أحداث وتغيرات سريعة وغريبة تجري في العالم، منها ما هو متوقع وآخر خارج عن التوقعات، ونجد من المهتمين بهذه الأحداث يتناولونها تحت مسميات عدة حتى عند من يسمون بالعرافين، أو المتنبئين المهتمين بالتنجيم وغيره، مثلما يهتم بها المتخصصون في مجالات العلوم في بحوثهم العلمية الأكاديمية كعلماء الفلك، والتاريخ، والجيولوجيا، والاجتماع، … ليفهموا الاحداث، وليقدموا تفسيرات علمية مقبولة، وحتى أن منهم قد يتبنى رأياً، أو فكرة ما بالاستناد إلى بيانات وأدلة، وعلى وفق وجهة النظر التي يتبناها سواء كعلم يختص به ويهتم به، أو أي مجال آخر وإن كان خارج نطاق التخصص العلمي. وترد إلى الأذهان في خضم هذه المتغيرات فكرة ظهور المخلص.
في التراث العالمي عموماً والإسلامي خاصة جاء ذكر لنبوءة تتحدث عن شخصية منتظرة يرقبها الناس لتخلصهم من الظلم والجور. وفي القرآن الكريم العديد من الآيات التي فسرها المختصون بأنها تشير إلى نبوءة مفادها ظهور المخلص عند آخر الزمان :
(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) ( الأنبياء-105)
(قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) ( الحجر 36-38)
(وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص-5)
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ) (الملك-30)
)سَنُرِيهِمْ آياتنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّيٰ يتَبَينَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ( (فصلت-53)
(قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ) (السجدة -29)
(وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ۖ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّـهِ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ) (يونس-20)
ففي التراث الديني الإسلامي هي نبوءة يقينية الحدوث، أو أقرب، ويتفق أغلبية علماء المسلمين، وعلى اختلاف مذاهبهم وطوائفهم على وجود شخصية مقدسة منتظرة كمخلص تعرف بتسمية المهدي المنتظر (عليه الصلاة السلام) كذلك اتفاقهم في كثير مما يتعلق بنسبه الذي يتأصل إلى النبي الأكرم محمد (عليه وعلى آله الصلاة والسلام ) وصفاته، والغاية من خروجه، واقتران خروجه كما تذكر النبوءات مع نزول أو حضور شخصيات مقدسة أخرى متمثلة بالسيد المسيح (عليه الصلاة السلام). وهناك من يقول بظهور شخصيات أخرى مصاحبة كالخضر (عليه السلام) وربما جميع الأنبياء والرسل والصالحين (عليهم الصلاة والسلام) ممن ذُكروا في القرآن الكريم، وكلها شخصيات مهمة لدى جميع المؤمنين، منها من يعتقدون بوجودهم في الحياة، لكن ظهورهم الواقعي مرجأُ إلى اليوم الموعود أو (الوقت المعلوم) وهم يمثلون الجانب الخيِّر، أو معسكر الخير الذي سينضم فيه من الأتباع الذين يتسمون بصفات مميزة من خصال الصالحين الأخيار، وهم يمثلون صفوة البشرية. كما أُرجئ إبليس (عليه وعلى أتباعه لعائن الله) والشخصية أو الجهة الملعونة المقترنة به، والمعروفة بـ(الدجال) أياً كان المقصود بهذه التسمية كشخص أو حكومة ما أو نظام..، وهم يمثلون مع أتباعهم جانب أو معسكر الشر الذي يضلل الناس في آخر الزمان وأتباعه من شرار العالم. لكن هناك أيضاً اختلاف بين الموقنين بظهور الشخصية المقدسة في مسائل عدة، منها مسألة أساسية تتعلق بزمن الظهور، وكذلك بمسـألة الولادة، فهناك من يرى أنه مولود منذ قرون من الزمان، وأنه يعرف مهامه وما كلف به إلى حين الإذن بالظهور، وتحكم ظهوره الإرادة الإلهية بقوانين خارجة عن فهمنا وحدود علمنا كبشر، وآخرون يرون أنه يولد في آخر الزمان ويصلحه الله في ليلة، بأن تتهيأ له الظروف المناسبة ليستلم ويحقق مهامه وما كلف به. وليست الغاية هنا الخوض في هذه الإشكالية من الناحية الدينية، بل معرفة أن لهذا الموضوع برمته أصل، وأن الناس ترقُب خروج المهدي المنتظر(عليه الصلاة والسلام) كما يهمنا أن نعرف تلك الصفات العجيبة الفريدة التي تتصف بها هذه الشخصية بحسب ما ورد في التراث الإسلامي، وحتى في تراث العديد من الديانات الأخرى، وما تمتلك من قدرات خارقة، ووسائل عظيمة ستكون مُسخرة بيده، يتمكن بواسطتها من حكم العالم، والقضاء على أعدائه، أعداء الخالق وأعداء الإنسانية. نذكر على سبيل المثال أن صفاته البشرية كاملة كما وردت في التراث، والتي تشابه صفات النبي الأكرم محمد (عليه الصلاة والسلام)، وإتيانه بالمعجزات الخارقة للطبيعة في زمن أصبح الناس قليلاً ما يؤمنون بها كمعجزات، أو صاروا يجدون تفسيرات علمية لها. ومن بين هذه الخوارق إحيائه الموتى، ومعرفته أو تمييزه بين الكافر والمؤمن، وبين الشرير والخير، بين الظالم والمظلوم… ليقتص من الأشرار سبب فساد العالم وما آل أو يؤل إليه من الخراب، وإعطاء كل ذي حق حقه بإقامة دولة العدل الموعودة.
