22 نوفمبر، 2024 2:37 م
Search
Close this search box.

فرص الثورة والتغيير/ 2

فرص الثورة والتغيير/ 2

الكثير من العراقيين، في داخل الوطن وخارجه، يستغربون كثيرا من سكوت الشعب وقبوله المستمر للاهانة ولسلب الكرامة والحقوق، وبتنا نسمع احيانا مع كل تفجير وكارثة تحل بنا، او مع اي معلومة صادمة عن فساد لايمكن لاي مجتمع القبول به واحتماله، عبارات اللوم والذم للشعب ، ثم تحول الامر في شبكات التواصل الاجتماعي الى عبارات التعنيف والتقريع معيبين عليه صمته وانتخابه هؤلاء الفاسدين المجرمين، ويصفونه احيانا بالمشارك في جريمة تدمير العراق وانه يستحق كل ما يحصل له بسبب ذهابه للانتخابات، ولعل اللافت في الامر، ان اغلب اللائمين والمستغربين هم جزء من حالة السكوت على الظلم او انتخاب الفاسدين، ولعل في موقف الصدريين خير دليل على ذلك، فهم الذين انتخبوا ممثليهم الفاسدين وهم الذين يتظاهرون ضد الفساد، ومع ذلك فمسألة الانتخاب هي ليست جريمة حتى يعاقب الشعب عليها، وليست خطأ حتى نؤخذ بوزره، والادهى من ذلك اننا حتى لو لم ننتخب احدا فان ذلك لن يغير في الامر شيئا، ولعل الانتخابات القادمة ستعطي دليلا على ما نقول اذا لم تتغير قواعد اللعبة ويتغير المزاج العام الى الحد الذي يمكنه من إحداث ثورة بيضاء وهو احتمال قائم رغم ضعف فرصته..
لعل المراقبين والمحللين يدركون ان وضع العراق معقد الى درجة تعقيد الحلول ذاتها، وفي بعض الاحيان حين نحاول قراءة المشهد السياسي والاجتماعي نجد انفسنا  وكأننا ننظر الى وطن لم يعد فيه مواطن، بل مكونات لكل منها أهداف واتجاهات مختلفة عن الاخر، والاصعب من اختلاف الاهداف والاتجاهات والميول هو فقدان الثقة بين المكونات، ثم النزاعات داخل المكون الواحد سواء كانت نزاعات سياسية ام اجتماعية عشائرية، فالشيعة منقسمون فيما بينهم كما هم السنة وكذلك الاكراد، ولم يعد بامكاننا الحديث عن مواطنين منسجمين في الاهداف والتطلعات بينما هم يعانون نفس التحديات والمعاناة، وهم لايدركون انهم انما يواجهون مصيرا واحدا مشتركا سواء كان نحو الوحدة والتقدم، او نحو الانقسام والتخلف والتردي المتواصل..ومع ذلك فان البحث عن الحلول لم ولن يتوقف رغم ذلك التعقيد، غير ان الشعب وقواه الطليعية لم يجدا بعد الفرصة الممكنة للتغيير، وبرايي المتواضع ان فرص وامكانية الثورة تكاد تكون شبه معدومة في الوقت الحاضر والمستقبل القريب، ورغم ان الشعب يتظاهر ويحتج لاكثر من عام مضى الا انه مازال بعيدا عن فرصة التأثير والتغيير بسبب سيره على طريق خاطيء، فمحاربة الفساد والدعوة الى الاصلاح لايمكن تحقيقهما من قبل الفاسدين انفسهم اولا وثانيا لانهما ليسا اساس المشكلة، وانما هما نتاج عملية ونظام سياسي صمم ليحطم اهم روابط الشعب وهي هويته الموحدة وروحه الوطنية الوثابة، ودفع بذلك مكونات الشعب الى اللجوء الى القوى الخارجية في صراعها الداخلي، وهكذا وجد الشيعة انفسهم في احضان ايران واندفع السنة الى احضان السعودية والخليج وتركيا، فيما حافظ الاكراد على روابطهم التاريخية في التعاون والعمالة مع كل من يسعى لتدمير البلاد، ليتحول العراق فيما بعد الى ساحة لصراع عقائدي اختلط فيه الدين والارهاب مع المصالح الاقليمية والدولية..
 لقد صمم النظام السياسي لابقاء العراق في حالة شلل وموت سريري، وهي حالة شبيهة تماما بوضع لبنان الذي بعد اكثر من ثلاثة عقود مازال يعيش ازمات الفساد المتكررة، وفشل الادارة الحكومية المشلولة تماما، والاحتراب السياسي والطائفي والتدخل الاقليمي والدولي، الى حد ان قواه السياسية لم تتمكن من اختيار رئيس للجمهورية منذ اكثر من سنتين، ورغم ان المواطن اللبناني غاضب على قواه السياسية ومحتج على الفساد كما هو حال المواطن العراقي،  الا انه يكرر انتخاب ذات الشخصيات في كل مرة تماما مثلما سيحدث في العراق مستقبلا بسبب نمو التعصب الطائفي واحتدام الصراع المذهبي خاصة في اوقات الانتخابات مما يدفع المواطن الى القلق من الاخر والشعور بالتهديد، ومن ثم القبول بالوجوه التي سيعتقد حينها انها قادرة على حمايته او حماية مذهبه وطائفته مع فقدانه الثقة بالوجوه الجديدة التي قد تتخذ من الوحدة والهوية الوطنية شعارات لها، تماما مثلما حصل مع التيار المدني في العراق في الانتخابات الماضية الذي  اضطر لاحقا الى الرضوخ والذوبان في واقع الفساد وفقدان هويته الانتخابية.. 
