18 ديسمبر، 2024 5:02 م

من رواية قنابل الثقوب السوداء
لم يجد كاجيتا فرصة سانحة أفضل من هذا الوقت الذي يقبع فيه فهمان في المستشفى ما بين الحياة والموت لا حول له ولا قوة.
لذلك هب منتفضا وتواصل مع فريق عمله -آنذاك، كل واحد منهم يقيم في حجرة منفصلة من حجرات المصادم الكائنة فوقه- ليستنفرهم على التأهب لخوض التجارب على المصادم FFC-2 . فلما تلاقوا داخل المصادم وهم على أهبة الاستعداد نهض منهم ناكامورا -وهو أبرز أعضاء فريقه- وقال: «نفسي فداء لليابان، ولن أترك حق بني وطني ولو مر عليه ألف عام، فإن لم أستطع الثأر ففي ظهري نسمات تخرج منه تعرف كيف تثأر لأجدادهم.»
قال كاجيتا في نفسه: لم أخش على مستقبل اليابان أكثر منك يا ناكامورا، فأنا أعرف حجم تطلعاتك التي كادت تلامس السحاب.
واصطفوا صفا، وكاجيتا واقف أمامهم، وطفقوا يزفرون ويشهقون بأريحية تامة؛ بينما خبراء الفيزياء يرمقونهم عن كثب.
ولج كاجيتا باب المصادم الرئيس، استقر في مكان ما وأمر كل واحد من فريقه بالوقوف في مكان مناسب.
وفجأة جاء واحد يبدو أنه مصري وقال: «سيدي كاجيتا، رئيسك يخبرك أن المصادم ملغم بأفراد المخابرات المصرية والأمريكية والروسية والموساد، فضلا عن أن هذه الدول أرسلت فيزيائيهم أيضا ليسلطوا أنظارهم عليك. يقول لك خذ حذرك.»
قال كاجيتا له: «اذهب أنت، فإن كاجيتا لا يعجزه شيء، لا في مكاننا هذا ولا من يسكنون خلف ثقب سحابة أورط.»
وظل يسترق النظر فيمن حوله، وقال همسا وهو يتأفف: تبا للخيانة والعمالة، كيف يخون هذا المصري وطنه من أجل حفنة دولارات! يبدو أن رئيس وزرائنا أغراه من أجل بناء إمبراطوريته الكبرى، عامة لا شأن لي بهذا الأمر؛ فشأني هو ثأر أجدادي.
صمت لحظة ثم عاود وقال همسا وهو ينظر إلى الخبراء الذين ينتظرونه لإجراء التجارب: سأعرف كيف أجعلكم تفرون من الصياد أيها الهداهيد، لكن في الوقت المناسب، أنتم بالنسبة لي كالذباب إلا فهمان الذي يصارع الموت.
توقف فجأة عن الهمس وتسمر مكانه وهو ينظر تارة تلقاء مدخل المصادم الرئيس مع أنه لا يراه، وتارة أخرى إلى صحيفة ملقاة على الأرض. ذهبت الدماء من وجهه، بعد لحظات قال همسا: «جاك.»
ورفع صوته بها شيئا فشيئا حتى وصل حد الصراخ الذي ينم عن الغضب الممزوج بالخوف.
والسبب أنه قرأ في الصحيفة خبرا يقول: فهمان المصري بين الحياة والموت، فهل يدركه جاك الأمريكي قبل أن يودع الحياة؟»
وأسفل الخبر لم يكن ظاهرا بسبب وجود صحيفة أخرى تغشاه.
فدهش الحاضرون حتى إنهم نظروا تلقاء ما ينظر كاجيتا ما بين النظر في الصحيفة ووجهة الباب.
