“فقه الميزان”؛ كتاب جديد لفضيلة الدكتور الشيخ علي القرداغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. عنوان لفت نظري، ومحتوى شدَّ انتباهي، فكان لا بد من قراءته، وخاصة عندما علمت بأن أخي فضيلة الدكتور علي القرداغي استغرق في تأليفه ما يزيد عن ربع قرن من الزمن.
لماذا كتب في “فقه الميزان”؟
يَذكر فضيلة الشيخ القرداغي في مقدمة كتابه بأنه انشغل بموضوع فقه الميزان منذ أكثر من ربع قرن عندما انقدح في ذهنه تساؤلاً جديداً عندما كان يقرأ القرآن الكريم في إحدى الليالي، فتوقف عند الآية الخامسة والعشرون من سورة الحديد وهي قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ). وتكرر مثلها في سورة الشورى فيما بعد في قوله تعالى: (الله الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ۗ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ).
قال الشيخ القرداغي: لقد أوقفني إحساس غريب وأصابتي قَشعريرة في جلدي عندما تنبهت بأن القِسط يتحقق بالكتاب والميزان معاً، فقد عرفنا الكتاب وهو القرآن الكريم والكتب المنزلة على الأنبياء والمرسلين، ولكن ما هو الميزان الذي يذكر مع الكتاب ويتوقف عليه تحقيق العدل في القول والفهم والعمل؟
بحث الدكتور علي في كتب التفسير عن هذا الإشكال العلمي، ووصل إلى أن نتيجة مفادها: الميزان يمثل في اعتقاده ومن خلال دراسته الموسعة أهم معيار لفهم الشريعة فهماً صحيحاً وعميقاً، ومن أهم أسباب رفع الخلاف وتقليله بين علماء وأبناء الأمة.
واعتبر فقه الميزان معياراً مهماً لفهم القرآن والسُنة، وخرج بخلاصة من خلال كتب اللغة والآيات القرآنية والأحاديث النبوية أن فقه الميزان يطلق على عدة معاني.
المقصود في فقه الميزان معرفة الموازين التي توزن بها أبواب الإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة والتعامل مع كل باب حسب ميزانه الخاص به، ومعرفة أوزان التصرفات والأحكام الشرعية ووزنها من خلال كفتي الميزان للوصول إلى فقه موزون وفكر موزون.
الميزان المعنوي:
تحدث الشيخ القرداغي أيضاً عن الميزان المعنوي الذي تُوزن به القيم والأخلاق والآداب، بل يُفهم من الآيات أن هذا الكون قائم على موازين دقيقة وأي خلل يؤدي إل تدمير الكون وقيام الساعة، فالأراضي والسموات والكواكب والشموس كلها قائمة على وزن خاص بها، وكل المخلوقات لها ميزان خاص بها مُراعى، لذلك أصبح الكون موزوناً ومتزناً، قال تعالى: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ). الحجر: 19.
وبيَّن الدكتور أن فقه الأولويات جزء من منظومة فقه الميزان ويساعد على استيعابه، كما ان فقه الميزان مختلف عن فقه المقاصد من حيث أنه يبحث عن وضع المعايير والموازين لكل موضوع وباب ولكنه لا يستغني عن فقه المقاصد، حيث يحتاج إلى مراتب المصالح والمفاسد حتى يضع لها معاييرها ويبين لكل واحد منها وزنها المطلوب بين قائمة الأوزان الشرعية.
الميزان والحِكمة:
بيَّن الشيخ القرداغي أن فقه الميزان داخل في الحكمة ومنسجم معها؛ لأن الحكمة وضع الشيء في محله المناسب، وفي الوقت المناسب.
لذلك فالميزان هو الحكمة المنزلة، وكلاهما هما توفيق رباني يُقدمه الله في قلوب أنبيائه وعباده الربانيين، لكن فقه الميزان منضبط من خلال معايير ثابتة.
واعتبر فقه الميزان مفتاح المفاتيح لفهم الشريعة، واعتبره من علوم الأصول وليس من علوم الفروع، فهو معيار لضبط الفهم والاجتهاد والاستنباط، وهو مكمل لعلم أصول الفقه ومقاصد الشريعة، لأنه ميزان دقيق للفهم والاستنباط العميق والاجتهاد المنضبط في جميع القضايا الأساسية.
ويرى الدكتور القرداغي أن فقه الميزان يحتاج إلى علم راسخٍ من علوم اللغة وأصول الفقه والتفسير والحديث وعلوم القرآن والسنة ونحوها، ويحتاج إلى فطرة سليمة وعقول مستنيرة وبصيرة نافذة وقريحة قوية، وتدبر دون تعجب، ومعايشة مع النصوص دون تسريح. وأنه من يتقن هذا الفقه يحتاج إلى من لديه قدرة على التجديد أو قبوله، ولو أي عالم، ولكن لا يمكن أن يكون لديه ميزان يزن الأقوال دون وزن قائلها.