هناك من لا يؤمن بالفكرة من الأصل، ولا بكونها نبوءة مصدرها إلهي، ويعدها محض خرافة منافية للعقل والمنطق العلمي كما عند كثير من أصحاب ما يسمى بالتوجه العلماني، والملحدين، والمؤمنين بشكل مطلق بالنظرية الدارونية،… وحتى عند بعض المؤمنين بالإله، لكن ليس بفكرة أو نبوءة الظهور، ولديهم مبرراتهم. وأكثر ما يقدمونه من تبرير أن الفكرة بحسبهم تتنافى مع العقل ومنطق العلم، وأن أية فكرة من هذا النوع كنبوءة سالفة وننتظر وقوعها هي خرافة انتجها العقل البشري لحل مشكلاته التي يعجز عن حلها عملياً.
ما مشكلات البشر؟ ولماذا المخلص حلاً ؟
منذ أن وجد الإنسان على الأرض وهو يواجه التحديات، ويجاهد ويحاول الصمود بوجه هذه التحديات على المستوى الفردي والجماعي أو المجتمعي، هذه التحديات أصعب ما كانت وما زالت تلك التي تفرض عليه مواجهة الآخر، فالإنسان عاش على الأرض، وتمكن من التغلب على الكثير من المصاعب التي تتعلق ببيئته المادية، وغير المادية، واستطاع أن يرتقي على مراحل من التطور الحضاري حتى وصل إلى ما هو عليه اليوم، لكن أكبر التحديات تلك التي يجهد فيها ليتمكن من أن يعيش حراً كريماً، لا سيما في عالم تحكمه حكومات منها ظالمة، أو متعصبة، أو متطرفة، تُفرِط في إرضاء فئة دون غيرها، وترقى بفئة دون غيرها، وتسلب حقوق أناس على حساب آخرين…بمثل هذه الظروف التي نجد أمثلتها منذ بدء التاريخ إلى يومنا هذا، ومع كثرة المناداة بحقوق الإنسان، نجد النقائض أكثر، وتتعدى الحدود، وتفوق التصورات.
وقد فكر مَن قبلنا بحلول كلما عانوا من مثل هذه الظروف، فالتاريخ يذكر لنا أحداثاً صورت وبينت طرق وأساليب التعامل مع تلك المظالم كردود أفعال يمكن القول أنها طبيعية، أو عادية بعد تحمل وصبر، وبعد آماد من الخوف، والتجنب، والمسايرة، حتى حين تتوافر الفرص والإمكانات لتتحقق الأماني والغايات في العيش الكريم. يبرز لنا التاريخ أحداثاً تبين الكيفية التي يتخلص بها الناس من الجور والظلم، من العبودية، والقهر، والواقع المرير عموماً مما يأجج الشعور بضرورة إيجاد الحلول، والدفع نحو التغيير للتخلص من الواقع المرير. وقد يأتي التغيير من الداخل، أو من الخارج، وبأحد الطرق التي تتناسب وطبيعة الحال، ونوع السلطة المتحكمة، وطبيعة الإمكانات المتاحة للتغيير، والظروف التي يعيشها الفرد والمجتمع في الدولة، أو الولاية، أو أية مؤسسة مجتمعية صغيرة كانت أم كبيرة. ويمكن تحديد طبيعة، أو نوع التغيير بحسب نوع الظروف وطبيعة الحكومات والأنظمة التي تحكم العالم:
1-الديمقراطية : في البلاد التي تشيع فيها حرية التعبير عن الرأي والمشاركة فيه في كل مجال، تكون للفرد والمجتمع إمكانية طرح الأفكار، واقتراح الحلول المناسبة لكل مشكلة قد تتصدى لهم. التغيير في مثل هذه الظروف وارد وسهل، فلا استبداد في الرأي. ولا نتوقع أن يرد ببال أحد يعيش بأجواء ديمقراطية بهذا المفهوم أن يفكر بمنقد، فالمنقذ هنا موجود في كل الأحول، ودوره يتمثل بالشعور بالمسؤولية كفرد ومجتمع بالتبادل، بتأثير بعضهم بالبعض الآخر.
ولا نتوقع نحن أن الديمقراطية بهذا التصور متحققة فعلاً على أرض الواقع. فكل النماذج التي يدعي أصحابها بها أساساً غير واقعية بشكل مطلق، إذ على كثير منها مآخذ جمة إذا ما عرفنا أن ليس كل دساتير هذه الأنظمة والحكومات في الحقيقة تؤمن حياة الجميع، بل تتحايل بين الحين والآخر في طريقة تعاملها مع أفراد معينين، أو جماعات معينة لأسباب دينية أو عرقية أو ثقافية… تظهر عند المواقف المحكية.
