23 ديسمبر، 2024 12:08 ص

فرنسا.. بين العولمة الرأسمالية والهوية الوطنية

فرنسا.. بين العولمة الرأسمالية والهوية الوطنية

هل فرنسا غداً بالفعل على موعد مع القدر؟ يبدو أن ذلك كذلك بالفعل، فالحسم الذي لا بد منه غداً للفرنسيين بين المرشح المستقل
الشاب «إيمانويل ماكرون»، وبين مرشحة الجبهة الوطنية، ذات الميول اليمينية «مارين لوبان»، سوف يتجاوز تأثيره حدود بلاد الغال
إلى بقية أوروبا. لماذا الأوربيون قلقون من نتائج انتخابات الغد؟ الجواب بسهولة ويسر شديدين لأن فرنسا يمكنها إذا ذهبت إلى أقصى
اليمين أن تأخذ أوروبا كلها معها، جهة الشعبويات والقوميات العنصرية، وجميعها رابضة خلف الباب للاتحاد الأوروبي بنوع خاص،
تبغي الفكاك منه، وقد كانت بريطانيا البداية، وحال فوز «لوبان» التي توعدت بانسحاب بلادها من الاتحاد، فإن شهادة الوفاة للوحدة
الأوروبية ستضحي شبه حاضرة.
يذهب رئيس الوزراء الفرنسي «برنار كازنوف»، إلى أن «الاتحاد الأوروبي لن يصمد، إذا وصل اليمين المتطرف للسلطة في فرنسا»،
وللأوربيين مخاوفهم الخاصة من «لوبان»، بسبب رؤيتها التوافقية تجاه روسيا وزعيمها «فلاديمير بوتين». غداً الأحد يجد الفرنسيون
أنفسهم أمام اختيار صعب، ذلك أن «إيمانويل ماكرون» يمثل المنتج التقليدي لرجالات النخبة الفرنسية، عبر التعليم العالي الذي
حصل عليه في أعلى معاهد الإدارة الفرنسية، التي تُخرج قادة البلاد. وفي الوقت ذاته تنافسه سيدة لها حضور وكاريزما وقد عملت
جاهدة للخلاص من إرث أبيها العنصري السابق، واستطاعت تقديم ذاتها في ثوب مغاير، لذاك الذي ارتدته في منافسات انتخابية
سابقة، مما وسع من قاعدتها الشعبية، وعزز من فرصها، وإلا لما كانت قد وصلت إلى جولة الإعادة. السؤال المطروح بقوة في هذه
الساعات العصيبة على الفرنسيين خاصة والأوروبيين عامة… هل فوز ماكرون مضمون وخسارة لوبان مؤكدة أم أن العكس وارد؟
أكثر ما يقلق الفرنسيين في الساعات الأخيرة تلك التصريحات التي جرت على لسان «ماكرون» نفسه بأن (لا شيء محسوم، وأن
الأبواب والاحتمالات مفتوحة وكذا واردة على كل السيناريوهات والمفآجات).
هذا التصريح يأخذ في عين الاعتبار «التجربة الانتخابية الأميركية» الأخيرة، فقد كان ترشح «دونالد ترامب»، نوعاً من الكوميديا
السوداء، تحولت إلى حقيقة على الأرض، إذ لم يكن أحد يتوقع أن «هيلاري» ذات الرصيد السياسي الكبير، سوف تخسر أمام رجل
أعمال ليس على العمل السياسي.
أفضل الأصوات التي تناولت إشكالية الحسم من جانب «لوبان» مستشارها ذا الأصول المصرية، الفرنسي الجنسية، «جان مسيحة»،
الذي اعتبر أنه لا أحد يمكنه الزعم بأن أصوات الناخبين ملكه، لأن هناك شيئاً انكسر بين الشعب والطبقة الحاكمة. من سيرجح الكفة
لصالح ماكرون أو لوبان إذن؟ قطعاً «المزاج الانتخابي» للناخبين الفرنسيين، وقد عرفت الشخصية الفرنسية بالعلمانية الحادة، بل
