تصريح دميتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي؛ ان الحروب الاقتصادية عبر التاريخ تفضي في أحيان كثيرة الى حرب حقيقية، ليس فقاعة إعلامية فجرها رئيس روسيا السابق؛إنما تهديد جدي يهدف الى اثارة الرعب في صفوف الأعداء؛ والتذكير بان بلاده دولة نووية ، بعد ان سد التحالف الانغلوسكسوني؛ كل نوافذ الحل السياسي، مع فلاديمير بوتين، الذي يجمع المراقبون على إنه لن يتنازل عن الخطوط الحمراء المرسومة،للحملة العسكرية الموسومة رسميا بإسم “العملية الخاصة لنزع أسلحة أوكرانيا واجتثاث النازية” التوصيف الملزم لوسائل الإعلام كافة.
وبخلافه فان النيابة العامة، تعرض المخالف لإجراءات عقابية تصل الى حد منع النشر والبث، كما حصل مع قناة ( دوجد) التلفزيونية ومحطة( ايخو موسكوفي) الإذاعية.
لقد بات فرض العقوبات على روسيا، هواية، وصلت الى حد العبث، بمقدرات دولة تملك الاف الرؤوس النووية، وأظهرت أنيابها في مراحل حاسمة من تأريخ القارة الأوربية، وخلصت جيوشها البشرية من الفاشية والنازية.
وحتى قبل تفاقم الأزمة بين موسكو والناتو، شَخصَن التحالف الانغلوسكسوني، المطالب الروسية، بنسبها الى نزعة بوتين الاستبدادية، ولم يتورع نظيره الأميركي بايدن عن وصفه بالقاتل، في سابقة لم تشهدها العلاقات بين موسكو وواشنطن، حتى في أسوء سنوات الحرب الباردة.
صحيح ان الإعلام الغربي والاميركي لم يوفر تشنيعا بحق القيادات السوفيتية، ومن بعدها الروسية، لكن لم يجرؤ مسؤول أوربي او أميركي على إطلاق أوصاف خالية من التهذيب، ضد قادة الكرملين.
بل ان وصف دونالد ريغن الاتحاد السوفيتي بإمبراطورية الشر،لم يمس مباشرة سدنة الكرملين، واتسم الخطاب السياسي الغربي بالدبلوماسية، و البراغماتية.
فجأة، انقلبت الصورة؛ واخذت العقوبات تترى لتمس البنى الأساسية للتجارة والاقتصاد الروسي، متجاوزة ناهبي أموال الشعب الروسي واموالهم الأسطورية المكدسة في الغرب.وفي الولايات المتحدة.
وقد سمعت من موظف كان يعمل في القنصلية الروسية بنيويورك إن عدد فاحشي الثراء، من حملة الجنسيات المزدوجة، ولديهم مصالح في مدينة الأبراج،يصل الى عدة الاف ، لا يقيمون في روسيا، لكنهم يحرصون على تثبيت جنسيتهم، وتقدم لهم القنصلية الروسية في عاصمة الأمم المتحدة؛ خدمات لوجستية،لاموالهم وممتلكاتهم الباقية في الوطن الروسي الام.
ويمزح محدثي ” روسيا بالنسبة لهم الزوجة للغسيل والطبخ، ونيويورك، عشيقة مثقلة بالمجوهرات”.
لم تترك العقوبات، نافذة بوجه الدولة النووية الكبرى، الا وأغلقتها ، كما أغلق ضيوف بوتين ، قبل أسبوعين من انطلاق الصاروخ الروسي الأول بإتجاه أوكرانيا ، كل الفرص لحل وسط، يأخذ بنظر الاعتبار مخاوف روسيا من وصول حلف الناتو الى عقر دارها، ولم يقرأ الأوربيون وقبلهم الاميركان، خطابات بوتين، ورحلته في محطات التأريخ، واعتبار أوكرانيا كيانا مصطنعا تناوب على ترقيعه لينين وستالين وخروتشوف بعد قيام الدولة السوفيتية.
في التعبير اللغوي فان اسم أوكرانيا ، مشتق مِن
مفردة ( على الطرف) اي على اطراف الامبراطورية الروسية. ولا يسبقها حرف ( في اوكرانيا) وانما ( على أوكرانيا ) لانها فرع من اصل!