2-الفوضوية: لعل أشر أنماط أو أنواع السلطة عندما لا يكون لديها فلسفة واضحة، ولا دستور ولا قوانين واضحة تتبعها في توجيه شعوبها عندما تكون الأمور منحلة فوضوية لا يعرف من المتحكم فيها، ولا الخاضع لها. في مثل هذه الظروف كثيراً ما يفضل الناس الدكتاتورية، ظناً أنها تُحكم قبضتها لكي لا تخرج الأمور عن السيطرة في الانفلات الأخلاقي، وفقدان الأمان، والتضارب في الفكر، والعصبية، والذي ينجم عنه الخلاف وحتى الاقتتال عندما يفتقر أفراد المجتمع إلى الفهم الكامل لهذا النوع من الحكم، ومتطلباته، ودور كل فرد فيه…ويستحيِن الفرصة من هذا الإنفلات من يترقب وينتظر إنحدار السلطة إلى أدنى مستوياتها، ويأس العامة من صلاحها لإسقاطها، وإحلال الأصلح بديلاً إن كانت الأهداف خيرة وسامية.
3-الدكتاتورية: عندما تتمكن حكومة دولة ما من إحكام قبضتها وفرض سلطانها من خلال البطش واستخدام العنف…وغيرها من الأساليب التي تقيد حركة الجماهير وتقمعها لدرجة منعها من التفوه برأي، أو المشاركة فيه، حتى يصبح الخوف هو السمة السائدة، هنا يصل المجتمع إلى حالة اليأس الشديد من إصلاح حال البلاد، فتقرر الجماهير بالنهاية ربما أحد سبيلين لإيجاد حلول، ووضع حد لمعاناتها بأحد السبل الآتية:
أ-الثورة أو الانقلاب على الحكم الطاغي: قد تتبناه جهة معينة، تتصف بصفات معينة، وأبرزها التسلح بالإيمان بضرورة التغيير، والإرادة، والعزيمة، والإصرار،.. وأن تكون لها أهداف محددة، وتمتلك من القدرات والإمكانات الكافية التي قد تفوق إمكانات وقدرات الحكومات المتسلطة، وتفوقها أو توازيها دهاءً. ولكن قد تفتقر لكل ذلك، إنما تحركها النزعة الشديدة للخلاص. ومثل هذا الحدث يتطلب تنظيماً، وتخطيطاً وتحشيداً قد يطول أمده، ويتطلب تأميناً بالحفاظ على سريته بشكل كامل، ومن بعد الضرب بقوة بحيث لا تتمكن القوة المضادة من المواجهة. وتمثل هذه الأحداث التسلسل الطبيعي العادي والمنطقي الذي تسير به الدول في تحولاتها من حكم إلى آخر، ومن توجه فكري وديني وسياسي… سنة الله في خلقه لنشأة الدول وزوالها. وقد أشار كثير من علماء الاجتماع إلى طبيعة هذه التحولات، ومثلوها بدورة حياة الإنسان، إذ يلد وينمو، ويتطور، ويشب، ثم يشيخ، ويهرم، ويموت، ومثلما أن الفناء في الدنيا هو قدر الإنسان، كذلك هو قدر الدول والحكومات مهما طال بها الأمد، ومهما علت أو طغت، وأسباب فنائها تختلف باختلاف الظروف التي عاشتها الدولة، وطبيعة حكمها…
ولكن ما دامت المجتمعات تعيش ضمن إطار دول قائمة، وكلما كانت حكومة الدولة قوية وعادلة، عاشت الشعوب بمأمن، وكانت عصية على عوامل التهاوي، وانطلقت نحو البناء والعمران والرفاهية، وعندما تنعم الشعوب بالرفاهية، فلا يُتوقع أن يكون اتجاه الفكر المجتمعي نحو تغييرها، فلا حاجة، والعكس كذلك صحيح، إذ تتغير الأحوال وتظهر الحاجة للتغيير عندما يسود الظلم والطغيان…
2-انتظار النصرة من القَدر عند اليأس. فعندما لا مجال لأية حركة مبادرة للتغيير، ولا حتى التفكير فيها، فلا يكون للناس أمل، ولا وسيلة إلا الدعاء، وانتظار الفرج من الإله الذي يعتقدون به ويعبدونه (ولا إله إلا الله) أي انتظار الحل الإلهي. ويتوقع المؤمنون الحل، أو النصرة غالباً بأحد سبيلين:
أ- غضب الإله على الظالمين بأي حدث خارق للطبيعة. والكتب السماوية التي يتبعها المؤمنون بالإله، وبنصرته لهم مليئة بالأمثلة التي بالمقابل لا يؤمن بها الملحدون والنفعيون، وعادة يسخرون منها وبمن يعتقد بها، وينسبونها للخرافة، أو يفسرونها بأنها أحداث طبيعية حدثت لأسباب منطقية، وأحياناً تحدث بالصدفة، دون سبب منطقي.
ب-انتظار المخلص: وكما بينا سلفاً، والعديد من المصادر تشير إلى أن فكرة المخلص موجودة لدى أغلب المؤمنين على اختلاف أديانهم سواءً السماوية، أو الأديان الأخرى البشرية الوثنية .