الجافة على حد تعبير المفكر اليساري الفرنسي الكبير «ريجيس دوبرييه»، رغم الجذور الكاثوليكية لفرنسا، التي اعتبرتها المؤسسة
الرومانية الكاثوليكية دائماً وأبداً «الابنة البكر»، وقد وصفها البابوات مؤخراً بأنها «لم تعد أمينة» على العهد والثقة. على أن تطورات
المشهد الراديكالي في الأعوام الأخيرة، عطفاً على موجات المهاجرين من العالمين العربي والإسلامي، ناهيك عن العمليات الإرهابية
المتتالية التي ضربت باريس وعدداً من كبريات المدن الفرنسية، تركت ولا شك أثراً في النفوس، وأحيت أصداء صراعات تاريخية،
دفعت البعض من أنصار اليمين المتطرف لدعوة «شارل مارتل» للاستيقاظ من قبره، حيث يرقد منذ زمن الفتوحات الإسلامية لأوروبا.
تخبرنا نتائج الجولة الأولى التي جرت قبل أسبوعين أن نحو 55% من كاثوليك فرنسا المتدينين وغير المتدينين على حد سواء قد
صوتوا لصالح المرشح اليميني المعتدل «فرانسوا فيون»، والذي حاز على نحو 20% من أصوات الناخبين الفرنسيين. علامة الاستفهام
الحيوية هنا هل سيمضي هؤلاء في طريق التصويت لـ«لوبان» أم لـ«ماكرون»؟
قطعاً إذا حسمت هذه الكتلة ذات المسحة الدوجمائية خيارها لصالح واحد من الاثنين، ستكون النتيجة قد حسمت بالفعل، وهو ما لا
توجد استطلاعات رأي حتى الساعة قادرة على أن تحسمه، بالضبط كما فشلت مراكز الاستطلاعات الأميركية في فهم نوايا «الكتلة
الأميركية الصامتة» التي صوتت لصالح ترامب وأسقطت بالفعل هيلاري كلينتون. هل ماكرون جيد إلى هذا الحد ومارين لوبان سيئة
على ذلك النحو؟
من السذاجة السياسية الاعتقاد بذلك، ففي حاضرات أيامنا أضحى للون الرمادي درجات، خلفتها مرحلة الصراع بين العولمة القديمة
الليبرالية الرأسمالية، التي يمثلها ماكرون بكل تأكيد وتحديد، وبين المشروع القومي الشعبوي، الذي أعاد للأذهان فكرة الهوية الوطنية
التي كادت تذوب في المجتمعات المعولمة، وذكرت الجميع بالحدود الجغرافية والأثينية، وبالمقدرات السياسية للسيادة والهيمنة على
الأرض والاقتصاد والمال، وهذه تمثلها «لوبان» بامتياز، ويتكاثر أنصارها يوماً تلو الآخر.
هل يمكن لـ«ماكرون» أن يهزم «لوبان»، كما هزم جاك شيراك عام 2002 والدها «جان ماري لوبان» في الدورة الثانية؟ ليس شرطاً أن
يكرر التاريخ نفسه، وهذا مبعث حماس المراقبين للمشهد الفرنسي غداً.
انتخاب «ماكرون» سيعزز من السياسات الخارجية التقليدية لفرنسا، وسيوقف تدهور أحوال الاتحاد الأوروبي، فيما سيكون انتخاب
لوبان، زلزالاً سياسياً خطيراً، سيكون الشرق الأوسط والعالم العربي غير بعيد عن ارتداداته، فأوروبا الجار الأقرب والصديق الأكبر
للعرب والمسلمين، وإن حاول البعض قطع هذا الطريق، وعليه فأغلب الظن أن متابعة هذه الانتخابات وتحليل سيرتها ومسيرتها أمر لا
بد منه عربياً.. فانظر ماذا ترى؟
* نقلا عن “الاتحاد”