لم يكترث الغرب لخطاب العقيد السابق في جهاز أمن الدولة السوفيتية( كي جي بي)، ولم يتصور الاستراتيجيون انه عقيدة عسكرية وسياسية للدولة الروسية التي غيرت عقيدتها وايديولوجيتها مرتين خلال القرن العشرين ، من “الله والقيصر و بس”، الى الشيوعية بعقيدة أممية جذابة ، ودخلت الألفية الثانية، تتنطع لاستعادة الأمجاد الغابرة، بالقبضة الحديدية لبوتين .
بحث التحالف الأطلسي ، برأسيه الانغلوسكسوني، والفرنسي الألماني، عن ثغرات في مطلب بوتين الاساسي ؛ منع ( الطرف) أوكرانيا من الانضمام الى الناتو، ووقف نشر أسلحة إستراتيجية هجومية، تطوق روسيا في بلدان حلف وارسو المنحل، وتجادلوا معه بروح انتهازية، عن الباب المفتوح للناتو. بمعنى ان الحلف يرحب بدخول كييف في منظومته. مع ان شروط الانضمام لا تنطبق على اوكرانيا، حتى مستقبلا ، من واقع ان النظام الداخلي لحلف الأطلسي، يمنع دول النزاعات على الأراضي من دخول خيمته، ولو كانت تتسع للجميع وأبوابها مشرعة .
معروف ان أوكرانيا تتنازع مع روسيا على شبه جزيرة القرم، وعلى الجمهوريتين في إقليم دونباس. ولذلك فإن الانتهازية الغربية، تتشدق بضم كييف، فيما تعرف ان ذلك شبه مستحيل. فقط لمنابزة موسكو، والايقاع بين السلافيين وصولا الى إشعال الحرب.
أمضى زوار موسكو ساعات وساعات في مفاوضات الموائد المستطيلة، يستمعون الى مطالب بوتين، التي أختلط فيها التعجيزي والممكن. وبغطرسة، رفضوها دفعة واحدة، ولم يقرأ أحد منهم الغضب الخفي وراء عبارات المجاملة.
ومثلما تجاهل الغرب خطاب بوتين الموصوف بانه تأريخي أمام مؤتمر ميونخ للأمن والتعاون في اوروبا عام 2007، وكان قد هدد وأزبد وأرعد، بسبب تمدد الناتو، فانهم تعاملوا مع مطالبه قبل اندلاع الحرب، على انها إبتزاز، بهدف تحسين شروط التعامل السياسي والتجاري مع روسيا. وتسترت خلف المجاملات، نظرات استخفاف بوزن، وقدرات الخصم،الباحث عن دور الدولة العظمى في الساحتين الأوربية والدولية، وكان خرج منتصرا في عملياته العسكرية،منذ عام 2008 بانتزاع إقليمي ابخازيا واوسيتيا من جورجيا، وشبه جزيرة القرم، وتقول موسكو انها هدية خروتشوف للكيان المرقع أوكرانيا ، والحرب في سوريا وإنقاذ نظام بشار الاسد من سقوط محقق.
نجح بوتين على مدى عقدين من الحكم، في إجتثاث المعارضة الليبرالية المتهمة بالعمالة للغرب، وتكوين برلمان، تضم قبته أحزاب المعارضة الرسمية، وفي المقدمة الحزب الشيوعي، داخل الأطر المرسومة.
والتفت الطبقات الاجتماعية الجديدة، ما بعد الحقبة السوفيتية ، حول بوتين، لانه نجح في تمكينها من الحياة الرخية، فيما وجد جيل الحنين، لروسيا السوفيتية، في بوتين، فارس أعادة الدولة البائدة، رغم تصريحات العقيد المتواترة، بانه لا يسعى لإحياء الإمبراطورية السوفيتية، بل لم يتردد عن تعنيف مؤسس الدولة لينين، وتحميله مسؤولية منح صفة الدولة للكيان المرقع، وقال ساخرا ” أوكرانيا الميمونة باسم لينين” على غرار
” مترو لينين” و” مكتبة لينين” في الحقبة السوفيتية.
