23 ديسمبر، 2024 12:09 ص

فقهُ اللغةِ في فكرِ الشهيدِ محمدِ الصدرِ

فقهُ اللغةِ في فكرِ الشهيدِ محمدِ الصدرِ

تتميز اللغة العربية بعلومها المتعددة والمتنوعة كالبلاغة والصرف والنحو والعروض وفقه اللغة(معاني المفردات)وغيرها كثير…..
والشيء الملفت جداً أن السيد الشهيد محمد الصدر (قدس سره) له بصمة مميزة في علوم العربية ولكنها ذابت وأنصهرت في طيات مؤلفاته التي تشير عناوينها الى موضوعات مهمة قد لا يخطر في ذهن أي فرد يقرأ العنوان بأنها تحتوي على معارف معمّقة ومميزة وعظيمة تمثل أعلى مستوى تفكير إنساني بالرغم من كونه مجرد أطروحة بالنسبة للسيد الشهيد محمد الصدر (قدس سره) ((يعني الأسلوب الثالث من منهج الأطروحات))..
قد يتسائل البعض عن معنى فقه اللغة ونجيب ببساطة إنه العلم الذي يتكفل بيان معاني الألفاظ العربية الموضوعة(المفردات العربية).
ومن خلال التعريف فإن المراد بالعلم هو ما كان عن إجتهاد وليس عن تقليد..

وهناك الكثير من علماء اللغة كأبن السكيت وإبن منظور صاحب لسان العرب والجوهري صاحب الصحاح والفيروزآباوي صاحب المفردات وغيرهم كثير.
((وهؤلاء العلماء وغيرهم لهم آراءهم اللغوية يعني لديهم القدرة على إثبات أو نفي معاني الألفاظ العربية وهذا هو معنى الإجتهاد)).
إن الشيء الملفت في دروس السيد الشهيد محمد الصدر(قدس سره)بمختلف مستوياتها وموضوعاتها كالفقه والأصول والتأريخ والتفسير…الخ إنه (قدس سره) لا يمرُ على معاني الألفاظ مرور الكرام مكتفياً بقبول أقوال فقهاء اللغة ومعتمداً عليها وإنما يمحّصها بحيث يناقش الكثير منها وكثيراً ما يحصل إستدراك من قبله لما غفل عنه أعاظم علماء اللغة…
وهذه المنهجية في التعامل مع فقه اللغة أيضا نجدها بوضوح تام من خلال القراءة المتدبّرة لمؤلفاته العظيمة كموسوعة ما وراء الفقه والموسوعة المهدوية وتفسير(منة المنان)…الخ

وهذا يبرهن إن المسألة هي مسألة بلوغ رتبة الإجتهاد في هذا العلم المفيد من علوم اللغة العربية وأنا أدعو أهل الإختصاص الى الإهتمام بمؤلفات السيد الشهيد محمد الصدر (قدس سره) ولو من ناحية إرتباطها بمجال إختصاصهم وأنا أضمن لهم النجاح والتكامل في إختصاصهم الى درجة لا تخطر في بالهم وكما يقولون التجربة خير بُرهان وأيضا لا ننسَ الفائدة الأعظم وهي حصول الهداية وركوب سفينة النجاة من خلال الإطّلاع على فكر الشهيد محمد الصدر(قدس سره) الرباني وفوائد أخرى قد تحصل الله العالم بها..
كيف يتعاطى السيد الشهيد محمد الصدر(قدس سره) مع فقه اللغة؟
ولأجل الجواب عن هذا السؤال سوف أستشهد بكلام السيد الشهيد نفسه بخصوص هذا الموضوع حيث ذكر في كتاب ما وراء الفقه الجزء الأول بعد أن إستعرض كلمات اللغويين عن معنى كلمة الإجتهاد وإليك ما قال(قدس سره):
(( إنه يلزم من كثير من تعاريفهم في هذا المحل وغيره الدور. لوضوح أخذهم اللفظ المعرَّف في اللفظ المعرِّف فيقال عندئذ: إن الفرد إما أن يكون عالماً بالمعنى قبل هذا التعريف أو لا فإن كان عالماً به إستغنى عن التعريف, وإن لم يكن عالماً به- كما هو المفروض- لم يفد شيئاً جديداً لتكرر المفهوم نفسه في التعريف كما يقول الشاعر:
( وفسّر الماءُ بعد الجُهد بالماء) وهذا الإشكال لا مناص منه من الناحية المنطقية. إلا إن الذي يهوّن الخطب أن اللغويين لا يتكلمون بلغة المنطق لإيجاد الحد والرسم وإنما لمجرد التفهيم وهو حاصل.
وبتعبير أدق: إنهم يحوّلون القارئ على مفهوم إرتكازي عقلي, موجود لديه سلفاً ناشئ من الإرتكازات والإستعمالات اللغوية..
كل ما في الأمر أن اللغوي وظيفته هو الإلفات إليه وتذكير القارئ به حتى وإن كان بالطريقة الخاطئة منطقياً. ومعه فاللازم هو الرجوع الى الوجدان اللغوي لنجد أن أي المعاني هي التي أشار إليها اللغويون…الخ)) انتهى.
هنا السيد الشهيد محمد الصدر (قدس سره) يُشير الى فكرة عظيمة ورائعة تمثل كلمة السر لهذا العلم..
وأيضاً قال قدس سره في أحد دروسه الفقهية ما مضمونه:
((يقول بعض أساتذتنا ويقصد السيد الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سره) لا تتقيدوا بالمعنى القاموسي للمفردة بل إرجعوا الى وجدانكم حتى تفهموا معناها..)).