فأقبل إليهم واحد من جهة ما ينظرون لكن وجهة الباب فقط، نظر إليه ناكامورا بحنق وهو يتمتم وجسده يرتعش: «جاك، لماذا جئت هنا؟»
فانتفض جسد كاجيتا، وهو إذ ذاك كان يركز نظره على العنوان المخط في الصحيفة، أما بقية الحاضرين فقد ألجمتهم الدهشة بسبب رعب كاجيتا وتفجع ناكامورا بدون سبب.
أقبل كاجيتا على الصحيفة، ورفعها من الأرض، ونظر أسفل الخبر وقرأ فيما قرأ أن جاك سيصل مصر خلال 24 ساعة.
فتنفس الصعداء ولاسيما بعد أن سمع -دون أن يرى- الحاضرين وهم يرحبون بالخبير الذي ظنه ناكامورا أنه جاك، وكان يقول في نفسه قبل لحظات من الترحيب: لو أدركني جاك وأنا هنا فلن أستطيع أن أصنع قنابل الثقوب السوداء.
أقدم عليه ناكامورا وهمس في إحدى أذنيه: «سيدي كاجيتا، هل يعلمون بأمر الثقوب السوداء؟»
أجابه بصوت لا يسمعه إلا هو بعد أن ازدرد ريقه بصعوبة بالغة منذ لحظات: «لا أظن أن أحدا يعلم بالأمر إلا الرئيس مهدي وجاك، لذلك أرسل مخابراته وعلماءه من أجل القبض عليّ حال الوصول إلى شيء، أما المخابرات الأمريكية أولئك الأنجاس فقد جاءوا ليحموني.»
قال كاجيتا وهو ينظر إلي فريقه: «هيا إلى موضع إجراء تجارب التصادمات.»
قال أحد أفراد فريقه: «سيدي، نعمل أمامهم فيفتضح أمرنا، ألم تقل منذ قليل بأنهم هداهيد ويجب أن يفروا مذعورين؟»
أجابه: «يا أبله، إن أمرنا مفضوح من مشارق الأرض حتى مغاربها، وما حان الوقت لتفر تلك الهداهيد مذعورة.»
التجربة الأولى لكاجيتا:
انضم أكبر خبراء الفيزياء النظرية إلى كاجيتا وفريقه لرصد تحليلات كاجيتا.
دُفع بحزمتي البروتونات من المسرع ليناك (4)، وتصادمتْ كالعادة بعد عشرين دقيقة من تسارعها في مجريي أنبوبي المصادم، ورصدتْ الكواشف المتطورة تفكْك البروتونات من كواركات وبوزونات وبقيّة الجسيمات المتحللة قبل أن تلتحم مرّة أخرى في جسيمات مستقرة.
وأُرسلت البيانات عبر شبكة الحوسبة إلى معظم أنحاء العالم، وقام كاجيتا بنفسه من تحليل بيانات المصادم على أهمّ الكواشف المتطورة من بينها أطلس ومتعقّب الألياف الضوئية SciFi.
التف الخبراء حول كاجيتا عند إقباله على رصد بيانات المجسات، قال كاجيتا: «هذه جسيمات جديدة يا سادة لم تُكتشف من قبل بفضل طاقة المصادم الخرافية (500 تيرا إلكترون فولت، والمصادم الحالي في سرن لا يمكنه استخدام عُشر معشار هذه الطاقة) ويجب علينا دراستها وتحديد كامل خواصها الفيزيائية والكيميائية.»
قال أبرز الخبراء له: «أكثر هذه الجسيمات رصدها فهمان من قبل ونحن عاكفون على تحليلها منذ هذا الحين.»
حدق كاجيتا به وقال ممتعضا: «ولماذا لم يحللها هو؟ أيها البلهاء، كاجيتا ليس كفهمان ذلك الغر المغرور.»
أظهروا ملامح الامتعاض من قوله بسبب إنكارهم لأقواله.
كره كاجيتا ما رمقه في وجوههم، صمت لحظات ثم قال: «دعونا من تلك الجسيمات، كل ما يعنينا منها هو إن كان الجرافيتون منها أم لا.»
