23 ديسمبر، 2024 5:07 ص

فعل السرد الذاتي في رواية “يوميات مطلقة” لهيفاء بيطار

فعل السرد الذاتي في رواية “يوميات مطلقة” لهيفاء بيطار

من تقع عيناه على عنوان رواية “يوميات مطلقة” لهيفاء بيطار سيداخله تساؤل مباشر منذ الوهلة الأولى: هل هي سيرة ذاتية للكاتبة؟ وحتما سيكتشف الإجابة فور قراءة أولى صفحاتها لأنه سيجد نفسه أمام فعل السرد الذاتي أين تعكس صاحبتها جملة من المشاعر والعواطف والمواقف المريرة من حياتها في صورة تستبطن أغوار النفس وخلجاتها حيث تقول: “…وبين وقت وآخر أفتح غطاء العلبة، وألقي نظرة على كومة السنين المتكومة في العلبة، وأبتسم ابتسامة تحمل جزءا كبيرا من السخرية، لا. ابتسامتي ليست مجرد ابتسامة ساخرة، إنها ابتسامة من اكتشف الحقيقة ولو متأخرا.. الحقيقة العارية الفجة القبيحة…” (ص 7).

منذ البداية سيكتشف القارئ أن الكاتبة لا تكشف عن إسمها بعينه داخل المتن الروائي وكأنها تحاول التخلص من ذلك الإعتراف حتى لا يكون حجر عثرة أمام عملية التخييل الذي تسمح به ثنائية النص الذي ينتمي إلى جنس السيرة الذاتية وكذا الرواية في آن واحد كما يظهر جليا عنوان هذه الأخيرة على الغلاف الخارجي.

تضعنا رواية “يوميات مطلقة” في البيت العائلي للبطلة و الذي تظهره كمكان تعود إليه بين فينة وأخرى لا لتصوير جدرانه وأثاثه، بل استعملته كوسيلة للحديث عن سيرتها الشخصية منذ بداية ظهور بوادر الطلاق في حياتها وهي أم لطفلة صغيرة حيث نقرأ مايلي: “…إلى متى؟! وشبابي المدفون بين عجوزين شبعا من الحياة، وأنتفض واقفة وأنسحب من الصالون، وأنا أحس أن بخار الانفجار أخذ يخرج من صدري صاعدا إلى أنفي وفمي وأذني، وأدخل غرفة نومي، وأنظر لنفسي في المرآة فتطالعني صورة امرأة جامدة الملامح، شفتاها مطبقتان ولكن لو انفرجتا لخرجت من بينهما حمم…” (ص 13).

إمرأة شابة مهجورة في الثلاثين من عمرها تكاد تختنق من مرارة وحدتها لا تجد بين يديها حلا غير الكتابة كمتنفس لتخفف من عبء يثقل كاهلها كي لا تستسلم لفكرة الإنتحار حيث تقول الساردة: “لقد آلمتني هذه التشوهات كثيرا، لدرجة فكرت مرارا بالانتحار، وكنت أتخيل كيف أدور من صيدلية إلى صيدلية، أشتري الدواء المهدئ والمنوم، الذي سأتناول كمية كبيرة منه ليريحني من عذابات لا ترحم…” (ص 7-8).

تبدو جماليات البوح والإفضاء والحميمية موجودة بقوة في هذا العمل الروائي بشكل يجذب القارئ ليتخيل حياة الكاتبة أمام عينيه دون أقنعة ولا رتوش: “أعود إلى بيت أهلي، أعتني بالصغيرة الحلوة، أدفن رأسي في صدرها وبين ذراعيها، وأقول لها هيا طبطبي على رأس الماما، لأني أنا الصغيرة وأنت الماما، أنت الملجأ، والملاذ والأمل، أنت حبي الكبير الذي يفيض من صدري ويغمر الدنيا…” (ص 17).

لقد استطاعت الذاكرة أن تلعب دورا مهما في “يوميات مطلقة” حيث رسمت طريقا إلتفافية تعكس بها أحاسيس المرارة والغضب التي تعيشها البطلة وتأتي الصورة واضحة على لسان الساردة كالآتي: “وخرجت مسرعة أريد أن أقتحم بيتي، وفوجئت أنه غير القفل، وأن المفتاح الذي

معي لم يعد يفتح، والتهبت بالغضب أكثر وأكثر، وما من نتيجة ترجى.” (ص 37).

تبدو الرواية باحثة عن حقائق البطلة أين نجد ذلك جليا منذ الصفحات الأولى وهذا يتضح جيدا لكل من يتأمل التغيرات الطارئة على حياتها، فهي تعيش بين الحيرة والهجران وخاصة فيما يتعلق بمصير طفلتها الصغيرة “لمى”، ولكن كل هذا يدفعها للتمسك بالأمل لأن الحياة لا تتوقف وتقرر فجأة السفر لتتخلص من كوابيس لا ترحم: “…كانت مشاعري تخفق مضطربة كأنفاسي اللاهثة، واحترت في تفسيرها، أهي رغبة بالضحك أم البكاء، ولكن دفعة من الدموع المباغتة سقطت بغزارة من عيني، واحتجت لبذل مجهود كبير كي أبتلعها للداخل، وأشعلت سيجارة وأخذت أنفث الدخان وأراقبه كيف يخرج من فمي كثيفا ثم يتلاشى ذائبا في العدم كهمومي تماما.” (ص 45).

يصطدم القارئ بالواقع في مشاهد عديدة في “يوميات مطلقة” تتركه في دهشة منسوجة بالإحباط والألم في آن واحد لما بات يعيشه شباب اليوم في وطننا العربي كقول الساردة: “ليتني كنت أبالغ، لكن هذه الحالات أخذت بالازدياد، خاصة أن الزواج صار أزمة حقيقية أساسها اقتصادي، وماذا تفعل الفتيات حين يتحول الزواج إلى حل مستحيل، أو صعب التحقيق، كنت أتساءل كيف ستعيش هذه الشريحة المتزايدة من الفتيات والشبان، وقد صار الزواج حلما مستحيلا؟…” (ص 64).

إن توسع آفاق وعي البطلة وعمق رؤاها النافذة في صميم الحياة يعبر عن نضج كبير في شخصيتها حيث تقول: “ورغم أن كل الناس يعرفون ازدواجيتهم ونفاقهم وكذبهم وغشهم، إلا أنهم يحسنون مداراته وتغليفه بقشرة سميكة عاتمة، وتبطينه ببطانة لا تشف، أما أنا التي رفضت القشرة والبطانة وعشت بعفوية البلهاء أو الفنانين البوهميين، أرسم إيقاع حياتي معجونا بالنور والشمس وهواء الجبال العالية، فقد أرعبتهم

وأثرت مخاوفهم لأنهم شموا رائحة خاصة يخشون أن تقتلهم، رائحة الحرية.” (ص 81).

إن المبدعة السورية هيفاء بيطار في رواية “يوميات مطلقة” تنقل لنا نموذجا حيا و صادقا، لحقيقة إمرأة واجهت شبح الطلاق في مجتمع عربي لا يرحم هذه الحالة من النساء للأسف الشديد، و كل ذلك جاء بأسلوب جذاب و ممتع سيحرك حتما عقل الإنسان للتفكير بمصير كل طفل يجد نفسه في النهاية ضحية لتلك العلاقة الزوجية الفاشلة دون سابق إنذار.