ومع تاكيدنا على صعوبة وتعقيد وربما استحالة الحلول للوضع في العراق، فان ذلك لايعني عدم امكانية التغيير، فدوام الحال من المحال كما يقال، ولكن علينا ان ننظر الى التفاصيل والحقائق القائمة بدقة كي نتمكن من معرفة الفرص المتاحة امامنا، واولى تلك الحقائق واهمها واغربها على صعيد التاريخ السياسي ان ارادة التغيير لم تعد بيد الشعب العراقي على الاطلاق، كونه لم يعد شعبا موحدا ومتماسكا والامر يشمل مثقفيه وطليعته ان وجدت، وما يقوم به الصدريون من احتجاجات ومظاهرات ومطالبات ليست سوى تحركات ضمن لعبة الصراع بين القوى الشيعية على مراكز السلطة والثروة واستعراض القوة، ومقتدى الصدر حتى وان صدق في نواياه، لايمكنه في افضل الاحول ان يمثل اغلبية الوسط الشيعي المنقسم بين ولاءات داخلية متعددة وخارجية متعددة ايضا، وايضا لايمكنه باي شكل من الاشكال ان يكون طليعة لهذا الشعب، فهو جزء من حالة الفساد والصراع الطائفي، ولا يمتلك من الوعي السياسي وادواته ما يؤهله لذلك..
 والحقيقة الثانية، ان وجود قوى الاحتلال الاميركي والايراني والتدخل الاقليمي وسطوة رجال الدين، وتنامي عدد الميليشيات واتساع سطوتها ونمو قدراتها وامتلاكها للسلاح المتوسط والثقيل وتعدد مراكز القوة والقرار، يمنع تماما اية فرصة (ان وجدت اصلا) للقوات المسلحة ولبعض ضباط الجيش للقيام بانقلاب عسكري وتولي شؤون البلاد وتغيير احوالها، كما كان يحصل وحصل سابقا في العراق او غيره من البلدان، فقد جرى حل الجيش واعادة بنائه وفق اسس الولاءات الحزبية والطائفية، والحرص على اضعاف قدراته وكفاءة منتسبيه، في نفس الوقت الذي سمحت للعصابات والميليشيات بالتمدد والتوسع على حسابه، ومن ثم اهانته من خلال تدمير نظامه وانضباطه، ومنح الرتب والاركان والمناصب القيادية والمهمة لكل من هب ودب بهدف جعله اضحوكة امام الشعب، وتغيير صورته التي كان عليها وهي ( الجيش مدرسة وتاج الشعب) كما كان يطلق عليه سابقا، فلم يعد هناك نظام واضح للجندية العراقية واصبح بامكان اي سيد في اي قرية، ان يمنح رتبا عليا لمريديه، بل ان بعض الرتب العسكرية والمناصب تمنح في قم وطهران دون الرجوع الى مايسمى بالقيادة العراقية، وبذلك افقدوا الشعب مثله وقدوته العليا، وطوق النجاة الذي كان يمثله الجيش والقوات المسلحة والامنية..
والحقيقة الثالثة هي عمل قوى الاحتلال على اشاعة روح الفوضى وانتهاك القانون والدستور واضعاف دور القضاء وتسييسه وجعله ستارا للفاسدين واللصوص والقتلة والارهاب احيانا، وفسح المجال لانتشار العصابات المنظمة، واشاعة جو من الرعب والخوف لم يشهد العراق له مثيلا، مع تنامي النظام العشائري وقوانينه وسطوته التي اصبحت بالترافق مع سطوة رجال الدين فوق القوانين الرسمية، بهدف الهاء المواطن عن حقوقه الاساسية في الحياة الحرة الكريمة وسعيه الحثيث طلبا للامان فقط مقابل التنازل عن الحقوق الاخرى. أما الحقيقة الرابعة فهي عمل قوى الاحتلال وبالتعاون مع رجال الدين على تدمير الارث الحضاري والعقائدي وكذلك الاعراف والتقاليد الاجتماعية والمزاج النفسي العراقي، فهذا المواطن الذي كان يفخر بتاريخه وحضاراته العميقة في اصولها وتاثيرها على بني البشر، وجدها منهوبة مسلوبة في لحظة من الزمن دون ان يكون بامكانه ان يقوم باي ردة فعل، حتى ان نصره الكبير والعظيم في ثمانينيات القرن الماضي على ايران اصبح في طي النسيان وكأن ذكره والاحتفال به جريمة كبرى ليس ضد الانسانية بل ضد الدين ايضا، في نفس الوقت الذي عملت فيه ايران على الاخذ بثأرها والضحك على عقول العراقيين والظهور بمظهر الحامي والمدافع عن العراق وارضه وشعبه، وبات العراقي الان يشعر انه وسط مجتمع جديد متخلف ومختلف في اخلاقه واعرافه مع تصاعد البطالة وانتشار الجريمة الاجتماعية والمنظمة وتجارة وتداول المخدرات، وشيوع مظاهر الشعوذة والسحر والدجل التي حولت العراقي من كيان فاعل ومنتج الى متكاسل واتكالي ينتظر من الغيب تغيير أحواله بدل النضال والسعي الحثيث والجاد للمحافظة على كرامته وحقوقه وحريته، ولم يعد مهتما بدمائه التي تسيل في الشوارع والاسواق يوميا، كما لم تعد تهزه اخبار المليارات المنهوبة من امواله واموال اجياله، وخلاصة هذا كان ان فقد العراقي ثقته بنفسه وبطاقته وبامكانياته.. 
