23 ديسمبر، 2024 3:39 ص

فقه الحاكمية .. أزمة السلطة في الفكر الاسلامي

فقه الحاكمية .. أزمة السلطة في الفكر الاسلامي

أفرط أهل العلم والفقه والقائمون على الاجتهاد والأعلم منا جميعا؛ بشكل تعدى حدود التكليف والاستطاعة في تناول صفات وسلوك العبد المؤمن وما تركوا صغيرة ولا كبيرة الا وأخرجوها على المسلمين في مدونات ممدودة حتى يسلم الذين امنوا تسليما؛ فأبدعوا الاحاديث والمرويات التي تعلم المكلّف كيف يتحدث ومتى يخفض صوته وكيف يمشي واي قدم يقدم؛ شكله ملبسه ومظهره؛ ماذا يقول عند الجلوس وعند القيام؛ الكلمات التامات عند دخول بيت الخلاء وعند الخروج؛ الخرطات وعددها؛ اصول النكاح واوقاته؛ فسطروا اكبر موسوعة من الموروث المتخالف الذي لا يمكن ان يحتويه المسلم من العامة حتى وان قضى نصف عمره في التدقيق والتحقيق؛ كما استغرق الباحثون في منظومة الفقه الاسلامي في محاولاتهم عبثا بتحديث المنهج التقليدي فاعادوا التكرار والتدوير في متاهات القرون الاولى فألفوا البحوث التي لا يمكن ان يتقبلها العقل والمنطق .. فاخرج احدهم الف صفحة في رسالة تحقيقية عن الملابس الداخلية قبل البعثة وبعدها .. واخرج الاخر رساله علمية في الدكتوراه عن الاحكام فيما يخرجه الانسان من اصوات عدا الكلام .. ولن يتوقف الذين عبثوا في عقول الناس وجعلوهم اتباعا ومقلدين عن الافراط في تعويم العلوم الفقهية وهي في تراجع عظيم امام العلوم المعرفية؛ وهذا يفسر عجز كل من تصدى للتاريخ الاسلامي من الخلفاء والاولياء والاسياد والال المتوارث من البحث في ايجاد معادلة حاكمية عادلة مستقرة فكان الخلاف محتدما في تفسير (أولي الامر) وفرض طاعتهم المقدسة .. من هم هؤلاء وكم عددهم وما درجتهم؟ هل يتم انتخابهم ووفق اي مشروعية ماهي المؤسسة التي يعملون تحت خيمتها؟ هيئة علماء ام مرجعيات ام مجلس شورى؟ فما كان منهم الا ان يشرعوا فقه البيعة .. نبايع الخليفة او ولي الامر على الحاكمية الالهية كرها او طوعا.
الحقيقة التاريخية الصادمة التي يخادع فيها ويكابر عليها المجتمع العربي الاسلامي خوفا من ان يفقد هويته المزدوجة بان كل رجال الدين والكهنوت والباحثين في شؤون المنظومة الفقهية واسلاميي السلطة من احزاب الاسلام السياسي لم ولن يستطيعوا ان يأتوا باي فكر سياسي معاصر على الاقل يتماهى ان لم يكن يتوافق مع التحديات والتجاوبات التي ترتبط بالمنظومه الفكرية العالمية والسبب يعود الى الخلفية التقليدية والمقومات المبعثرة التي تفتقد الى الاصول المعرفية والقواعد الفلسفية وبسبب النكوص الكبير في سرديات التركة الثقيلة التي تقصم ظهر التحديث والتعريض الى النقد المعرفي وفقا الى معطيات الواقع وقراءات المستقبل بعيدا عن اجترار الماضوية والقدسية التي تتأصل بها واغراق العامة في الدرك الاسفل من مهالكها؛ ولا يحتاج المفكرون والكتاب الباحثون عند النقد الى الدخول في مفصليات النصوص والتحقيق فيها لان ذلك يدور في نفس الحلقة من المتاهات والمهاترات التي تراتبت في المدونات وامهات الكتب والتي في