إن السيد الشهيد محمد الصدر (قدس سره) طبّق هذه النظرية الخلّاقة التي يتبناها بصورة منقطعة النظير!!
فبعد أن يستعرض كلمات فقهاء اللغة لا يتوقف عندها بل يستقرئها ثم يعود بها الى المفهوم العقلي الإرتكازي الجامع إن أمكن ذلك ودائماً ما نسمع منه في دروسه في علم أصول الفقه حينما يريد أن يناقش أحد كبار المحققين في علم الأصول يقول ما مضمونه وهو يريد تحديد معنى لفظ معين إنني بوجداني العُرفي أفهم المعنى وهو يشير الى حقيقة أن اللغة الأم لا يمكن الإحاطة بإرتكازها العقلي ووجدانها اللغوي من قبل الذين تعلموها كلُغة ثانية وهذا ليس مجرد إدعاء وإنما تبرهن عليه بحوث ودروس ومؤلفات السيد الشهيد محمد الصدر(قدس سره) لكل من إطلّع عليها وقرأها قراءة معتدٍ بها..
بعد أن عرفنا كلمة السر في فقه اللغة فقد يطول بنا المقام إذا أردنا الإشارة الى الشواهد التي تثبت إجتهاد السيد الشهيد محمد الصدر(قدس سره) في فقه اللغة…
ومن خلال قراءتي المتواضعة لبعض مؤلفاته وجدت أن السيد الشهيد محمد الصدر (قدس سره) دائماً يستدرك على علماء اللغة ويعطي معاني جديدة قد غفلوا عنها وكثيراً ما ناقش مفرداتهم من ناحية لغوية وليست منطقية لأنهم وكما قال في ما وراء الفقه (ليس من شأنهم الحد والرسم وإنما التفهيم وهو حاصل).
وأكتفي بشاهد واحد حيث قال السيد الشهيد محمد الصدر(قدس سره) في الجمعة الحادية والأربعين ما نصه:

((إنه يعتقد طبقة من أهل اللغة- ولعله هو المشهور بينهم- أن العيد إنما سُمي عيداً لأنه يعود كل سنة, كأنه مأخوذ من العود فيكون عيد بمعنى عائد, كفعيل بمعنى فاعل, مثل عليم بمعنى عالم, إلا أن هذا واضح المناقشة:
أولاً: إن العود بالواو والعيد بالياء فتكون كل واحدة مادة منفصلة مباينة مع الأخرى ولا يُوجد وجه معتدٍ به لتبرير تبديل الواو ياءاً في لفظ العيد.

ثانياً: إنه لا تنطبق هنا قاعدة فعيل بمعنى فاعل لوضوح إن عيد ليس على وزن فعيل, لا فعلاً, ولا تقديراً, ومن هنا فإن الإطمئنان العُرفي على أن لفظ العيد لفظ مستقل وضع لأجل الدلالة على هذا المعنى بالذات وهو أي يوم يناسب فيه إجتماعيا إظهار الفرح والسرور, فيكون عيداً ومن الطريف الملفت للنظر-الذي ألفت نظري على أية حال- إنني نظرت في عدة مصادر لغوية، فلم أجد معنى العيد فيها موجوداً بما فيها لسان العرب لإبن منظور, ومجمع البحرين للطريحي, والمفردات للراغب الأصفهاني, وغيرها,وبالتأكيد فإن لفظ العيد ليس كلمة مستحدثة, ليُعرض عنها أهل اللغة ويهملوها, بل هي قديمة وأصيلة في اللغة, بدليل انها واردة في القرآن الكريم في قوله تعالى (تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك) الأمر الذي يدل على أنها كانت متداولة ومفهومة في صدر الإسلام, والعصر الجاهلي السابق عليه))انتهى.
هذا غيض من فيض وإلا فإن الأمر يحتاج الى مجلد كامل لأجل إستقصاء الشواهد الكثيرة التي تثبت بدرجة لا يشوبها شك أن السيد الشهيد محمد الصدر(قدس سره) بلغ درجة الإجتهاد في علوم اللغة عامة وفقه اللغة خاصة!!
والدعوة لأهل الإختصاص من عشّاق المعرفة وطلابها لأجل التصدي لهذه المهمة بحيث تصلح أن تكون رسائل علمية أكاديمية في الماجستير و الدكتوراه…بل والسير نحو نيل درجة الإجتهاد في فقه اللغة وغيرها من علوم اللغة…
وقبل الختام أود الإشارة الى شيء في غاية الأهمية مما له إرتباط بموضوع البحث أن السيد الشهيد محمد الصدر(قدس سره) في درس التفسير قال ما مضمونه أن علم أصول الفقه يتناول الكلمة العربية بصورة أعمق( أنحى) من النحو والصرف!!!
وهذا الكلام يكشف عن أهمية علم أصول الفقه وعدم إقتصار تطبيقه على علم الفقه بل إن آفاقه أوسع من ذلك بكثير وقد ذكرتُ هذه الفكرة بصورة مختصرة في بحث نظام الأطروحات في فكر الشهيد محمد الصدر(قدس سره) وأقول أن الحق ليس مع من يُريد التقليل من أهمية علم أصول الفقه بل هذا هو سلاح العاجز !!
———————————–