قال أحد الخبراء: «فهمان رصده من قبل، لكنه لم يشأ أن يمسكه.»
قال كاجيتا منتفخا كالطاووس: «قل لم يعرف طريقة لأسره، وأنا سأسترقه.»
ثم ما لبث أن عزم على إجراء خوارزميات متعددة ليصل إلى الجرافيتون.
وبتطبيقها تـأكد من وجود الجرافيتونات من خلال إحصائه قبل هروبها.
قال كاجيتا: «الآن يا ناكامورا تأكدت أنه كان في التجربة السابقة، ذاك الملعون الذي حيّر خبراء الفيزياء منذ عقود طوال.»
حدق الخبراء به، قال أحدهم: «هل لنا أن تخبرنا كيف طبقت هذه الخوارزميات؟»
قال كاجيتا بامتعاض وهو يمكر بهم: «سأخبركم فيما بعد، لكن اعلموا أن الجسيمات كلّها بلا استثناء تتحلّل من نتيجة ارتطامات البروتونات ثمّ تستقر بعد ذلك بتجميع نفسها من جديد إلّا الجرافيتون، فالجرافيتون يتحلل من البروتون لكنّه لا يتجمع في جسيمات مستقرة أخرى، بل يهرب من غشائنا الكونيّ ليدخل غشاءً آخر له أبعاد وسمات أخرى.»
انفجر ناكامورا من الضحك بعد أن حاول أن يسيطر على نفسه مرارا فلم يستطع.
نظروا إليه جميعا وعلى وجوههم علامات الاستياء.
قطع أحد الخبراء الضحك على ناكامورا بسؤال: «يا كاجيتا نسألك عن الخوازمية ولا نسألك عما أخبرتنا به لأنه معلوم بالبداهة.»
وأفراد المخابرات يتابعون من بعيد، بل إن أحد أفراد المخابرات المصرية اندس بين الخبراء لكنه لم يفقه شيئا من الحوار الدائر.
قال كاجيتا لهم بامتعاض: «ما حاجاتكم للخوارزمية، إنها أسلوب نظري، الآن سأثبت لكم عمليا أن الشبح (يقصد الجرافيتون) كان موجودا بيننا ثم لاذ بالفرار، لكن عليكم أن تجازفوا بحياتكم؛ فقد يأخذ الجرافيتون أحدكم ويهرب به إلى أحد الأكوان الأخرى.»
ولقد ارتاب كاجيتا في أمر فرد المخابرات المتنكر، فملامح وجهه لا تتفاعل مع الأحداث كتفاعل الخبراء، فتبين له أن هذا جاسوس.
نظر إليه كاجيتا وقال له: «وأنت أيها الهدهد الكبير، سوف أجعل الجرافيتون يأخذك معه إلى بوابة الجحيم، فما رأيك؟»
فور أن أنهى كاجيتا كلمته التاع فرد المخابرات وكاد لا يستطيع أن يزدرد ريقه، فضلا عن ذهاب الدماء من وجهه.
فضحك كاجيتا. ثم ما لبث أن قال: «سنعيد التجربة وسأجعلكم الآن تمسكون بالجرافيتون، ولكن يجب على كل واحد منكم أن يمسك في يد أمه حتى لا يتوه في الوادي الجديد (يقصد كاجيتا أن الجرافيتون قد يأخذ أحدهم معه).»
ازداد فرد المخابرات خوفا، وظل ينظر فيما حوله لعله يستطيع أن يسلسل نفسه في جدار حتى لا يُسحب ويلقيه الجرافيتون في بوابة جهنم.»
***
أعاد كاجيتا التجربة بالفعل، وفي موضع التصادمات وضعَ برادة حديد رقيقة جدًا عند كاشف أطلس وأجرى حزم البروتونات في مجري الأنبوبين، وكرّر نفس الطريقة بوضع البرادة عند متعقّب الألياف الضوئيّة SciFi في تصادم آخر.