وبقدر ما يتمسك المؤمنون بالنبوءة، ينكر أيضاً العديد من علماء الطبيعة، وعلماء الاجتماع حقيقة وجود المنقذ، وشخصية المخلص واقعاً، ويميلون أكثر إلى تفسير الفكرة على أنها حلم يعيشه المستضعفون، وكأحداث تعد من سنن الحياة على وفق قوانين طبيعية تتمثل بحسابات وتوقعات مبنية على معطيات سابقة هي مقدمات تؤدي إلى سلسلة من الاحداث المتتالية التي عهدها الناس على مر العصور. والبشرية عاشت وتعيش مثل تلك الاحداث. فعندما تقوى جهات على أخرى، ويستَعبِد بعضهم البعض الآخر، ويصير المجتمع إلى طبقات، طبقة من الطغاة، وأخرى من المستضعفين ممن لا حيلة لهم، فتبدأ أحلام الناس في البحث عن فارس يتخطى كل العقبات، ويمتلك الخوارق والمعجزات ليخرجهم من الظلمات، وينجيهم، ويرمي بالظالمين إلى الهلاك. ولكن عاش الناس حقباً وهم يرقبون، وما كان يحدث أنه تضعف الدول وتنهار لتحل على أنقاضها أخرى، وتبدأ دورة حياة لدول جديدة، وأحلام جديدة. ولا ظهور لشخصية المخلص المقصودة .
الفكرة وإمكانية التحقيق
منطقاً وعقلاً، أن أية فكرة كانت قد تتحقق، أو لا تتحقق، يعتمد ذلك على العوامل التي تتوافر لصاحب الفكرة تساعد على تحقيقها. وكثير مما نتجه العقل البشري من أفكار، وتصورات وخيال علمي وغيره نشهده اليوم بشكل جلي لا يقبل أي نوع من الإنكار، وبلا شك لم تحدث التغيرات والتطورات في حياة البشر بشكل مفاجئ، انما نتيجة تراكم معرفي، وجهود علمية متسلسلة، ومتدرجة، ومتتابعة أشبه ما تكون بالنمو والارتقاء الطبيعي للإنسان من بداية تكوينه في رحم أمه حتى مماته. ليس اجتماعياً فحسب، ولكن في جميع المجالات والأصعدة. والتطورات في مجالات عدة العلمية والاجتماعية والتربوية والسياسية… أدت إلى نقلات نوعية واضحة وخطيرة في الحياة عموماً، منها ما لم يكن يحلم بها الإنسان، حيث جاءت عن طريق الإلهام في سياق التفكير، ونتاج الإبداع البشري.
وقد تبقى الفكرة كامنة عندما لا تجد الفرصة المناسبة لتحقيقها، وقد تموت وتندثر إن لم تستند إلى أسس سليمة، ولا تتوافر لها مقومات صحيحة، والأهم عندما لا تسير بمنهج علمي سليم لتتحقق، فمصيرها أنها تتلاشى.
ماذا عن النبوءة ؟
في ثقافات الشعوب عموماً هناك الكثير من القصص والروايات التي أشارت إلى أفراد كانت لديهم هذه الهبة في التنبؤ، من حكماء أو فلاسفة، لكن أكثر ما أهتم به الناس هي نبوءات الأنبياء التي كانت وحياً من السماء. بمعنى أن الإخبار عن الأمور الغيبية التي غابت، أو غُيبت عن عقول الناس لما حدث في الماضي، وما سيحدث بالمستقبل القريب أو البعيد. وقد اعتاد الناس أن لا يربطوا بين النبوءة الإلهية وبين العلم، إذ النبوءة بمثابة خاصية محددة بالنبي والرسول المختار تُثبت صدقه إذا ما تحققت لتكون آية، أو معجزة. ولو تفحصنا بعض مما ذكر من نبوءاتٍ في بعض الكتب السماوية التي يؤمن بها كثير من الناس كالقرآن الكريم، نجد أن منها قد تحقق في عصرنا الحالي بشكل ملفت، فضلاً عن أزمنة ماضية على فترات، الكثير مما أخبرنا به عن النبي الأكرم (عليه وعلى آله الصلاة السلام) وفي الأحاديث الصحيحة، فضلاً عن القرآن الكريم فيما يتعلق بحياة الناس بكل جوانبها، وما سيحدث من تغيرات جمة ما كان الناس حينها يستوعبونها كأحداث ممكنة، أو حتى معان يفهمونها. لذلك كانت تصلهم بصيغ مبسطة، ومفاهيم أقرب إلى ما عرفوه وخبروه في حياتهم من نماذج وأمثلة، وتصورات ممكنة الاستيعاب لأذهانهم بحدود معينة تتناسب ومستوى ما وصلوا إليه من معرفة ونمو وتطور فكري وعقلي وعلمي بسيط. لذلك فمن عاصروا النبي الأكرم (عليه وعلى آله الصلاة السلام) ما كانوا يفقهون الكثير مما أنبأهم به مع تصديقهم به. لكننا اليوم أدركنا الكثير من تلك النبوءات بعد وقوعها فعلاً، وليس من الصعب علينا أن نفهم لماذا، وكيف حدثت، أو تحققت، إذ نحن اليوم نمتلك من العلوم والمعارف المتراكمة والمترابطة ما يمكننا من أن نفهم الأسباب والمبررات على مستوى العلوم المادية الطبيعية كالفيزياء والكيمياء والأحياء، والفلك.. والعلوم الإنسانية كعلم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد والسياسة،.. ومما كان ينقص البشرية في العصور البعيدة السابقة، والذي تسبب في عدم التصديق أحياناً، أو التشكيك في إمكانية تحقق النبوءات لمن استبعد حدوثها بسبب الجهل بماهيتها، وعدم القدرة على تصورها ذهنياً. مثال ذلك مما حدث وقوع الكوارث الطبيعية بشكل مغاير للأحداث العادية، والتغير المناخي الملفت، واستكشاف الفضاء، وتصنيع الأسلحة الفتاكة، والأمراض المستحدثة، وتطورها والتحكم بها، والحروب البايولوجية، والتحكم بالطقس والمناخ، والتغيير في الصفات البشرية الجسمية الخَلقية، فضلاً عن الصفات الخُلقية، والتطور السريع والمذهل في الاتصالات عن بعد،…سيارات، وطائرات، وهواتف نقالة تتطور بين فترة وأخرى لتصبح الخادم المطيع الذي يأخذنا إلى العالم بكل ما فيه من أحداث، ماضيه وحاضره، ويجيب عن أسئلة الجميع، من جاهلٍ أو عالم، ويقترح لنا الحلول لكل مسألة محيرة ومن مصادر عدة قديمها وجديدها وبكل اللغات، وما خفي كان أعظم … هل كان الناس يتصورون كل هذا! ، وإلى أي حد تمكنوا من تصوره!. للعلماء في كل ذلك تفسيراتهم العلمية التي تستند إلى الأدلة المادية، أو الواقعية. ولكن كيفما فُسر هذا كله، فقد كان في التراث حقيقة نبوءات لأحداث وقد حدثت.
