في كتابه “جوهر الفلسفة” يشير الفيلسوف الألماني “فيلهلم دلتاي” إلى ضرورة “ردم الهوة بين الذات والموضوع ـ وأن لا يكون “المنهج” من حيث جوهر القضية قابلاً للتأويل والاحتمالات”.
في ظل احتدام الصراعات الحزبية واستمرار التجاذبات السياسية بالاتجاه المعاكس لما هو منشود، بالنسبة للمتظاهرين الذين يهمهم بالأساس، الكشف عن قتلة المتظاهرين وتقديمهم للعدالة، كمؤشر لامتحان مصداقية مؤسسات الدولة، التنفيذية والقضائية والتشريعية، وجهوزيتها لتحقيق مطالبهم الأخرى ومنها إقرار قانون الانتخابات وتشريع قانون الاحزاب وإعادة تشكيل مفوضية الانتخابات وحصر السلاح بيد الدولة. فالانتخابات ان كانت مبكرة أو متأخرة لاجل غير مسمى، لم تعد لاعتبارات محقة، أمرا حكيماً اذا لم تتحقق المطالب. وليس أمام المتظاهرين والقوى المدنية التي تنشد التغيير وتسعى اليه، من الناحية المنطقية والموضوعية، إلا اللجوء الى احتمالات مقاطعة الانتخابات على أرض الواقع والذهاب الى المؤسسات الدولية المعنية في مثل هكذا امور للاستعداد لعدم الاعتراف بنتائجها وقطع الطريق امام الاحزاب الطائفية من الاستمرار في الحكم. أيضا الضغط على رئيس الوزراء، ان كان جادا بتنفيذ شعاره الذي ما برح يردده: بأنه “رجل أفعال وليس أقوال”، أن يمارس صلاحياته الدستورية ومنها حل مجلس النواب واعلان حكومة انقاذ وطني لمعالجة الازمات المتراكمة ومواجهة التحديات التي تغذيها ميليشيات الاحزاب والعصابات الاجرامية الموالية لايران وولاية الفقيه.
ينظر القانون الدولي، للدولة، في البلدان المتقدمة: أجهزتها، شعبها، مناطقها، اشكالها، بانها مجموعة أسس ـ يرتبط بموجبها الناس بعضهم ببعض لحماية مصالحهم المشتركة. في شأن ذلك، يُعتمد على وجه التحديد، وفقا لعقيدة العناصر الثلاثة ـ الدولة والشعب والسلطة، على أهم الوقائع والمعايير الانتخابية، لضمان التوازنات المتبادلة بين الحقوق والواجبات داخل المنظومة البرلمانية وخارجها، للمشاركة في الإرادة السياسية للشعب وتحريك الرأي العام وتشجيع المواطنين على العمل في الحياة السياسية وحرية إشراك القادرين منهم على تحمل المسؤولية العامة. بيد ان ذلك من جانب آخر، يتطلب يقظة القوى المجتمعية الفاعلة مراقبة اجراءات اللجان العليا للانتخابات قبل وأثناء الانتخابات. واذا لم تشعر، اي تلك القوى، بالارتياح والطمأنينة، فمن حقها اذا ما ارادت، طلب اشراف دولي لضمان نزاهة الانتخابات وإبعادها عن التزوير وتهديد السلاح المنتشر لدى فرق الموت التابعة لميليشيات احزاب السلطة، وهو وفق السياقات الموضوعية والذاتية واحكام القانون الدولي حق مشروع ، وهناك أمثلة كثيرة كان للمنظمات الدولية دورا هاما تلعبه.
لكن دعنا نتساءل ببساطة: ما هو الدور الايجابي غير التسويف، للأحزاب الحاكمة في العراق فيما يتعلق الامر بالنهضة وبناء الدولة المدنية الحديثة لاكثر من ثمانية عشر عاما عجاف ـ كي نصدق وعودها ؟. وكيف لنا ان نثق بها؟، لنحكم بينها وبين قراءة الاحداث السياسية والبنيوية المصيرية وما يحيطها من إشكاليات خطيرة هي سبب حدوثها أصلا؟.
في دولة المؤسسات في البلدان الديمقراطية، الأحزاب، مهمتها الاساسية: تمثيل المصالح الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للشعب. لكي يتمكنوا ممثليها في المجالس التشريعية من أداء هذه المهمة، يتمتعون تبعاً للقواعد العامة خلال عملهم في السلطة بحقوق والتزامات خاصة لكنها تخضع للمراقبة الفعلية. ووفقا لاحكام “قانون الأحزاب”، فانها تعتبر من الجماعات المجتمعية التي تؤثر بشكل دائم أو لفترة محددة على صنع القرار السياسي وتمثيل الشعب في “البرلمان”. بيد ان حرية تأسيس الأحزاب بالإضافة إلى حرية الحزب فيما يتعلق بأهدافه وبرنامجه ونشاط أعضائه في سياق العمل الحزبي ـ لا يجوز تبرير أعمال إجرامية بذريعة حرية النشاط الحزبي. فيما يحظر “القانون” في الدولة المدنية إجازة “الاحزاب” التي لها أذرع مسلحة ولا يسمح بمشاركتها في الانتخابات. كما يطالبها بيان مواردها المالية قانونياً، كيف ومن أين؟ كذلك طبيعة عملها وأماكنها المحددة وعدد أعضاءها. والاهم اعترافها بالقانون الاساسي للدولة “الدستور” وتقديم تعهداً ملزم لصيانة بمبادئه الاساسية حصرا.. في بلد كالعراق الامر مختلف، فالطبقة السياسية المتربعة على السلطة، تحميها ميليشيات، غير مكنرثة بالمباديء والقيّم، ولا معرفة في علم السياسة وإدارة الدولة المعاصرة!.
ان سياسة الهروب الى الوراء فيما يتعلق الامر بالتغيير والاصلاح في منظومة الحكم بالطريقة التي تمارسها احزاب السلطة لا جدوى منها على الاطلاق. وسياسة مسك العصى من الوسط ، الذي تمارسه أحزاب ايديولوجية ـ شعبوية خارج السلطة تجاه “النظام السياسي”، يشكل تداعيات سياسية ومصيرية خطيرة، غير مألوفة، تمس القضايا التي يتطلع لها الشعب العراقي بالصميم. كما ويترك أثرا سلبيا بالغا على المواطن ورغبته في المشاركة في الثورة لصناعة قرار التغيير، وبالتالي عدم استطاعة الانتفاضة من قلب الطاولة وانتاج خيارات جديدة لمواجهة التحديات المركبة والمربكة الناتجة عن ألاعيب قوى سياسية واحزاب ركبت موجة الثورة خوفا على مصالحها. ولعل أهم اساليب مواجهة هذه التحديات، لفرض ارادته، على الحراك المجتمعي رفض “العملية السياسية” برمتها، ومقاطعة الانتخابات ان لم تتحقق المطاليب. وعلى قوى الثورة وتنسيقياتها، يستوجب أيضا، تأسيس مساحة كافية لدراسة “طبيعة الأحزاب” على الساحة بالمجمل. وتقييم “مفهوم الانتخابات” في ظل نظام حكم طائفي لا يضع أهمية للانتماء والهوية الوطنية الذي تشكل الانتخابات أساسا لها، ليصبح بمقدورها صياغة البديل السياسي المنشود لنظام الحكم، والخروج من نظام المحاصصة الطائفية وعهدة احزاب فاشلة لا وزن لها في المعادلة السياسية منذ 2003 ، سوى تسويق نفسها في حلبة الصراع لاجل مصالح فئوية وحزبية ضيقة.