18 ديسمبر، 2024 11:12 م

مع شروق الشمس في بغداد, اشرقت هي بتحيتها الصباحية التي لم تبلغ عمر الصواب اللفظي للمفردات العربية, كنتُ مسترخياً الى درجة الذوبان في تفكير ما بعد السويعات الفاصلة بيني وبين من اعشق.
بمفردات انكليزية اعتدتُ سماعها مذ تأريخ حبنا, دعتني الى تناول الافطار الصباحي الاخير. شعور الفراق الذي يعتريني هو ذاته الذي احاط بها لكنها ارادت ان تكابر قسراً.
كانت الدقائق تتسابق, والحب يصرخ خوفاً, فيما كنتُ انقل حقائبها الى السيارة التي تنتظر هي الاخرى موعد الانطلاق. ثمة اشياء تفرح بالانطلاق كالطيارة والسيارة مثلاً.
جلست هي بالمعقد المجاور لمقعدي وتنظرالى بيتنا وكأنها لن تراه ثانيةً, دبت فيها المخاوف وظهر القلق واضحاً على عينيها الواسعتين, لاحت نظرتها يديها المرتعشتين خوفاً مما سيحدث,
الفراق الذي سيمتد طويلاً او لربما لن ينتهي باللقاء المرجو لانها لا تأمن لبغداد, فثمة اشياء في بغداد مخيفة, كتلك الصرخات التي تنهي حياة البشر, الصرخات التي تتلقفها وسائل الاعلام بلهفة, كصرخة انفجارات الايام الدامية التي يعرفها العراقيون جيداً.
في الطريق الى المطار, راحت تغوص في التفكير الذي سيعتريها بعد ثلاث ساعات من الان, سألت بشيء من الحرج: (متى ستلحق بنا؟)
اجبتها بفكاهة المستسلم للموت الحتمي: ( في الوقت الذي سنشتاق فيه لبعضنا), الاجوبة الفكاهية لا تخلو من الحزن كتلك القصص الفكاهية التي يرويها لنا المرضى وهم على سرير الموت بانتظارالساعة التي سيعلن الطبيب ابانها حالة الوفاة, انهم يحتقرون الموت ومثلهم حاولتُ ان احتقر الفراق لعلني انتصر عليه.
دخلنا صالة المطار حيث الاجرائات الامنية المشددة, كان اغلب المسافرون -الا نحن- مبتسمون وفرحون الى درجة انهم يلتقطوا صور السيلفي…
جلسنا متلاصقان خوفاً مما سيحدث, كانت اكثر قلقاً وكنتُ اكثر وجعاً لكني كعادة الرجل الشرقي اتظاهر بالابتسامات الكاذبة رغماً عني, فمن المعيب على الرجل ان يتقهقر فراقاً على احد حتى لو كان ذاك الفراق هو الموت!
(على المسافرين الكرام التوجه نحو البوابة رقم 35) بهذه الجملة اعلنت موظفة الاعلانات في المطار الفراق الذي سيحدث, كرهتُ تلك الموظفة رغم اني لم اعرفها ولا ارى شكلها سوى سماعي لصوتها الذي فرقنا.
(فقط المسافر يدخل القاعة رجاءاً!) قال لي موظف شركة الطيران, كنتُ احاولُ رسم الابتسامة الاخيرة لكني فشلتُ في محاولتي الميتة. محاولة اخفاء المشاعر شيء لم اعتداه خاصة تلك التي تجيش بالحزن, كان البكاء اقرب لي وكانت الرجولة اكثر قرباً منه. فلم ابكِ احتراماً للرجولة الشرقية.
حاولت ان تُقبلني مودعة, فأحتضنتها منتشياً بالدفئ الذي اعتراني متجاهلاً العادات التقليدية المتعارف عليها في ذاك الزمان والمكان.
خرجتُ من صالة المطار حاملاً معي شيء من الفقدان وشيء من الالم وبضعة اشياء من الذكريات الجميلة التي تقاسمناها طوال شهور.
نظرتُ من مسافة بعيدة حيث الطائرة التي سارت بسرعة فائقة واقعلت من الارض فأقلع بدروه قلبي من مكانه صارخاً: وداعاً…