وجدير بالذكر أن الإعلام العالمي قد تناول موضوع المخلص ذي الصفات الخارقة من خلال العديد من السيناريوهات لأفلام تصور لنا الرجل ذي القدرات الخارقة الذي ينصر المظلومين، أو مجموعة من الأشخاص صوروا كأبطال خارقين يتعاونون لحماية الأرض والبشرية من القوى الشريرة، والتي يظهرونها بطريقة مغايرة لما نعتقده وما موجود في تراثنا الدينية، لتقريب الفكرة المتداولة عند الناس لتتناسب مع المرحلة الحالية من تاريخ البشرية. ولكن يبقى السيناريو الإلهي الذي نؤمن به المتعلق بنبوءة الظهور مختلفاً إلى حد كبير.
النبوءة التي تحقق ذاتها
ورد مصطلح النبوءة ذاتية التحقيق في مقالة لعالم الاجتماع (روبرت كينغ ميرتون) 1948 بعنوان “النبوءة الذاتية” بأن “النبوءة الإيجابية، أو السلبية، أو الاعتقاد القوي، أو الوهم قد تؤثر بشكلٍ كبير على الناس حتى تحقق ردود أفعالهم النبوءة التي كانت في يوم من الأيام كاذبة. النبوءة التي تحقق ذاتها هي محفّزات في أثر التأكيد السلوكي، حيث يُسبب السلوك الذي تأثر بالتوقعات في تحقيقها. وهي مكملة للنبوءة التي تهزم نفسها” . وقد استند (ميرتون) في مفهومه عن النبوءة الذاتية التحقق من نظرية (دبليو. آي. توماس)، بمقولته: ” إذا اعتبر الرجال المواقف حقيقة، فعواقبها ستكون حقيقة أيضاً” فوفقاً لنظريته في النبوءة ذاتية التحقق، إن الناس لا يستجيبون فقط للحالات التي يعيشون فيها، ولكنهم غالباً ما يستجيبون في المقام الأول إلى الطريقة التي يدركون بها المواقف والمعنى، الذي يعينونه لمفاهيمهم… فمجرد أن يُقنع الناس أنفسهم بأن أي موقف له معنى محدد بالفعل، بغض النظر عما إذا كان كذلك، فسوف يتخذون بالنتيجة لذلك إجراءات حقيقية للغاية. أعطى (ميرتون) مثالًا عن أحد البنوك التي يحدث بها خطأٌ ما فيبدأ العملاء بالقدوم وسحب أموالهم بالتدريج وخصوصاً، بعد انتشار شائعة إفلاس البنك. سحب العملاء كل أموالهم بسبب تلك الإشاعة، مما أدى فعلًا إلى إفلاسه. وقد فسر (ميرتون) ذلك أن التعاريف العامة للوضع (النبوءات أو التوقعات) تصبح جزءً لا يتجزأ من الحالة، مما يؤثّر على التطورات اللاحقة. يعد هذا غريبٌ على الشؤون الإنسانية. لم يوجد هذا الشيء في عالم الطبيعة التي لم تمسها يد الإنسان. الخلاصة من المثال أن النبوءة بإفلاس البنك بعد حدوث ذلك الخطأ قد حققت نفسها.
على وفق ذلك نفهم أن التوقعات مرتبطة بإدراك العواقب مما يحرك السلوك. أي إدراكنا للعواقب يحركنا للفعل. ولكن، الأفكار المتوقعة قد تكون إيجابية أو سلبيةـ بمعنى أن إدراك العواقب قد يدفع نحو سلوك إيجابي أو سلبي، حسب الغاية أو الهدف المراد منه. الهدف أو طبيعة الهدف هو المتحكم في توجيه السلوك بالكيفية والوسائل التي تحققه.