امام هذه الصورة السوداوية لشعب كان يعتز بامجاده، وبشجاعة رجاله وتضحياتهم، وبميوله القومية التي دفعته للمشاركة بالحروب العربية ضد اسرائيل والتغني ببطولات جيشه فيها، والذي تحول فجأة الى ناقم على فلسطين وعلى كل ما يمت بصلة للعرب، ليس بامكان اي باحث ان يتحدث عن امكانية الثورة والتغيير، غير اننا لا يمكن ان نقطع اليقين امام شعب كان في يوم 7 شباط عام 1963 يصف عبد الكريم قاسم بالبطل والزعيم الاوحد وفي اليوم التالي يصفه بالدكتاتور والشعوبي، وفي اذار 2003 كان يوقع وثائق العهود بالدم النقي الزكي لصدام حسين وفي نيسان يقبل ايادي الخونة والعملاء ويصف بعضهم بمختار العصر والقائد المفدى، فالشعب العراقي ربما هو الاسرع بين الشعوب، في تغير مزاجه من اقصى اليمين الى اقصى اليسار، فهو ابن الطبيعة المتشددة في تناقضاتها، بين صيف حار حارق وشتاء بارد بقساوة، فلا ربيع ولا خريف في العراق مطلقا..
اذن ماهي افاق وفرص التغيير الممكنة في العراق؟.. 
لاينكر احد ان ما جرى في العراق قد اثر تاثيرا مباشرا على المنطقة باسرها، واخل بشكل ملحوظ في التوازن الاقليمي فيها واطلق الصراع الطائفي على اوسع ما يمكن تصوره في المنطقة، ومن ثم ليمتد الى الكثير من الدول المسلمة ممتزجا بالحرب على الارهاب، وهذه الصورة تقودنا اساسا الى سعي اميركا بعد احتلال العراق مباشرة الى تحويله لمنطقة صراع بينها وبين قوى الارهاب، ثم حولته الى صراع اسلامي اسلامي من خلال اطلاق يد ايران في العراق وسوريا واثارة النزاعات بينها وبين السعودية والخليج، ولذلك فان اي تغيير في العراق يعني اساسا ان هناك تغييرا في المنطقة كلها، وذلك التغيير ليس بالضرورة تغييرا في الانظمة ولكنه يمكن ان يكون تغيرا في السياسات والاهداف، ففي العراق لا يمكن مطلقا تصور ظهور قيادات حاكمة يمكنها ان تتخذ موقفا جديا وصارما ازاء التدخل الايراني والسعودي والتركي مالم يكن هناك دعما اميريكيا لها، وهذا يعني ان هناك تغيرا في السياسة الاميريكية في المنطقة، وايضا لايمكن ان نتصور ظهور قيادة يمكنها قطع يد الميليشيات والسيطرة عليها مالم تكف ايران عن دعمها لها، وهذا ايضا يعني وجود تغير في السياسة الاميريكية في المنطقة التي تدعم حاليا اعمال العصابات والميليشيات لادامة الصراع وتنفيذ اهدافها الخاصة، ولذلك قلنا في البداية ان ارادة التغيير قد خرجت مطلقا ونهائيا من يد الشعب العراقي وان ارادة التغيير الحقيقية الان هي بيد قوى الاحتلال الاميريكي ومن خلال تصورها الشامل لامن واستقرار المنطقة بما فيها سوريا وايران والخليج، ولكن هذا لا يعني ان على الشعب السكوت والصمت وانتظار العم سام ودول الجوار لتغيير سياساتها، بل عليه الضغط وبشدة وباية اساليب لدفع قوى الاحتلال لاتخاذ قرار التغيير واعادة الامور الى نصابها الصحيح ومنح الشعب العراقي سلطته الحقيقية وحقوقه الانسانية المسلوبة.. 

أحدث المقالات