يناصب بوتين العداء بدرجة متساوية، الفكرة السوفيتية، والنزعة الليبرالية، ويحرص على منع تمدد الحزب الشيوعي، ويجد في طبقة الاولغارشيين الدهاقنة، عتلة أساس في إدارة الدولة، محيطا نفسه بمساعدين لا يخالفونه الرأي، ومن يفكر عكس التيار، يتلعثم في إبداء وجهة نظر لا ترضي القائد.
بالمقابل، نفخ التحالف الانغلوسكسوني، في الممثل الكوميدي، وحرضوه على مناكفة بوتين، ورفض كل الحلول المطروحة، لتسوية حقوق الأغلبية الناطقة باللغة الروسية في إقليم دونباس. وشجعوا زلينيسكي، على التمسك بحق أوكرانيا بالقرم، ومول الغرب، منظمات المجتمع المدني الاوكراني في حملاتهم الدعائية ضد روسيا، وبوتين المستبد، واصبحت كييف ملاذا للمعارضة الليبرالية الروسية.
مع ان أوكرانيا استبدلت خمسة رؤوساء بعد انفراط عقد الاتحاد السوفيتي، الا انهم جميعا، وبدرجات متفاوتة كانوا يتطلعون نحو الغرب، ويحلمون بعضوية مؤسساته ومنظماته والدخول في الاتحاد الاوربي، اما العلاقة مع الشقيقة الكبرى، فقد جرى النظر اليها على انها تحصيل حاصل، ومارس جميع الرؤوساء سياسات لا تحترم حقوق المواطنين الناطقين بالروسية، وتصل أعدادهم الى ثمانية ملايين نسمة.
ومع كل تغير في الإدارات، تتفاقم الضغوط والانتهاكات، وتتضاعف ملفات الخلاف مع موسكو،التي راهنت على حليفها ياناكوفيتش، رغم انه كان حلقة ضعيفة في سلسلة الروؤساء المتعاقبين، وكان قاب قوسين من إبرام إتفاقية شراكة وتحالف مع روسيا، ومستعد للتوجه نحو القبلة الروسية والطلاق مع حلم الانصهار في الغرب.
لكن تظاهرات واعتصام الميدان، والثورة الملونة التي تثير حساسية موسكو، حتى في بلدان الربيع العربي البعيدة، أجبرت ياناكوفيتش على الهروب مع بضع مئات من المليارات، تاركا أبواب القصر الرئاسي مفتوحة، فاقتحمتها الجموع، وتجولت في الغرف والصالات الوثيرة، ودخلت الحمامات المطلية بالذهب.
وشعرت فيكتوريا نولاند، الحيزبون الأميركية من أصل أوكراني، مساعدة وزير الخارجية لشؤون الساحة السوفيتية السابقة، بالسعادة، والرضا. وكانت فيديوهات تظهرها وهي توزع الحلوى على متظاهري الميدان، أنتشرت على نطاق واسع، واعتبرتها موسكو، برهانا دامغا على دور واشنطن في الانقلاب على فيكتور ياناكوفيتش اللاجئ اليوم في مقاطعة روستوف الملاصقة لحدود أوكرانيا، ربما في انتظار دور قادم مع دخول القوات الروسية الى قلب كييف، واطاحة الممثل،صغير البنية، فلاديمير زلينيسكي الذي تصور مسرح السياسة، صالة عرض كوميدي، وبات يتعين عليه هذه الأيام اجترار أحلام عضوية الناتو والاتحاد الأوربي ، والانصهار في الغرب.
أدار فلاديمير كييف ظهرة لفلاديمير موسكو، وأعتقد ان القبلة الاوربية، ستغنيه عن القبلة الروسية،متجاوزا كل الحسابات الجيوسياسية التي يصعب على بطل فيلم( خادم الشعب) الذي أضحك الملايين، فهمها.
لقد اعتقد انه سيطعم شعبه وجبات من النكات، و يرسل الى الشقيق الأكبر، طرود الألاعيب والوعود؛ فتحولت الكوميديا الى دراما سوداء يعيش العالم فصولها لليوم العاشر على التوالي .