هنالك ما يمكن أن يفسر تحقق النبوءة بأكثر في الجانب النفسي، فما يحدث أن النزعة للتحقيق هنا هي ما يدفع كلما كانت الحاجة ملحة. فمن أبرز المفاهيم التي أخذت حيزاً كبيراً جداً في تفسير ما يحدث للنفس البشرية من نوازع، وأفعال، وفي تفسير ما يحدث من تغيرات، وتطورات، وما تحدثه بدورها من تغيير في محيطها الخارجي هو ما يتعلق بالحاجة كعامل داخلي مهم. الحاجة تدفع وتحرك السلوك للوصول إلى الهدف المنشود. الحاجة توجه كل سلوكنا أياً كان، هي ما يدفع بالإنسان إلى أن يحقق ما يريد تحقيقه كلما كانت ملحة. الحاجة هي السبب في التحرك نحو التغيير. وعندما يعجز أو يفشل الإنسان عن تحقيق الغاية التي يسعى إليها فالنتيجة هي الإحباط. لكن هنالك دوماً ما يحفز الدافعية، ويحركها من جديد بفكر واتجاه جديد، وبخبرات جديدة كلما كان الوعي حاضراً، وكلما تولدت ظروف جديدة مناسبة. وأبرز حاجة ترقى إلى لتصبح قيمة عليا، تلك هي النزعة نحو تحقيق الذات بالوصول إلى أقصى درجات الكمال، ومن بعدها تجاوز الذات نحو الاهتمام بذوات الآخرين ليحققوا أهدافهم. الذات تنزع إلى إعادة التوازن المتسبب عن نقص الحاجة. وفي حالات استثنائية قد تبدو الفكرة غير ممكنة، أو مستحيلة، ولا مقدمات معقولة تقود إليها، لكن قوة الدافعية تجعل منها هدفاً وتحدياً.
إذا كان تحقيق النبوءة مرتبط إلى حد كبير بإدراكات الفرد والمجتمع للعواقب، فذلك يدفعهم إلى تحقيق النبوءة، وإذا ما ارتبط بالحاجة إلى تحقيقها. لذلك بإمكاننا أن نفهم إن الأحداث نتاج أسبابها. فإذا أردنا أن نفهم سلوك الفرد علينا أن نرجع لمسبباته، أي العوامل التي كان لها التأثير بشكل مباشر أو غير مباشر فيها حتى تمكنت من توجيه سلوكه بطريقة معينة، وبأسلوب معين سواء كانت عوامل أو أسباب وراثية بايولوجية، أو بيئية مجتمعية، أو مادية طبيعية، وتفاعل كل هذه العوامل معاً. إذن كل ما عليه أي فرد، أو مجتمع هو نتاج تلك العوامل. لذا، فكل ما نتوقعه، أو نتنبأ به يعود بالأصل إلى أسبابه، وإذا عرف السبب بطل العجب كما يقال. ويسهل التوقع أو التنبؤ كلما كانت الأسباب واضحة، ويصعب ذلك كلما كانت الأسباب غير واضحة أو غائبة. ولا شك أن المتقصي يهتم بافتراض احتمالات في تصوره بالكيفية التي ستحدث بها ونتائجها وعواقبها دون تحيز ولا جزم بها.
الظهور الحتمي
نرى أنه يمكن للفكرة وإن كانت ليست بكائن حي، إلا أنها قد تصبح كذلك إن أضفينا عليها صفة الإحيائية، وأسقيناها ورعيناها كما نرعى طموحاتنا ونسقي أحلامنا. ستصبح للفكرة حياة إذا رسمنا لها بأذهاننا، أو يرسم لنا آخر لها صورة معينة، وأخذنا نبحث عما يشبهها في الواقع، وإن لم نجد، نصنعها، ونربيها، ونشجعها، ونعززها، ونقيمها، ونقومها،… نتعامل معها كما نعامل الوليد، نرعاه، ونهتم به لنراه بعد حين على الصورة التي نريدها، ونتوقعها، ربما بأقل، أو بأكثر مما نتوقع. هكذا تصبح الفكرة حقيقة واقعة.
بإمكان طفل ما أن يكون مشهوراً، إذا نظرنا بعينيه وقلنا له (أنك موهوب. يوما ما ستكون مهماً) وإن كان بقدرات محدودة، أو ( إنه سيتسبب بحدث عظيم)، وبإمكان قبيلة تعيش متنقلة في الأرض الجرداء بحثاً عن الكلأ أن تستقر في أرض وتزع وتحصد وتبني وتعمر إذا فكرة ما صدحت في نفس رئيسها (سأوصلكم إلى بر الأمان. سأجعلكم تستقرون). بإمكان إنسان مستعبد ذاق القهر أن يكون سيد نفسه إذا ما أقسم مع نفسه ( سأكون حراً. سأكون سيد نفسي). فكرة ولدت من حاجة ملحة، وجدت تشجيعاً ذاتياً أو خارجياً، تدفع لخلق الظروف ولو بأصعب الحالات، يخطو صاحبها الخطوة تلو الخطوة، حتى يجد أنه قد وصل، ويذهل ويذهل من حوله لما وصل إليه. يمتلك الإنسان طاقات وإمكانات مهمة يعمل على استغلالها لتحقيق أية إرادة، والوصول إلى أفضل حالات نموه وتطوره ورقيه النفسي والعقلي والاجتماعي، وتحقيقه الغاية السامية بالوصول إلى السعادة التي ينشدها كفرد ومجتمع طبيعي.
