الاهتمام بعلم الأنساب يؤطر الفطرة الراسخة في النفس البشرية ولذلك فقد اعتنى العرب منذ القدم بالأنساب باعتبار أن الإنسان لا يمكن أن يبني أمجاده ومفاخره إلا إذا كان ضمن مجموعة من الناس تشد أزره وتمكنه من جلب المنافع ودفع المضار، وبطبيعة الحال لا يمكن الاتفاق على الانتماء العبثي الذي يكون خارج حدود التجمعات القبلية إلا إذا كانت هذه التجمعات تحمل الأواصر الطبيعية التي تأخذ القانون المغاير للسلوك الجمعي الناتج عن الطرق التي يتفق عليها المجتمعون، ولهذا فإن الروابط الطبيعية يمكن أن يكون منشأها قد أعد سلفاً دون أن يتدخل فيه الإنسان أو يفرض عليه إرادته، بتعبير آخر لا يمكن لأحد أن يتخلى عن قبيلته أو يدعي الانتماء إلى قبيلة أخرى. فإن قيل: ذكر في السيَر أن هناك بعض الناس قد نسبوا أنفسهم إلى غير قبائلهم؟ أقول: هذا صحيح ولذلك أصبح من الضروري أن ينشأ لديهم علم جديد أطلقوا عليه “علم الأنساب” ومن هنا يمكن الرجوع إلى أصحاب هذا العلم لأجل التفريق بين صحيح النسب ومقبوله أو مشهوره ومردوده.
ولذا نجد أن الروابط القبلية قد ظلت على ماهي عليه حتى بعد الانتقال إلى العصر الإسلامي واختلاف الناس في الاتجاهات والانتماءات التي أحدثها الإسلام وبنى عليها روابطه الجديدة التي يمكن أن تكون هي الرافد الذي يضيف المكارم والمفاخر لأتباعه، ولهذا فإن الإسلام قد شفع روابطه بالروابط القبلية دون أن يضيف إليها أو ينقص منها اللهم إلا توجيهها إلى عنوان التقوى، كما في قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات 13. وبالإضافة إلى هذا فإن الله تعالى قد أمر النبي (ص) أن ينذر عشيرته الأقربين، كما في قوله: (وأنذر عشيرتك الأقربين) الشعراء 214. حتى تأخذ الدعوة سموها ومنزلتها أو بالأحرى يكون انتشارها أرفع بين جميع القبائل، ولهذا أخذ المفسرون في البحث عن الأنساب وهل أن الإسلام أقرها أو أن القرآن الكريم تطرق لأهميتها. ولو تأملنا في مطولات التفسير نجد أن القسم الأكبر منهم وبسبب الميول الخاصة والطباع البشرية قد أوهموا أنفسهم بأن انتفاء الأنساب من المسلمات الطبيعية باعتبار أن القرآن الكريم قد أشار إليها، كما سيمر عليك في هذا البحث المخصص لهذا المقال.
وعند النظر في السيَر والأحداث يظهر أن الأمر ليس كذلك على الرغم من الكثرة العددية لأصحاب هذا النهج الذي اعتمد الظن دون الكشف عن الحقيقة، والدليل الذي تمسك به هؤلاء يتمثل في فهمهم القاصر لمفهوم الآيات التي أشارت إلى هذا الصدد، ولو أن هذا الصنف من المتكلمين قد أخذوا بظلال تلك الآيات دون منطوقها لبانت لهم الحقيقة إلا أن الأمر لم يعد أكثر من اثبات منهجهم، وهذا أشبه بمن يعتمد الكليات دون التفقه في جزئياتها أو بيان الحالات الاستثنائية التي تحدثت عنها أو نزلت لأجلها. وفي طرحنا هذا لا نريد أن نجعل هذه الكليات بمنأى عن العرف القرآني أو إلغاء المعاني الظاهرة، وإنما نريد أن نبين أن هناك مقتضيات آنية يجب الوقوف عندها، دون أن نجعل القرآن الكريم كالأخبار العاجلة التي تزول بزوال نتائجها أو المدة التي تكفل بقائها، ومثالاً على هذا أولئك الناس الذين تمسكوا بمفهوم السحر والحسد دون الرجوع إلى جزئيات ومصاديق تلك العناوين التي تطرق إليها القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: (يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) البقرة 102. وكذلك قوله: (ما جئتم به السحر إن الله سيبطله) يونس 81. وقوله في الحسد: (ومن شر حاسد إذا حسد) الفلق 5. وكذا قوله: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر) القلم 51.
وبالإضافة إلى ما ذكرنا فإن هناك العديد من الآيات التي أشارت إلى كثير من المفاهيم التي لا يمكن أن نجد مصاديقها أنى شئنا، ومن هنا وقياساً على ما ذكرنا من أمثلة يظهر أن مفهوم الأنساب في القرآن الكريم يمكن أن يحمل على القرائن العقلية التي ستظهر في آية البحث القادمة وبخلاف ذلك فلا موجب للآيات التي بينت أهمية الأنساب، كما في قوله تعالى: (وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديراً) الفرقان 54. وكذا قوله: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) الأنفال 75. الأحزاب 6. وقوله: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) النساء 1.
وهناك آيات كثيرة تشير إلى ذوي القربى وأهميتهم، كما في قوله: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) الأنفال 41. وغيرها من الآيات، ولكن الذي أشكل على المفسرين هو قوله تعالى: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) المؤمنون 101. ظناً منهم أن لا قيمة للأنساب في عرف القرآن الكريم. ولكن هذه الآية تبين العكس من ذلك عند التفريق بين منطوقها ومفهومها، حيث إن منطوقها يبين أن الأنساب سوف تتلاشى يوم القيامة بينما مفهوم الآية يبين أن الأمر في الحياة الدنيا ليس كذلك، ومن هنا يمكن القول إن النفخ في الصور قد يحدث مرتين الأولى عند بدء أحداث يوم القيامة حيث يموت جميع الخلق، والثانية عند الإحياء حيث يبدأ الحساب، وهذا ما تشير إليه آية البحث، والصور أشبه بالبوق المتعارف عليه في ايقاظ الجيش أو انتقالهم من مكان إلى آخر وكان مستعملاً في تنقلات القوافل عند العرب، ولذا ورد ذكره في القرآن الكريم ليبين المراحل التي تحدث فيها الأهوال وذلك في أمر مشابه لما يجري هنا من حيث الأوامر والنواهي التي لا يمكن التخلف عنها، وفي ذكره عناية خاصة كما هو الحال في العرش واللوح والكرسي، بتعبير آخر ليس هناك نفخ في الصور على حقيقته وذلك لعدم وجود ما يماثل الألفاظ التي نستعملها فتأمل.
وبناءً على ما تقدم يظهر أن منطوق الآية يشير إلى انتفاء الأنساب في النفخة الثانية، ولكن مفهومها يبين أهمية الأنساب، وهذا ما يستفاد من القرائن العقلية، إذا ما فسرنا آية البحث بآيات آخرى، حيث إن الإنسان سرعان ما يستنجد بقبيلته في وقت الأزمات، والآية نظير قوله تعالى: (يوم لا ينفع مال ولا بنون) الشعراء 88. إذا ما رد إلى قوله: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً) الكهف 46. وكذا قوله: (يوم يفر المرء من أخيه… وأمه وأبيه… وصاحبته وبنيه… لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) عبس 34- 37. وأنت خبير بأهمية هذه الروابط التي انتفت في ذلك اليوم فقط فتأمل.