18 ديسمبر، 2024 6:55 م

فضاء المدن يشذب شعرية يوتوبيا السرد

فضاء المدن يشذب شعرية يوتوبيا السرد

قراءة و إضاءة لرحلات ( خرائط منتصف الليل ) لعلي بدر

توطئة :
لا يمكننا فصل نشوة الولع ( الرحلاتي ) بأي حال من الأحوال عن
منظومة مسار الجدل النصي التجنيسي الأدبي و نظمه التخييلي و
مبانيه البلاغية و ربما بات يشكل تقليدا سائدا في معاودة التفكير
الكتابي اليوم في مقولات ( انتاج المكان / الفضاء ) المولدة لأنواع
الصور السردية من قبيل البيان / التخييل و التصوير اللغوي و
المحاكاتي .. كما أضحى أدب الرحلات من الشائع في زوايا و
ثيمات سياقية مقولات الانعكاس و التمثيل و الانطباع التشخيصي..
المفضية بدورها الى مجمل مجليات شتى الظلال المعنوية لمقولة
و خلفيات الصورة المكانية و الزمانية و الفضائية و تبقى أدبية
نصوص الرحلات ولا شك تشكل من جهة ما لنفسها تلك الحاضنة
المأربية الجليلة في التآتي لحد الصورة السفرية التي ليست على
جهة السفر المكاني فحسب و أنما على جهة تشكلات تدليلية ما من
شأنها صنع دلالاتها النظرية و القاعدية في مدار فهم أدوات و
وجماليات الفن المكاني في رحم المرجع التراثي العالمي . و من
جهة أخرى يبدو أن أدب الرحلات بوصفه معيارا ملتبسا و
مستعصيا على الضبط المخيالي المقايس لدى مخيلة الكاتب
الروائي أو الكاتب الشعري ما لم يدعمه بحضورا ــ أي حكاية
الرحلة ــ مولدا في السعي لغاية تقنين إدائه الكتابي في حدود
صناعة الأنشائية التكميلية و التشكيلية و مقدار ديناميتها في الانجاز
الفني لديه إجمالا . هكذا سنحاول في حدود رقعة دراسة مقالنا
لفصول كتاب الرحلات للكاتب الروائي العراقي المغترب
( علي بدر / خرائط منتصف الليل ) لنعاين من خلال أسلوبية
رحلات هذا المنجز حجم كيفية عرض الكاتب لقيم أنتاج المكان /
الفضاء و حجم انتاج ذلك التشكيل التقديري في عضوية الصورة
السردية الرحلاتية في نقل خرائط مرجعيات كتابتها و نقلها
و تحولاتها ضمن أسس خرائطية تقاويم العوامل و المكونات
العمرانية و التأريخية و البشرية و تمظهراتها كعرض لمفهوم
الصورة السفرية الناطقة بلسان حال الظرف الشعري الراهن في
تحاورات السارد مع هوية الأمكنة و الشخوص و الأضواء و
المناظر الطبيعية و علاقته الشخصانية الانطباعية بمجال الأدباء
و الكتاب في حاضنة مقاهي وليل تلك المدن اليوتوبية . من جهة
أخرى يبقى رصيد تلك الرحلات ما يشكل خطابا تعبيريا دالا و
كيانا رمزيا و جماليا و وظيفيا في مستقبل كتابات الكاتب الروائية.
( الصورة الوصفية في موسيقى شعرية المدن )
ونحن نقرأ تصديرات و عنوانات و دلالات و أيقونات أدب رحلات
علي بدر ، تواجهنا قبل الدخول الى صلب زمن فصول رحلاته
ثمة مقدمة تبويبية للمنجز نفسه يقول فيها الكاتب شتى من المفاصل
الفقراتية التي تخص عوالم نصية و تنصيصات ثقافة الرحلات و
على نحو اضحت و كأنها وجهة نظر الكاتب الاستقرائية و
التوصيلية التي أتسمت بطابع الإقناع و التأثير و المؤانسة و
المقبولية في محاولة منه أي الكاتب لتجميل و تحوير نمط صفاتية
الرحلة بنوع من المغايرة و التعميمية التي من شأنها بالتالي منح
محطة التلقي تلك القيمة التعريفية بتعدد الذات المتكلمة بلسان
آحادية الضمير المتكلم في شتى تحولاته الظرفية و الفضائية و
على مستوى راح يتفاعل مع إجرائية محور الأشياء و الحالات
في تجربة الرحلة : ( في الباخرة التي أقلتني الى بيروس ..
تذكرت المقطع الذي أجبر أرثور رامبو على الهجرة و الرحيل
الى أفريقيا .. أن السماء المخضبة بالبطولة تؤذن بالليل لا بالنهار..
