمي بنتام وسان سيمون. ويفهم من رأي هذا الفريق أن الحرب لا تعد قانوناً جوهريا في سلوك البشر في علاقاتهم بعضهم بعضاً، وإنما هي حالة عرضية أسبابها عدوان خارجي أو فتنة داخلية أو غلبة سياسية أو غير ذلك، ولهذا تنتهي الحرب بانتهاء أسبابها التي قامت من أجلها وهي السيطرة على أموال وأراضي الغير بالقوة المسلحة.
رابعً- أنواع الحرب: حددت أنواع الحروب على وفق من يقوم بشنها على غيره من بني البشر، سواء أكانوا فرادى أو شعوبا أو مدنيات أو حضارات أو ثقافات أو ديانات، وهنا نجد الفلاسفة قد اهتموا بتحديد أنواعها، وهي على نوعين: عادلة وظالمة أو حرب جور وعدوان، ويقف على رأس هؤلاء الفلاسفة أفلاطون وأرسطو والفارابي وابن خلدون وروسو وميكافيلي وتوماس هوبز وعمانؤيل كانت وهيجل ونيتشه وهيدجر وميخائيل فالزر والقائمة تطول في تعداد هؤلاء الفلاسفة.
1. النوع الأول- العادلة: من وجهة نظر من يقوم بها أو بشنِها على غيره، ويُسوَغ لها إما بنشر فكرة أو مبدأ، أو رد عدوان، أو دفع ضرر، أو غضب لدين الله وهو ما يسمى بالجهاد، وهذا النوع من الحرب مباح عند هؤلاء إن كان لأسباب أخلاقية أو دينية أو مبدئية لمن يقوم به، في محاولة لتأسيس مجتمع مدني أو جماعة عالمية على أسس العدالة.
النوع الثاني- غير عادلة: أي حرب الجور والظلم والعدوان.
النوع الثالث- حروب فتنة وبغي: وهي حرب تقع بين فئتين من ذات الدين ( الملة) أو المذهب أو الطائفة، أو بين أبناء البلد الواحد ( حرب أهلية)، فالمسألة هنا نسبية تتبع موقف المتخاصمين في الحرب مردها على وفق ابن خلدون لطبيعة النفس الإنسانية التي جبل عليها مشايخ القوم وكبرائهم وما منحهم إياه قومهم من الاحترام والتبجيل.
أنواع أخرى- منها الحرب اقتصادية والحرب كونية والحرب القومية، والحرب الحضارية أو الثقافية، والحرب التكنولوجية، والحرب الرقمية، والحرب البيوكيمائية، ….الخ.
خاتمة- إنّ كل من نظر للحرب وكتب فيها وسوغها وبرر قيامها أو نقدها من الفلاسفة والمفكرين الذين ذكرناهم في بحثنا ومنهم ابن خلدون بخاصة، إنما انطلقوا من في ذلك من بيئاتهم الجغرافية والفكرية والدينية والثقافية والعلمية والاجتماعية والتربوية والمؤسسات التي يتبعون.
ويمكن القول بدءاً إنّ الحرب هي نقيض السلم، وأنها تقوم حين ينتهي دور المجموعات البشرية المتناحرة في الوصول إلى حالة ترضي الطرفين أو الأطراف المتناحرة بصدد المشكلات التي سببت هذا التناحر. فهي تقوم وتحضر بعد غياب لغة الحوار والتفاهم، فالحرب هي نهاية الحوار.