عرفنا مسبقاً كيف نشأت الفكرة والأسباب التي وراء نشأتها، والعوامل التي يمكن أن تؤدي إلى تحقيقها. ولكن ماذا عن كونها نبوءة ؟ الإجابة من مؤمن بالتأكيد لن تأخذ وقتاً طويلاً بأن ما جاء من الله ورسله يصدق في كل الأحوال، لأنها إرادته، ووعده، ولن يخلف الله وعده. وهذا ينبع من إيمان واعتقاد راسخ. أما من يريد أن يفهم الكيفية وإن كان مؤمناً، أو لا يكتفي بقبول النبوءة فحسب، فذلك الذي يحاول جاهداً إثبات الصلة الوثيقة بين الدين والعلم للحصول على التفسير المقنع.
في مرحلة ما، قريبة أو بعيدة، ستصل البشرية إلى حالة تعجز فيها عن مواجهة التحديات التي ستفوق كل إمكاناتها، وتعجز فيها كل الحلول السابقة، وأية فكرة ستكون فاشلة إلا فكرة واحدة راسخة مشتركة بين البشرية جمعاء هي فكرة المخلص المنتظر. وسواء أكانت فكرة ابتدعها العقل البشري، أو نبوءة إلهية لمن يعتقد، فستحقق ذاتها. لماذا؟ لنلقي نظرة متفحصة على العالم الذي نعيش فيه اليوم ونؤشر ملاحظاتنا، ولنعرف كم من الخلل أصاب هذا العالم، وبالتالي إلى ماذا يحتاج. فهذا العالم:
-تسوده الفرقة، والتعصب، والتطرف، ومجتمعات تباد، وأخرى لا نسمع عنها وما أصابها، ولا نتصور وجودها…
-يسير نحو الانحلال الأخلاقي لسواد النزعة الفردية والأنانية، وبالتالي تفقد البشرية الكثير من صفاتها الإنسانية.
-تقوده حكومات متسلطة، ذات نفوذ وقوة وسطوة عالمية محكمة، شرعت إلى تأسيس حكومة عالمية غالبة ومسيطرة على العالم بشعوبه ومقدراته، وأخرى خاضعة، ضعيفة مآلها إلى الزوال.
-تطور التكنولوجيا بشكل خطير لا سيما المتعلقة بتلك التي توظف لتسخير البشر عامة لخدمة المتحكمين بها، ويعجز الضعفاء من مواجهتها كالتقنيات عالية التطور التي تستخدم في الحروب (الأسلحة البايولوجية، والإشعاعية،…) كذلك تقنيات وسائل الإعلام التي تطورت بشكل خطير ومما خفي…
قد يطول الأمد، أو يقصر لحين التغيرات التي ستحصل، ستعلو دول على أخرى متوقعة وغير متوقعة، وستنهار دول وتنشأ أخرى على أنقاضها، وفي النهاية ستؤدي كل تلك العوامل إلى نشأة حكومة عالمية مختلفة، تختزل كل ما عرفناه على مدى التاريخ البشري، لتكون هي المسيطرة المتحكمة، بإمكانها أن تسخر البشرية كيفما ووقتما تشاء، وتبقي على من تشاء، وتقضي على من تشاء، ولا حول ولا قوة للإنسان الضعيف أمامها. بإمكان هذه القوة المسيطرة أن تحول الإنسان العادي الطبيعي، إلى كائن غريب لا يمت للبشرية بصلة، قد تتلاعب بعقله، وبدوافعه، وإمكاناته، وقدراته لدرجة الإذلال والهوان، ومسخه بصفات الحيوان، أو أقرب. وفي النهاية فلا سبيل ممكن للتخلص من هذا الغول العظيم، فيفقد الناس الأمل في الخلاص. إن حدث ذلك فعلاً، وإن كنا لا نؤمن بالحل الإلهي الذي ننتظره، فما الحل إذن؟
نقول أننا نؤمن بالنسبية في كل شيء. فلا يمكن أن نقرر بأن كل تلك الاحداث يمكن أن تحدث كما يراد لها، فلن تصنع حكومة قوية دائمة بنسبة 100% أو تقضي على نسبة 100% من تكوين وإرادة البشر. فذلك ينافي العقل والمنطق، ينافي كل الحسابات المادية والعقلية. هناك الإرادة وإن ضعفت، وهناك الدوافع المحركة التي يمكن أن تدفع لتحقق المستحيل. مثلما قد تنشأ تلك القوة المهيمنة، بنفس تلك القوانين، فلا بد من قوة معاكسة وإن بقيت كامنة على وفق قانون بقاء المادة، فالمادة لا تفنى بل تتحول إلى طاقة مستجدة. هكذا البشري الذي قد تغيره الظروف والعوامل الخارجية التي تتحكم به لتصنع منه كائناً مسلوب الإرادة، ولكن بنسبة ما، مثلما أن القوة المسيطرة لن تكون كاملة مهما وصلت حداً من الكمال. فهناك ممن فهم الكيفية التي تتوجه بها النبوءة لتتحقق، سيكون المتحكم بتوجيه السلوك، إن كانت الأهداف خيرة أم شريرة. فطرفان يعملان على توجيه النبوءة لتتحقق، الطرف الخير الذي ينشد العدالة والسلام في دولة مثالية، وطرف آخر يعمل على أخذها بالاتجاه المعاكس.
