18 ديسمبر، 2024 9:04 م

فساد القضاء ومسؤولية كليات الحقوق

فساد القضاء ومسؤولية كليات الحقوق

اينما وليتَ وجهك داخل العراق، إلا وطغى الحديث عن الفساد الذي تعيشه الدولة، والذي يتلظى في أتون جحيمه معظم الناس، خصوصا الفقراء ومن ليس له القدرة على دفع ثمن “الواسطة”. انتشار الفساد في الدولة يعود الى جملة عوامل منها سياسية، تتمثل من خلال تدخل القيادات السياسية والاحزاب في عمل اجهزة الدولة، وعوامل اخرى اجتماعية وثقافية وادارية كانعدام المساواة وضعف الولاء للوطن وقصور المساءلة، والاستغلال الخاطئ للموارد العامة.

اخطر انواع الفساد واكثرها إضرارا على المجتمع والدولة هو الفساد القضائي. ويشهد المواطنون نماذج مخيفة من هذا الفساد حيث تسبب وجوده في فقدان كامل للثقة في مؤسسات الدولة والنظام السياسي ومكوناته بعد ان اصبح مرضا متوطنا فى السلطة القضائية، وادى الى تسمم معظم الأنشطة المدنية والتجارية والعامة به. فعندما تتسم الجهات المسؤولة قانونيا عن حماية حقوق الانشطة المدنية والرسمية بالفساد، تتعطل عمليات الاصلاح السياسي والاقتصادى والتربوي وتؤدي الى استحالة محاربة الفساد فى الاجهزة الحكومية الاخرى.

اني لست بصدد طرح المسائل التي لها علاقة بإصلاح النظام القضائي، لان الكثير من المصلحين قد سبقني لذلك، ولاني لست مؤهلا لكي اتقدم بمقترحات تتعلق بالقانون وبالقضاء، وإنما اريد هنا التأكيد على اهمية دور الجامعة في تدريب الحقوقيين، والالتزام بتحقيق رسالتها في (بناء الانسان وتنمية المجتمع)، وفي نشر الوعي الاخلاقي القانوني حول سيادة القانون، ومكافحة الفساد وتعزيز قيم النزاهة والشفافية، والثقافة المجتمعية الرافضة للفساد بين طلبتها.

من الواضح ان الجامعات لا تلتزم بتحقيق رسالتها كاملة، خصوصا بما يتعلق بتدريب الحقوقيين، فهي تهمل عن قصد او غير قصد، التربية الاخلاقية (Educational Ethics) لطلبتها، وبهذا فإنها لا تهتم ببناء الانسان أكثر من تدريبه مهنيا لكي يمارس مهنته. ولقد وجدت ان احدى كليات القانون تؤكد في رسالتها على تخريج طلاب على علم كامل باخلاقيات المهنة، ولكنه عند مراجعة مناهج الكلية لم اعثر على مادة لاخلاقيات المهنة (Professional Ethics) ، ولا على اي موضوع يتعلق بالتوعية الاكاديمية والقانونية للطلبة بما يتعلق بفساد القضاة والمحامين، ولا بتحصينهم ضد الفساد وتأهيلهم لمكافحته، ولا حتى بدراسة الظاهرة وكأن مهمة الكلية تخريج افواج من الحقوقيين لممارسة المحاماة (لتبرئة موكليهم بغض النظر إن كانوا على حق أو باطل، تماماً كما كان السفسطائيون يدربون تلامذتهم في اليونان القديمة)، ولإشغال المناصب القضائية في “كوكب المريخ”، وليس في بلد ينخر فيه الفساد جسم الدولة والمجتمع، وبغض النظر عن الصلاحية الاخلاقية للطلبة لأداء عملهم الحقوقي واحتمال فسادهم.

المشكلة في التعليم الجامعي يكمن في الانفصام بين رسالة وأهداف الجامعة من جهة، وبين حاجة المجتمع العراقي الى خريجي جامعات يملكون كفاءات اخلاقية بالاضافة الى مهارات التفكير العليا والكفاءة العلمية، والى عدم استطاعة الجامعة من الاستجابة الى التطور (او التخلف) الاجتماعي والاقتصادي والتكنولوجي الحاصل في المجتمع من جهة أخرى. وتعتبر كليات الحقوق مثالا على نوعية التعليم العالي الذي لا يهتم ببناء شخصية الطالب لكي يخوض غمار عالم لا يحترم القانون، مليء بمغريات الفساد

والرشاوى، عالم يتميز بالتعقيد والانفصال بين السلوكيات الاخلاقية والممارسة المهنية. لقد اصبح التعليم معوِقا للتنمية البشرية، ولاعادة بناء الانسان بتخريجه لطلاب لا يستطيعون الصمود امام مغريات الفساد، وبعدم تجاوز “جدار القيم والنزاهة”، ويسقطون في اول امتحان للنزاهة، والامانة، فتضرب القوانين عرض الحائط وتصبح العدالة قيمة تجارية في سوق البيع والشراء.