أن الحياة الحقة هناك .. في مكان آخر .. رامبو / من الذي يدفعنا
اليوم الى الهجرات و الرحيل الى المكان الآخر .. حلم اللاعودة ..
أم الحلم بالوصول .. المنفى و المكان المستحيل أم الصورة
الاستعارية للفردوس ؟ / الفكرة التقديسية غير الهندسية للكون
ــ الكوزموس ــ أم الأصول الأولى لأدابنا الشرقية و التي تعني
البحث عن العالم المكتنف بالغموض و المحاط بالجمال العصي
على الوصف ؟ الأحلام غير المتبلورة عن الفردوس الأرضي
أم المكان المجهول دون حدود ؟ . المقدمة ) و الحق أن نقول
بشأن عوالم منجز علي بدر الرحلاتي أنه يشكل في حد ذاته
ضمير التنصيص المرجعي التقويمي في نظرية و محصلات
أنساق الصورة الأفقية لقراءة أوليات مدد تراث المدن الأستدلالي
وصولا منه الى محاولة توسيع مدار خلجات و مغامرات الأفكار و
التخيلات و حلقات التأليف المونتاجي لديه . مما راح يجعل أوليات
الأشكال التصويرية في علاقة مطلقة بثلاثية ( الكاتب / المدينة /
شعرية المتخيل ) و هذه المحاور الثلاثية ما راح يفضي منها بدوره
الى استقراء أهم المفاهيم و التصورات الثقافية في أتون سرديات
ذهنية السؤال المركب و المتاح في تقديم طرحية أفتراضات الأنا
الباحثة و المنقبة في متاريس المركزية الصورية الرحلاتية في
وجه و مدار اطلاقية معنى الإجرائية الرحلاتية و كيفية معجمها
التفصيلي الخصيب في دلالة ( رؤيا / فكرة / مواءمة / هوية /
استنتاج / دليل / مؤول ) و يسفر مفهوم دليل و دال ( الرحلة)
لدى فصول منجز نصوص ( خرائط منتصف الليل ) نحو وثيقة
من التحدد أو اللاتحديد في مختلف فضاءات نصوص الرحلات
بطرق متباينة . فقد يكون هناك رحلة ما تشكل في ذاتها نقطة
خصيصة ( النص الداخلية ) و هناك بالمقابل منها ثمة رحلة
ما تشكل في حد ذاتها وحدة كلية ضمن خريطة علاقات المراحل
الظرفية و تشعباتها في آفاق الوظيفة الدلالية المزدوجة للسائح
نفسه , أن القارىء لكتاب ( رحلات علي بدر ) قد يتصور لنفسه
بأنه يقرأ عملا روائيا حول هوية موضوعة روائية تخص انتاج
المكان مع وجود أرضية أنساقه الفنية و الأسلوبية في صناعة
المروي السردي . كحال رحلة دلالة فصل ( رحلة الى اسطنبول)
حيث نجد الروائي علي بدر عبر ملامح هذه النصية الرحلية يسعى
الى وصف عناصر المكان / الشخوص / الزمان / العلاقات /
طبيعة الأشياء الساكنة و غير الساكنة و كأنها تمرر داخل فاعلية
علاقة الأفق البنائي الروائي . ذلك لأن جميع تواصيف و مرويات
و مشاهدات الروائي في حدود هذه الرحلة قد حلت في بنى مجالية
واسعة من الحبك و الشد و التعقيد و الرسم و التحولات السردية
الحركية المنجدلة في دائرة الإجرائية الروائية المتسللة هرميا
و على نحو باتت الأنساق المتشكلة من خلالها تبدو و كأنها
سيناريوهات لقطاتية قادمة من مسارية شريط سينمائي مضغوط
بعناصر الفلملة السينمائية و في كافة عناصرها الحقيقية الراسمة
لدور لعبة و صناعة الرواية السينمائية المرتبة في البؤرة و
التوظيف و المواقعة و التكوين . فالنص الروائي إذن في رحلات
منجز( خرائط منتصف الليل ) قد جاءنا كعنصر فاعل تحت جنح
النص الرحلاتي و كنوع متواضع من الأنتشار التأطيري في أفق
أنتاج شفافية نص رواية الرحلات المروية بطريقة السارد العليم /
المؤلف كإشارات متداعية من المنتوج الوصفي الداخل بنسق
علامات سلطة المؤلف وضماناته في العودة الى النص المروي
على نحو دلالة جوالة تعكس حقيقة تلك الرحلات السردية في
فصول الكتاب .