الميزان والاجتهاد
إن فقه الميزان بنظره إذا أُتقن يرفع الخلاف في الثوابت ويقلل الخلاف في المسائل الاجتهادية لوجود ميزان يرجع إليه، وفهم مشترك نابع منه. كما بيَّن بأن المجتهد إذا أراد أن يكون اجتهاده عميقاً ودقيقاً يحتاج إلى فقه الموازين الخاصة في أبواب الشريعة والحياة. وكما أن المفتي حينما يُفتي وهو ليس بالمجتهد لا يستطيع وزن ما قاله الفقهاء ولا وضع معيار دقيق له إلا من خلال فقه الميزان، ولو لم يكن لدى المجتهد أو المفتي أو الباحث فقه بالموازين لا يكفي أن يطبق ميزان العبادات على ميزان العادات أو العكس. وكذلك يطبق ميزان السياسة على غيرها أو ميزان الشاهد على الغائب. عند إذن يقع الخلل الكبير والخطأ في الاجتهاد أو الفتوى.
كما اعتبر أن أهمية فقه الميزان تحمي الناس من الوقوع في اللبس والخلط والإرتياء، فمثلاً: حينما يقرأ أحدهم قول الله تعالى: (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) البقرة:276. فلا يمكن أن يستوعب نقصان الرباء وزيادة الزكاة وهي نقصان مادي ظاهر إلا إذا فهم ان هذا حسب ميزان الله تعالى، وليس حب ميزان الدنيا والمادة، ولا يمكن أن يفهم الحديث (لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ)، إلا إذا فهم أن الموازين عند الله غير موازين الله. وحتى إذا قرأ الآيات عن خمر الجنة، بأنها لا تؤدي إلى الإسكار والضرر لما استطاع أن يستوعب ذلك، إلا إذا علم أن ميزان الآخرة غير الدنيا.
الموازين المبثوثة في القرآن والسنة (ميزان المادة والمعنى)
إن التعرف على الموازين المبثوثة في القرآن الكريم التي بينها الدكتور علي القرداغي في فقه الميزان لا يَستغني عنها أحد، فالمجتهد يعتمد عليها لدقة اجتهاده والمفتي لدقة فتواه والباحث لدقة بحثه والعامي في سبيل القناعة والفهم والبينات، فقد استطاع الدكتور القرداغي في كتابه الجديد أن يُنظم ويمحص ويستدل من خلال القرآن والسنة. حيث شمل فقه الميزان جميع أبواب العقيدة والشريعة. وبيَّن أن العدالة من الموزونات المادية لا تتحقق إلا من خلال ميزان دقيق، فكذلك الأمور المعنوية والتكليفية لا بد من ربطها بميزان معنوي. فالميزان موجود في الكتاب والسنة واستعمله الرسول الكريم وصحبه الكرام، وبين ذلك في كتابه فقه الميزان واستدل بقوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (الحديد: 25.
قال الدكتور القرداغي: “فإذا كان شاملاً ميزان التمر والبّر والشعير ونحوها من الماديات، فكيف لا يكون شاملاً لميزان الحقوق والواجبات ولمعرفة الله وما أنزله للهداية ولا سيما فقد علل الله تعالى إنزال الميزان مع الكتاب لتحقيق العدل الشامل للمادة والمعنى. فمن المعلوم قطعاً أن العدل لا يتحقق بهذا الميزان المادي فقط بل يتحقق بهما معاً المادي والمعنوي.
إن الميزان المعنوي بنظر الدكتور القرداغي هو الذي نعرف به الحق من الباطل والخير من الشر والهدى من الضلال والكفر من الإيمان والمفاسد والمصالح وحقوق العباد وحقوق الله والأوامر والنواهي ومراد الله في ذلك.
واستدل بهذه المعاني العميقة بقول الله تعالى في سورة الرحمن بعدما ذكر في تعليم القرآن وخلق الإنسان والشمس والقمر والنجم والشجر، والمقارنة برفع السماء. قال تعالى: (الرَّحْمَن* عَلَّمَ الْقُرْآنَ*خَلَقَ الْإِنْسَانَ*عَلَّمَهُ الْبَيَانَ *الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ*وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ* وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ* أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ*).
فهذه الموازين نزلت مع القرآن الكريم مبثوثة فيها وتظهر تطبيقاتها في سيرة النبي والخلفاء الراشدين، وكذلك الموازين والأوزان أشد وضوحاً فيهما.
الميزان الخاص
جهد الدكتور القرداغي في الكتاب في كيفية إظهار هذه الموازين والأشياء والرتب والأعمال ومن ثم تنزيلها على ميزانها الخاص بكل حكم أو نص وبيان الأوزان والرتب ووضع كل شيء في كفته المناسبة له. واعتبر الدكتور علي أن فقه الميزان هو الفقه الموزون دون إفراط أو تفريط ولا زيادة ولا تنقيص وحاله في ذلك حال علم أصول الفقه الذي كان موجوداً بمبادئه، فجاء الإمام الشافعي فأبرزه وجمع مبادئه وأصوله وضوابطه وتطبيقاته فجعله علماً عظيماً. ثم جاء من بعده فطوره. وهذا الحال في علم مقاصد الشريعة حيث الأدلة موجودة في الكتاب والسنة واجتهادات المجتهدين ثم جاء الإمام الشاطبي فجعله علماً مستقلاً. وهكذا فقه الميزان مع الكتاب الجديد والإضافة النوعية التي أسداها الدكتور القرداغي للعلماء وطلبة العلم والمكتبة الإسلامية.
والهدف من هذا الكتاب هو مساعدة الطلاب والباحثين للوصول إلى اجتهاد موزون وفقه موزون وتصور موزون وحكم موزون وتعامل موزون وهكذا.
……….. يتبع