فلاح الرهيمي حارس الفكرة وناقل الشعلة

فلاح الرهيمي حارس الفكرة وناقل الشعلة

في الحلة، تلك المدينة التي تُعانق الفرات وتتنفس من رئة التاريخ، وُلد فلاح أمين الرهيمي عام 1937 (أو كما تقول أوراقه الرسمية عام 1941)، في محلة “التعيس”، حيث كانت البدايات صعبة، والأزقة ضيّقة، لكن الروح واسعة كالأفق، تحمل ما يكفي من الأحلام والأسئلة لتشق طريقها وسط العتمة. ومنذ خطوته الأولى نحو المدارس، كان الطفل الذي يتأمل أكثر مما يتكلم، والذي سيصبح لاحقًا صوتًا هادئًا لكن لا يهدأ، يدافع عن فكر، ويحمي ذاكرة، ويكتب بوعي المُجرّب لا المنظّر البارد.

بدأ الرهيمي تعليمه في مدارس الحلة، ثم حمله شغفه بالمعرفة إلى سوريا فالأردن، حيث اختلطت في ذاكرته وجوه المدن بأسماء الكتب، وبقي الوطن في القلب مثل قصيدة لا تنتهي. عاد بعدها إلى العراق، فعمل موظفًا في المصرف العقاري، لكنّ الوظيفة كانت مجرد واجهةٍ لروحٍ لا تؤمن بالحدود ولا القيود. فلاح الرهيمي لم يكن موظفًا في أوراق الدولة فقط، بل كاتبًا في دفاتر التاريخ، وساردًا لمسيرة الوعي، ومعلّقًا دائمًا على جدران الأسئلة الكبرى.

أصدر خلال مسيرته عشرات الكتب، تتنوع بين الفكر والسياسة والسيرة والخواطر، غير أن جميعها يشترك في خيط ناظم واحد: الانتصار للإنسان والعدالة والحرية. في كتابه “دور الإنسان في مسيرة التاريخ”، لا يعيد فقط قراءة دور الفرد في التغيير، بل يستحضر كل أولئك الذين مضوا ولم تُكتب أسماؤهم في المناهج، أولئك الذين حملوا الفكرة على أكتافهم في ليل الاستبداد. وفي “الشهيد البطل سلام عادل” و”جسور الحرية: شهداء الحزب في الهندية”, لا يكتب الرهيمي تأريخًا جامدًا، بل يسكب دمعًا حارًا على أسماءٍ كانت وقودًا لقطار التغيير.

ومن بين كتبه الثرّة يبرز العنوان الصريح “دفاعًا عن الماركسية”. هنا لا نجد رجلاً مشدودًا إلى فكرة عمياء، بل باحثًا يحفر في النص، يناقش، يُفكك، يُعيد بناء النظرية في ضوء التجربة، لا يُنكر الإخفاقات، ولا يُخفي الانحياز. وبهذا النهج ظهر أيضًا في “ظاهرة ستالين بين النظرية والتطبيق”, حيث يفصل بميزان الوعي بين الفكر ومسارات تطبيقه، بين النظرية كجذر، والتجربة كفرع.

ولم يكن فلاح الرهيمي نخبويًا متعاليًا، بل كاتبًا شعبيًا بالمعنى النبيل للكلمة، يكتب بلغة واضحة، صادقة، تخاطب العقول دون أن تتورط في التعقيد. مقالاته في طريق الشعب والمدى ومواقع ثقافية أخرى، تشهد له بوعي المرحلة وجرأة الكلمة، حتى غدا من الأصوات القليلة التي تمسكت بالفكرة وسط زمن التبدلات والانشقاقات والانحرافات السياسية.

وقد التفتت المؤسسات الثقافية لهذا العطاء، فأقامت له جمعية الرواد الثقافية المستقلة احتفالية خاصة وكرّمته بكتاب مستقل، حوى مقالات وقراءات من كتّاب وشعراء ونقّاد رأوا فيه رائدًا من رواد الوعي السياسي والفكري، وذاكرة حية لنضالٍ لم يُغلق ملفه بعد. كما كرّمه الحزب الشيوعي العراقي الذي ظل وفيًا له، كما ظل هو وفيًا له، ضمن ما يمكن أن نسمّيه اليوم علاقة مبدع ومبدأ.

يرى النقاد في الرهيمي كاتبًا لا يركض وراء الأضواء، ولا يصنع العناوين الاستفزازية لجذب القارئ، بل يكتب كما يتنفس، ويؤمن كما يتكلم، ويصمت عندما يعرف أن الزمن لم يعد زمن الكلمات. أحدهم وصفه بأنه “ذاكرة لا تشيخ، وصوت كتب نفسه خارج موضة التحليل السريع، في زمن الشاشات والمواقف الجاهزة.”

وفي كتابه “حديث الروح” يلمح القارئ بوضوح ذلك البعد الإنساني الوجداني، إذ لا يكتفي بالحديث عن النظريات والثورات، بل يصغي لصوت الإنسان البسيط، لذاك الذي يقف “على قارعة الطريق”، وهو عنوان كتاب آخر له، كأنما أراد أن يلتقط صوت المهمشين، ويمنحه موقعًا في المشهد لا على الهامش.

فلاح الرهيمي لم يكن فقط كاتبًا ماركسيًا أو سياسيًا حالمًا أو مؤرخًا صارمًا، بل كان ضميرًا حيًّا لجيل كامل من أبناء اليسار العراقي، ولروحٍ عراقية بقيت، رغم التعب، مؤمنة بأن الأفكار لا تموت، بل تتوارثها الأرواح كما تتوارث الأرض حكاياتها.

إنه واحد من أولئك القلائل الذين كلّما قرأت لهم، أدركت أن الكتابة موقف، وأن المبدأ ليس موضة، بل عقيدة قلبية تحيا وتتنفس حتى في عزلتك. في زمن الارتداد عن الأحلام، بقي فلاح الرهيمي واقفًا، قلمه في يده، وفكرُه على الجبهة، لا ينتظر تصفيقًا ولا يخشى خذلانًا، لأنه يعرف تمامًا أن الأفكار لا تموت… بل تنتظر من يُعيد إشعالها.

أحدث المقالات

أحدث المقالات