ولعل كليات الحقوق من اهم الكليات التي يجب ان يكون لها امتحان قبول في الاخلاق، وهو امتحان لاختيار الطلبة على اساس نزاهتهم واحترامهم للقواعد الاخلاقية العامة والقوانين المنظمة لشؤون المجتمع. السبب في هذا الشرط هو، اولا، ان هذه الكلية قبل مجئ البعث الى السلطة كانت الدراسة فيها جيدة وتؤهل الى تخريج نماذج مشرفة يفهمون طبيعة الرسالة التي يقومون بها، اما اليوم فهي تهتم بتخريج اعداد دون البحث عن نوعية الخريج، وثانيا، ان القضاء يتميز عن المهن الاخرى كالطب والهندسة والادارة والاقتصاد، بكونه الأساس في استقرار الدول وبقائها. يذكر (نقلا عن مصادر) انه بعد الحرب العالمية الثانية، ان أعرب أحد مسؤولي حكومة ونستون تشرشل البريطانيه عن قلقه على الوضع الإقتصادي في بلاده، فاستفسر تشرشل مباشرة عن وضع السلك القضائي في البلاد.. فأجابه أحدهم بأن النظام القضائي لم يزل بخير .. فردّ تشرشل على تخوفات المسؤول، بأن بلاده لا زالت بخير طالما السلك القضائي ما زال بخير.

ولما كانت كليات الحقوق مسؤولة على تدريب وتأهيل افراد السلك القضائي من قضاة ومحاميين وضباط شرطة، لذا تكمن هنا اهمية عدم السماح لطلبة غير مؤهلين اخلاقيا ومن غير المتفوقين من دخولها والانخراط بعد التخرج بالعمل القضائي، فيفسدون ويعبثون بما هو اهم واخطر مسلك وظيفي في الدولة. كما ان تدريس مادة اخلاقيات المهنة لطلبة الحقوق لا يعد من الامور غير الجوهرية والثانوية في تدريس الاختصاص في بلد يجتاحه الفساد ولم تعد فيه المواعظ الاخلاقية الدينية قادرة على تحسين سلوك افراده، ويحتاج الى مشروع تربية اخلاقية شاملة. ان الكثيرين قد يشككوا في اهمية تدريس اخلاق المهنة، ولكني اؤكد ان تدريس هذه المادة ضمن خطة عمل شاملة ومنهجية تبدأ من اختيار المقبولين لدراسة الحقوق ستؤدي ثمارها بجعل المناهج الدراسية اكثر ارتباطا بمصالح المجتمع والبلد لانه وبدون تربية اخلاقية للحقوقي يلتزم بها عند قيامه بواجباته، وبدون احترامه لقيم العمل في الاخلاص والنزاهة والانضباط والدقة والحرص، فان اربعة سنوات من التدريب النظري تذهب سدى، فما قيمة تخريج حقوقيين ضليعين في شؤون القانون لشغل مناصب القضاء والمحاماة والإدارات القانونية اذا كان حكم القضاء بالبراءة، او الادانة يعتمد على مبلغ الرشوة وشراء الذمم، وما قيمة حقوق الملكية عندما تنعدم القواعد القانونية وآليات تنفيذ الاحكام وتصبح وسيلة تحويل ملكية العقارات والسلع والخدمات خاضعة الى مقدار الرشوة وليس الى مواد القانون، وما قيمة قرارات البرلمان والدولة اذا كانت قرارات المحاكم تخضع لضغوط القوى السياسية المهيمنة.

خلاصة الرأي، أن يصار الى اعادة النظر في مناهج كليات الحقوق بحيث تبنى، ليس فقط على اساس تلقين المعارف الخاصة بالتأهيل القانوني فحسب، وانما ايضا بتعليم المدونات السلوكية والاخلاقية لممارسة المهنة، وكذلك بتدريب المهارات المتعلقة بممارسة الحكم الصالح، والتصرف بنزاهة في الحياة العامة والمهنية. وان تتضمن المناهج تعلم الاستراتيجيات والتقنيات التي من شأنها ان تساعد الحقوقي في اتخاذ القرارات الصحيحة والمبنية على الشعور العميق بالمسؤولية الشخصية والمجتمعية، واحترام القوانين وذلك عن طريق تعليم مهارات تشخيص ومعالجة وحل القضايا الاخلاقية عند ظهورها في الممارسة، وتعليم الطرق الانسب لاختيار مسارات العمل الاخلاقي لخدمة الموكلين وذوي العلاقة

والمجتمع، ومناقشة القضايا التي تتعلق باخلاقيات مهنة المحاماة والقضاء، والتخلص من اغراءات الفساد، وخلق بيئة طاردة له بالاعتماد على دراسة حالات (Case Study) حقيقية للفساد في مهنة المحاماة والقضاء.