ولا نستغرب أن الطرف الذي يمثل الشر الذي أدرك أن دولة العدل تتحقق بظهور المخلص بعد مراحل من الخراب والفساد والظلم تصل أقصى حدودها، يعمل على التعجيل بها من خلال تدخله في وصول بالعالم إلى هذه المراحل، وتحققها للإسراع في المواجهة بينه وبين قوة الخير التي يتوقعها، أو يتنبأ بها. لذلك نلاحظ التدخل والتحكم المتمثل بفرض الحكومات الفاسدة في أغلب بلدان العالم، وافتعالها الحروب والأزمات والكوارث بشتى أنواعها، والتي بدأت تعمل في الخفاء، ومن ثم هي آخذة بالإعلان عن نفسها مقابل العمل الذي تقوم به قوى الخير وغالباً في الخفاء لتحكم قدرتها قبل الظهور الأخير.
واقعاً إن الشر هو المتسيد اليوم، ولدى من يمثلونه الإمكانات الخارقة يعمل بها تارة بشكل خفي، وتارة ظاهراً، العلوم مسخرة من قبل القوى المسيطرة توجهها بالكم والكيفية وبالطرق التي تتناسب وأهدافها في السيطرة والتحكم بالعالم. ويوماً ستنقلب الحال ويؤول كل ذلك بيد القوى الخيرة.
قد يتخلل هذا التكوين العالمي الجديد المحتمل إلى حد كبير الضعف، والتحلل، الصراع الداخلي، كفقدان أو نفاذ الطاقة التي تحتكرها لأي سبب كان والعودة إلى الآلة البدائية، ونشأة الصراعات على طلبها وهي من الأحداث المتنبأ بها أيضا… بالمقابل هناك طرف آخر ما زال يصارع، ويكابد، ويقاوم كل تلك التحديات بطريقة أو بأخرى. وسيكون للإرادة دور عظيم في تلك الإنتقالة المرتقبة. الإرادة وإن ضعفت فلن تتلاشى كلياً إلى جنب المعتقد الراسخ. ولعل قوانين التعلم يمكن أن تفسر لنا كيف أن الإرادة يمكن صنعها وتقويتها فضلاً عن المعتقد حتى تصير أكثر ما يحرك الإنسان فرداً أو مجتمعا .
إذا كانت الفكرة، أو النبوءة يمكن أن تتحقق لأسبابها، تلك الأسباب الحادثة بتسلسل منطقي، أو حتى بالصدفة لمن يعتقد بها، ففي كل الأحول أن الظروف التي تتحقق فيها ستكون مهيأة سواء بفعل الإنسان، أو بفعل الطبيعة، في النهاية وكما نعتقد كل يحدث بإرادة قوة ذكية خارقة، على وفق خطة محكمة خارجة عن إدراكاتنا وعلومنا القاصرة. وهنا لا بد من القول أن العلم سيكون مسخراً إلى حد كبير في تحقيقها، والشخصية التي ينتظرها العالم ستكون بأقصى حدود طاقاتها وإمكاناتها، وبأعلى مستويات علومها بمختلفها وتعددها لاستغلال ثروات الأرض لتصبح متاحة للجميع بعد أن كانت حكراً على فئة من الناس، وكشف الحقائق التي غيبت وزيفت، والاقتصاص من العاملين في الحكومة الخفية وأعوانها، ستكون لهذه الشخصية القدرة على معرفة الناس والتمييز بين الخير فيهم والشرير كل بسيماه بعلمه البليغ بالأنفس، ما تظهره وما تبطنه، وما سيكون منها بعد حين، مثلما علم الخضر (عليه السلام) بما سيكون من أمر ومستقبل الحالات الثلاث التي مرت عليه بصحبة النبي موسى (عليه الصلاة والسلام) وكشفه للغيب وحكمه فيها بما علمه الله في القصة المذكورة في القرآن الكريم. ومن المدهش كثيراً معرفة أن الشخصية التي كان لها التأثير الأكبر في التاريخ وهي شخصية النبي الأكرم محمد (عليه وعلى آله الصلاة والسلام) قد رافقت حياته العديد من النبوءات التي آمن بها من كان ينتظر بعثته ليتبعه، وبنفس الوقت من كان ينتظر بعثته بهدف وأدها، ولكن كل المحاولات فشلت. ومع علم النبي الأكرم بمقامه، ودوره العظيم الذي أوكل إليه، كان يعمل بجهد الإنسان المفكر، والمتأمل، والمسؤول، والمستشعر بمعاناة الآخر، والمهتم بإحداث التغيير مهما كلفه من الأمر. لقد كانت النبوءة التي حققت ذاتها بإرادة وعناية إلهية، وبسعي وجهود بشرية عظيمة.
( إنَّ الله لا يُغيِّر ما بقِومٍ حتى يغُيِّروا ما بأنفِسِهم) ( الرعد-11)
( وأن ليسَ للإنسانِ إلا ما سَعى وأنَّ سَعيهُ سوفَ يُرى) ( النجم-39-40)
( وقُل اعملوا فَسَيرَى الله عَملَكُم ورسولُهُ والمؤمنون)( التوبة-105)
سيكون للشخصية المنتظرة مثل ذلك وربما أكثر، لأننا في عصر بفضل العلم تزول فيه الكثير من الشكوك، وتعرف الأسباب، ونعيش فيه واقعاً أكثر لا خيال ولا خرافة. عصر يحدث فيه الكثير مما كان يعد مستحيلاً وإعجازاً، عصر تتحقق فيه الكثير من النبوءات، وكذلك ستتحقق نبوءة الظهور.