23 ديسمبر، 2024 1:27 م

فضاءات البوح وتعرية الذات..ايمان الخيون نموذجا

فضاءات البوح وتعرية الذات..ايمان الخيون نموذجا

يمكن تعريف الشعر الشعبي بأنه وسيلة يستخدمها البعض للتعبير عن الوجدان الجمعي للشعب أو هو وسيلة لعكس الوجدان الذاتي لأكبر شريحة من المجتمع،بل هو بيان لروحه وترجمة لحياته وأفكاره وآماله وأحلامه كما يرى الدكتور عبد الحميد يونس.

من هنا فأن دراسة الأدب الشعبي تمكن الباحثين التعرف على سايكولوجية المجتمع وما يتمتع به من مميزات نفسية وموروثات اجتماعية كما يمكن التعرف على أهم القيم التي يتمسك بها المجتمع كقيمة الكرم والصدق والشجاعة كل هذا يمكن ملاحظته من خلال الأدب الشعبي وخصوصا الشعر لأنه المرآة العاكسة لمشاعر وقيم المجتمعات، لانه يخلق قوالب انفعاليه وسلوكيه تعين المجتمع على الاحتفاظ بتماسكه.

لذا فأن الأديب الجيد لا ينسلخ عن بيئته ومحيطه الشعبي ما دام يسعى لان يكون صوتا يدعو إلى ترسيخ قيم المجتمع العليا، ولعل الشعر الشعبي اقرب للذاكرة الجمعية من الفنون الأدبية الأخرى لأنه يختزل الحكايات والقصص الشعبية وهو وسيلة سهلة للإفهام وإيصال رسالته إلى الآخر.

 وقد برزت أسماء لامعة في العراق خلدت عبر منتجها الشعبي ابلغ مستوى للعطاء الإنساني الذي تجاوز فيه حدود الخصوصية المحلية إلى فضاء الكونية أو العالمية ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الشاعر الكبير مظفر النواب وعريان سيد خلف وكاظم إسماعيل كاطع وعبد الحسين ألحلفي.

ومن بين الأسماء التي سجلت حضورا فاعلا في حركة الشعر الشعبي العراقي الشاعرة(إيمان الخيون) وهي كغيرها من النساء اللاتي لم يسمح لهن المجتمع ألذكوري أن تخوض في ميادين يعتبرها الرجل حكرا له ومنها الشعر الشعبي.ولان الشاعر لا يقاس بعمره بل بتجربته الشعرية لذا فقد اخترنا (إيمان الخيون) كشاعره جنوبية من اسرة شعرية اذ تقول في احدى قصائدها تصف علاقتها بوالدها المرحوم الشاعر جاسم الخيون قائلة:(انه اربات الشعر وتلذذت بيه /يجري وي الحليب الجنت ارضعه/يسكت باللهو الجاهل اذا جاع/وانه اغفه بشعر ابوي الجنت اسمعه)

ولها تجربة غنية في مجال الشعر الشعبي وسنحاول قراءة إحدى قصائدها لسبر أغوارها وهي قصيدة(ردت أودعك) 

ردت أودعك

الى الشهيد رعد عاشور الاسدي..زوجا وحلما

ردت أودعك حرت شكتب بالوداع
حايره وعيني امتلت بدموعي
أنت من ترحل وداعك ما يهون
نار أحس مشتعلة جوه ضلوعي
يا صحيب الماكو مثلك بالوفاء
جن سنه فراكك يصير أسبوعي
الروح هاجت من كرب وكت الرحيل
وبيش يحبيب اسكن روعي
ردت اكتبلك شعر شت الكلام
والقوافي اليوم رفضت طوعي
اخذ من عندي إلك حب واحترام
واعتذرلك لو عجز موضوعي

وهذه القصيدة يدور محورها الرئيس حول(الفراق) فراق الآخر وما يترتب على هذا الفراق من الم وشقاء وكيف يفنى العاشق في المعشوق ويدفن في قلبه،فتقدم صورة تطفح بدفء المشاعر المشتبكة مع رحيل الحبيب وخصوصا اذا كان هذا الاخر هو(الزوج) كما هو عند شاعرتنا الذي نستدل عليه من اهداء قصيدتها.

إن الحنين للمعشوق ارتبط عند ألشاعره بهذا الدفء الذي كانت تستشعره بوجوده،إنها ترسم صورة لمشاعرها في لحظة الفراق(ردت أودعك حرت شكتب بالوداع/حايره وعيني امتلت بدموعي/انت من ترحل وداعك ما يهون/نار أحس مشتعلة جوه ضلوعي)

تصور الشاعرة في هذا المقطع ذاتها المنقسمة من فرط الحيرة والضياع لرحيل الحبيب،وكأنها أرادت من القارئ ان يشعر بحجم الأسى الذي يسببه الم فقد الحنان للمرأة، فهي تشكو لوعة الفراق سواء أكان فراق الموت ام فراق الهجر والجحود.

في قصيدة(ردت اودعك) يغلب التغني بالآخر، وذلك ليس نقيصة بقدر ما هي ميزة يشترك فيها الذكر والأنثى على حد سواء فكما يصف الشاعر حبيبته ويناجيها ويتودد إليها كذلك تفعل المرأة،فهي ترسم الآخر على شكل حلم يسع الطبيعة فهو نشوة الوجود وكأن أنوثة المرأة لا تكتمل الا بهذا الآخر، فهو بوصلتها ومدها الذي يلهمها وكونها الأزلي فتسبغ عليه صفة الوفاء(يا صحيب الماكو مثلك بالوفاء/جن سنه فراكك يصير اسبوعي/الروح هاجت من كرب وكت الرحيل/وبيش يحبيب اسكن روعي)

المرأة عندما تكتب شعرا يخاطب الاخر فأنها تقوم بتعرية الذات، وفضح أسرارها امام القارئ، انها ذلك الكائن العجيب الذي لا تنقطع أسراره، وكأنها تتجدد بتجدد الايام،انك تسمع لها وكأنك تسمع حديثها لاول مرة، سواء تغزلت او اشتكت لان حديثها مبطن باسرار، وهذا النوع من الشعر النسوي الذي يدخل في باب البوح يعيد هيمنة الذات في النص الشعري ويضعه في منزلة السيرة الذاتية او ادب اليوميات، فالشاعرة حينما تكتب قصيدة السيرة فأنها تسعى وراء حقيقة لا يمكن إدراكها من خلال النص وإنما يستعان عليها بما ينثال من رؤى وهواجس تتخلل القول الشعري وتترع ساحته بالصور.

فإيمان الخيون بهذه النظرة الكئيبة وبهذه التقريرية تلجأ للكشف عن سأمها وحزنها كامتداد طبيعي لصوت الأنثى المقهور في مجتمع ما زال يمشي على جثث أبناءه،فهي تجعل من قصيدتها انعكاسا لروحها وذكرياتها وسط تراجيدية متفاقمه تختزن الالام العميقة كهاجس تعويضي لفترة معينة مع الاخر قبل رحيله،ومن الواضح ان الشاعرة تعاني الوحدة والانكسار(الروح هاجت من كرب وكت الرحيل) لانها تدرك ان ما بعد الرحيل لا يبقى سوى اثار الحبيب.

فقصيدة(ردت اودعك) خطاب حميمي يعكس الم الفراق وهو سمة بارزة في قصائد(ايمان الخيون) المشغولة بعناية وبتركيز من موهبة كبيرة استطاعت ان تشق طريقها باقتدار على دروب الإبداع الشعري الشعبي النسوي بكل ثقة وبكل إصرار.