( رحلة الى اسطنبول / في ظلال البازار الكبير )
و في ساحة / فضاء آليات رحلة المؤلف الى بنى مدن اسطنبول
نراه يستهل في بدء تصديرية كل رحلة فصل من فصول رحلاته
بأبيات شعرية لشاعر كبير أو صغير من شعراء تلك المدن التي
قام بزيارتها : ( رويدا رويدا .. بتمهل و ببطء .. وكمثل من
يكتشف متحسسا بيديه جسد امرأة غريبة تعرفت عليك .. مع أنك
موجودة دائما .. منذ أن اقتنع ــ المغاربون ــ بأقوال كاهن دلف
وسكنوا في شبه الجزيرة المقابلة لشاطىء العميان .. بل وقبل ذلك
بكثير .. منذ أن بنى الأنسان الأول ملاجىء القصب عند مصب
نهر ــ كاغيت هانه ــ في الخليج لتحميه من الوحوش الكاسرة ..
منذ ذلك الوقت موجودة كنت و حتى الآن / مقطع من كتاب حبيبتي
اسطنبول للكاتب التركي نديم غورسيل ) أن دقة و عناية مقولة
العتبة الاستهلالية في مركز الحالة النصية المذكورة في أعلى
الرحلة السردية الشعرية ، هي ما يحدد فيما إذا كان المؤلف /
المسافر / الراوي يكرر نفسه في نصوص رحلاته ــ بعد رحلة
النص الأول ــ أم أن نصوص رحلاته اللاحقة تكون بمثابة ايقونة
تنويعات على متن إيقاع مركب المغايرة في التجربة و الرؤية . بيد
أنها تبدو بالتالي ــ أي الرحلات ــ قادرة على ديمومة فكرة التوفر
في أكثر من نص رحلة و في هذه الحالة يتكون أكثر من نص
رحلوي رئيس للراوي حيث يمكنه من خلاله أن يتشظى في محاور
رحلات أخرى متقاربة في التوصيف و الإحاطة : ( حين وطئت
قدماي اسطنبول أول مرة كنت أعرف جيدا أي أرض وطئت .. لا
أتحدث هنا عن التأريخ وهو أمر لا يمكن إهماله بأي حال من
الأحوال .. ذلك لأنها مدينة تجاوزت هذا الحس العادي الذي نطلق
عليه مدينة التأريخ لأنها مدينة صنعت التأريخ و رشحته و عممته..
بل شغلت الناس و شغلت التأريخ على مدار القرون الخمسة
المنصرمة . ) و هكذا يتمكن المؤلف / السارد / السائح من تحويل
ذلك المحسوس ــ التأريخ ــ الى صور فنية حيث يعبر المؤلف من
خلاله عن قدرته في تصعيد الواقع المعاش و يتمكن بالمقابل منه
المتلقي في أن يستشعر حجم و مدى هذه المدينة الجميلة و ما يدور
حولها من أحساسات عميقة و خصيبة حيث مكنه من اكتشاف ما
لهذه المدينة من جذور تأريخية معكوسة داخل روافد حيواتها
اليومية من اتزان وانسجام و إيقاع و صور تحصيلية نابعة من
النطق العادي لمدركاتها المعمارية و البشرية و قد جعل المؤلف
لهذا النطق الأيقوني معنى جماليا يخلع عليه ضربا من الامتلاء
في تعامله مع طبيعة الأشياء وما يجري فيها من شرائط احتمالية
وخيالية و فنية : ( كان السائق كبير السن يرتدي قميصا أزرق و
يضع على رأسه بيرية حمراء قانية .. سار بي هادئا من مطار
أتاتورك الواقع شمال شرق اسطنبول نحو فندق فيلا زويرخ في
ضاحية بايوغلو / كنت أقلب دليل الرحلة الى اسطنبول الذي طبعته
دار إيفير في باريس و قد أرسلته لي صديقة فرنسية كانت مولعة
بالسفر الى تركيا وقد كتبت لي على غلافه الخارجي مقطعا من
رحلة تيوفييل غوتييه الى اسطنبول غير أن هذا الدليل لم يكن يقدم
سوى معلومات بسيطة و مبتذلة عن المدينة .. فالوقائع التي تحيط
بي و التي كانت تزاحمني من نافذة السيارة كلما رفعت رأسي
تكذب المعلومات التجريدية و السطحية المكتوبة بشكل مبتذل
في الدليل .. و على رصيف البحر حيث انعطف السائق بي
كانت البواخر التركية شبه المتداعية مزدحمة كما لو كانت
بواخر لاجئين .. و اسطنبول الصباحية تفوح برائحة الأحجار
و الأزهار الموضوعة في الزهريات بعناية . ) أن منظور الإدراك
الجمالي الحسي لدى مخيلة علي بدر هو بوضعه لحظات حقائق
المعاينات الوجدانية لعوالم تلك المدينة و مدركاتها الكونية ، في
حدود أقرب الى المشاهدة الأنطباعية منها الى المشاهدة الأبداعية
التي تمكنه من الأحساس بحقيقة الجمال الخالص . و هذه القدرة
الأبداعية موجودة في الأنسان المبدع تحديدا حيث تكمن في داخله
و في أعماقه الشعورية و اللاشعورية ، و هذا الأمر كامن في
العقل الباطن أختزنه الأنسان من جراء ما اكتسبه من خبرات
جمالية سابقة . و في هذا المختزن الجمالي تكمن حقيقة الصور و
المعاني بشكل دقيق حيث تتداعى عند استدعاءها الأول .