وبالفعل كما توقّع، برادة الحديد اختفتْ بعد التصادمات بعد واحد فيمتو ثانية كما رصدتها شبكة الحوسبة.
قال ناكامورا بعد اختفاء البرادة بدهشة: «لقد جذب الجرافيتون البرادة وألقى بها حيث لا يعلم إلا بوذا، إنه موجود بالفعل.»
أما فرد المخابرات فقد تنفس الصعداء ولاسيما بعد أن أصابه وأصاب الحاضرين حالة اختناق لحظية لأن الجرافيتون سحب البرادة والهواء معا.
تلاشت حالات الاختناق اللحظية فور هروب الجرافيتون وإغلاق الثقب الأسود المجهري الذي تولد من عملية الارتطام بالطاقة الفائقة.
قال ناكامورا: «شعرت بأنه ازداد ثقلي أثناء التجربة، فهل حدث لكم ذلك أم إنه مجرد وهم؟»
حدقوا به ولم يدروا بماذا يجيبوه بيد أن كاجيتا قرعه على رأسه، ثم سحب يده وضربه على ظهرها وهو يقول: «كيف تعمل مع كاجيتا وأنت تسأل عن أمر بديهي كهذا؟!»
الغريب في قول كاجيتا أن الخبراء الذين يعملون معه ومنهم أساتذة جامعات من أجناس مختلفة ليس لديهم جواب عن سؤال ناكامورا.
أجاب كاجيتا ناكامورا وهو ينظر إليه متجاهلا باقي الموجودين: «ألا تعلم أن الجرافيتون كان موجودا منذ لحظات أيها التلميذ الفاشل!»
ضرب ناكامورا جبهته وفقه أخيرا إجابة كاجيتا وهو يقول: «لقد زادت الجاذبية الأرضية بفعل وجود الجرافيتون فزادت أوزاننا. معلمي اغفر لي.»
قال واحد من الحاضرين: «طبعًا هذا التثاقل عبارة عن زيادة الجاذبيّة الأرضيّة لحظة تخليق الجرافيتون مما يعني أنّ أوزاننا قد زادتْ.»
تولى كاجيتا وفريقه وهو يقول: «إلى اللقاء يا سادة في تجربة أخرى.»
قال أحدهم بمكر: «ولم لا تجريها الآن.»
صاح به كاجيتا وهو يقول: «مرهق، عقلي فصل، أريد أن أستريح.»
***
ظل فهمان في غرفة العمليات يصارع الموت، يلتف حوله أعظم أطباء العالم، أما الرئيس مهدي فينتظر بالخارج وهو في قمة الاضطراب، فهو أشد الناس حرصا على حياة فهمان، لأنه يرى فيه حلما طال انتظاره بعد أن اتخذ اليهودُ ظهور الأمريكان مطايا ليتمكنوا من الوصول إلى حلمهم الكبير، وهو الإعلان عن إسرائيل الكبرى ووضع دستور جديد في الأرض يخصهم هم بعد أن يلغوا جميع الأديان والمذاهب الخاصة بغيرهم.
وهو في غيبوبة تامة، لكن نفسه النقية كانت يقظة، إذ ظل يهلوس باسم كاجيتا والشيطان والجرافيتون. وكاد القلب أن يتوقف في اللحظة التي أثبت فيها كاجيتا عمليا وجود الجرافيتون. ففهمان هو الوحيد في الكون الذي يعلم بحركة الجرافيتون، بل ويعلم كيف يأسره في حين أن كاجيتا سيحاول إمساكه في التجربة الثانية (سيأتي ذكرها في النص القادم) ويعلم أن إثبات وجوده عمليا سيفتح المجال لإمساكه فيما بعد؛ ومن ثم يتمكن من صنع قنابل الثقوب السوداء.