حقيقتها لا تخرج عن كونها استعراض مدفوع الثمن لكلام الخليفة او الامام او احداث يومياته.. قام فلان قعد فلان تزوج فلان تحدث فلان .. وليس في هذا اي عمق فكري حضاري يستوعب على الاقل الحقبة الزمانية المكانية التي تعايشت معها تلك المذكرات التي تقارب السذاجة والخرافة في عمومياتها؛ ونتائج ما احدثت من تغييرات في الواقع الاجتماعي والسياسي الاسلامي في حينها؛ ناهيك عن تمسكها بالنظرية الفقهية التي تشرع البيعة كنظام للحكم مع الصراع الكبير في أحقية الخلافة والولاية وعدم ظهور اي فكر ينقلب على تلك النمطية ويؤسس قواعد بنيوية سياسية يمكن من خلالها استقرار المشاركة في القرار الحكومي والتداول الحضاري للسلطة؛ وبقيت الحاكمية بيد الخليفة الذي يرث ملكه من ابيه او اخيه وفي الجانب الاعتقادي المخالف تكون العصمة المتوارثة للاولياء المنصوص عليهم هي من المسلمات التي ترتبط بأركان العقيدة وان الدولة الاسلامية لا يمكن تطبيقها الا بعد انتظار الى اجل غير مسمى؛ ويمكن ادراك واستعراض رثاثة الموروث فقط عند عرضه وبيان مدى تاثيره على الواقع المعاصر ومتطلبات الصيرورة؛ وسيكون الفشل هو النتيجة الحتمية والتي نرى صداها في الخراب الذي الحقته سلطة الاسلام السياسي في كافة الانساق وعلى كافة المسارات؛ فكيف يمكن ان يتقبل المسلمون والمسلمات والمؤمنون والمؤمنات بثوابت تطبيق الحدود التي شُرعت في القرن الاول من الهجرة .. كقطع اليد والرجم والجلد .. والجزية عن يد وهم صاغرون .. واحكام الجهاد والقتال والسبي والرق .. هذه النصوص واضحة جلية لا ينفع معها التاويل ولا التدليس حتى ان بعض المشايخ قد اقروا هذه السلوكيات شرعا ومن يطعن فيها فهو مرتد اثيم .. هذا الفكر انتج الارهاب عقائديا فبعثت داعش وستبعث بعدها دواعش اخرى .
ومن خلال مراجعات تاريخية هامشية يمكن للمتلقي ان يدرك بان ليس هناك ما يسمى بالفكر الاسلامي وهذا يبطل قرينه المشروع الاسلامي وينهي اي جدلية في ان يكون الاسلام هو الحل الى مشروع كيان دولة ذو نظام ديمقراطي حديث مستقر؛ واغلب الانظمة الحاكمة في الشرق الاوسط لا زالت تقليدية ومتاصلة بحكم التوريث العائلي وتستمد شرعيتها من المنظومة الفقهية الاسلامية واي مسعى سياسي للتجديد في اليات الحكم سوف يجابه باقسى بشاعة فكم من المفكرين الاحاد او من الفرق التي حاولت تحديث النمط فكان مصيرهم القتل والتصفية ومحق كل ما يتصل بهم من كتب وافكار واحداث؛ ولن تستقر النظم الحاكمة لان السلطة هي البعد الاستراتيجي لها وبعدها فليقع الطوفان؛ ولا يمكن المزاوجة بين تلك الانماط المتوارثة والانظمة الديمقراطية التي يجب ان تعمل في ظل كيان دولة غير عقائدية وان يكون المجتمع تحت ثقافة الهوية الواحدة في ظل الحقوق والواجبات التي تحميها القوانين العادلة وهذا لن يتحقق تحت مسميات الحاكمية الاسلامية؛ فمن اين يمكن ان تستمد الدولة الدينية فكرها؟ هل تاخذ من النصوص الثابتة المقدسة دستورا لها مع العلم ان التخالف في تفسيرها وتاويلها اليوم اصبح في بنيوية العقائد المذهبية والتي اصبحت فرقها لاتعد ولا تحصى ولا سبيل ابدا لانصهارها في منهج واحد؛ او هل تاخذ الفكر من فقه التقليد للمراجع وعلماء الامة والولاء المطلق للولي او الخليفة مع كثرة تلك المسميات والصراعات على مستوى السلطة الدينية والسياسية بعد ان تعاظمت مؤسساتها بشكل غير مسبوق وظهرت على السطح اعداد الاتباع والادوات الفاعلة على المستوى التعبوي والحركي؛ او هل يمكن اخذ الفكر من المنابر الخطابية التي تدعو الى ما تدعو اليه من السذاجة والخرافة واقصاء الاخر وتغليب العقيدة والطائفية وحتى السب والشتم في احيان اخرى ولا تدعو الى المجادلة بالتي هي احسن؟ او هل يمكن اخذ الفكر من السلوكيات والعبادات والشعائر الطقوسية التي يبتدعها العامة لتصبح ظواهر غريبة ثم يتم تغطيتها بالشرعية من الخاصة تحسبا لميل الاتباع الى مرجعيات اخرى وهي في دائرة الصراع والمنافسة على الحقوق الشرعية كالزكاة والخمس والوقف والهبات؟ ومع ان التحدي مطروح على الطاولة باستحالة النهوض بواقع الفكر الاسلاموي الا ان المسلمين يكابرون ما استطاعوا اليه سبيلا من التحريف والتجهيل والتضليل ولطالما اخذتهم العزة بالاختلاف والتناقض وعدم الاعتراف بالاخفاقات التي تزامنت تاريخيا طوال اربعة عشر قرنا من الزمان ولا زالوا يعتقدون وبترفع بانهم خير امة اخرجت للناس ولكنهم في الواقع يدركون عظم مصيبتهم في فكرهم وانهم اكثر امة متخلفة على وجه البسيطة نسبة الى ما يظاهرون به من الوهم المتوارث عليهم؛ وفي واقعهم لا ينالون حتى الحقوق الشرعية التي افاضت بها النصوص بحجج واهية كالابتلاء والمظلومية والتهيئة والانتظار والى ما لايمكن ادراكة من عقل او بصيرة .
المعضلة هي في اغترار الجموع بهالة الاحتراب والصراع على المستوى العقائدي والتعبوي الحركي بين الفرق والجماعات والفصائل والحشود والالهاء بالتقاطع والاختلاف حتى على مستوى الدول والدويلات والاحزاب الاسلاموية وانفلاقاتها وتلونها في الانتماء والولاء والانجرار الى المسميات والعناوين التي تشابهت علينا والزعامات التي اعتلت العروش من ارث او نسب او صدفة وما يتبعهم من الناعقين والغافلين والمنتفعين والانبهار من جلابيب التوصيفات والخطوط الحمر ومن الخطابات المزخرفة؛ ومن لا يدرك العلة في ما يحدث من خراب عليه ان يعي ان الغاية واحدة وهي سدرة المنتهى من السلطة الدينية والسياسية (الحاكمية) وان التاريخ يعيد نفسه مادامت الشعوب لا تمتلك ذاكرة لما جرى وما يجري وما يمكن ان يجري وهم لا يحملون من الوسيلة الا قليلا؛ وما اجتمعت العمائم وما تفرقت وما قامت وما قعدت الا من قاعدة ملكها واحد ومنبعها من شرعية واحدة وستبقى العروش الكبيرة ووعاظهم وادواتهم واذنابهم طالما هناك من يهتف .. لبيك لبيك .. وطالما هناك رمزا مقدسا .. انها الشرعنة العصرية للسلطة التي تنطلق خارج الحدود وتعتلي على القانون تفعل ما تشاء بغير حساب وترتحل في البلاد كيفما تشاء وتحرك الجموع متى ما تشاء فهي اولى بالمؤمنين من انفسهم وما على الناس الا الطاعة والاتباع والقبول والتسليم .