( دراما يومية في عدسة المشاهدة )
أن التركيب في لغة المكون السردي كما في اللغة الشعرية :
صيرورة الأداء الفني .. كيفية في الإنجاز و فعل البناء ..
أداء في الخلق و التعبير أو الشكل و التصوير المؤديين الى
ابداع المعنى الإيحائي . فالمعطيات الرحلوية في فضاء رحلة
تجوال السائح / المؤلف في شوارع و فنادق و مقاهي و مناظر
اسطنبول تأخذ بالمعنى المشهدي المصور في لغة و عدسة دراما
المؤلف في التقاط المناظر اليومية حيث ينفتح كلام السارد تدبرا و
تأملا و تأويلا . وهي بمثابة الصور القادمة من عدسة كاميرا التلقي
حيث تجيء على الضد من جنة الأحلام الوهمية أو التمنيات
الفنتازيا المفقودة . إلا أننا كقراء وجدنا مجمل كلام و مشاهدات
السارد كحالة من حالات مساحة الوصف الشعري المكثف في
فضاء صميم مكونات التصويرية المشهدية و توصيفها المؤثر
( توقفت أما بوابة الفندق الزجاجية الكبيرة في شارع جيهان ..
هبط مسرعا وترك باب سيارته مفتوحا .. أنزل الحقائب بسرعة
فتلقفتها منه عمال الفندق / دخلت الفندق لم يكن مرتفعا كثيرا كان
صغيرا متواضعا بثلاثة نجوم ولكنه محايد و حميمي جدا / دخلت
الصالة و توجهت نحو موظفة الأستعلامات .. توقفت أمامها و
أخرجت أوراقي و جواز سفري .. ــ عراقي ؟ ــ نعم ؟ ــ أهلا
وسهلا .. ابتسمت .. أكدت لي الحجز أعطتني ورقة قدمت لي
المفتاح .. قلت لها بالتركية بأني أريد حجرتي مقابلة للبحر ..
ابتسمت كأنها لم تفهم ما قلته لها .. ألتفتت الى الشاب الذي يجلس
الى جانبها وقد فهمني مباشرة .. ابتسم لي وقال لها بأني أتحدث
التركمانية العراقية ثم ألتفت نحوي وقال : هنا لا يفهمون إلا
التركية الحديثة .. / ساحل البسفور / .. كنت أنظر الى الأسوار الى
صفوف الأزهار الشفافة الى التلال العالية العصية على التسلق /
هذا المشهد البسيط و المحايد يلح على ذاكرتي كلما سمعت هذه
الكلمة السحر التي تنتهي الى عالم الخيال أكثر مما تنتهي الى عالم
الواقع .. اسطنبول )
( تعليق القراءة )
أن قراءة نصوص رحلات ( خرائط منتصف الليل ) ومنذ بدء
حلقات رحلة ( رحلة الى اسطنبول ) وحتى آخر حلقات رحلة
( رحلة طهران ) نعاين بأن الذات الساردة تتعرض بحكم تفاعلها
الحسي مع الأشياء في تجربة الأكتشاف الى خطية من التحولات
المشهدية النوعية وتقابلاتها التوصيلية الى غاية جميلة من المغايرة
و الإطلاق و البنيانية الإختزالية المعبرة . و عبر ما يمكن أن نقوله
حول ثيمة تجربة نصوص الرحلات السردية لعلي بدر في فحوى
منجزه الرائع ( خرائط منتصف الليل ) بأنها جملة وقائع نصوصية
تستلهم الأجواء المكانية الى مدركات تسجيلية مخيالية خصيبة
راح يتمخض عنها بطريقة المحمول الذهني الأنطباعي فضاء
المدن وهو يشذب شعرية يوتوبيا السرد . إن الكلام حول دلالات
رحلة علي بدر ما هو إلا ذلك الفضاء الذي راح يبني الأحداث
الرحلوية لأفعالها وهي تقترن بمنتوجها المونتاجي واللقطاتي
التوصيفي الساحر للروائي الذي أخذ من رصيد رحلاته لتلك
المدن الكبيرة مع شخوصها المارة و عرباتها و مبانيها و نساءها
وشعراءها و أزهارها و أساطيرها وآلهة شعوبها الخرافية بمثابة
تلك المخطوطة الذاكراتية لخرائط نصوص منتصف الليل الروائية.