22 ديسمبر، 2024 7:25 م

فرانز كافكا .. صراع الذات والوجود

فرانز كافكا .. صراع الذات والوجود

يعد فرانز كافكا واحداً من الكتّاب الذين أضفوا على القصة والرواية العالمية بعداً فلسفياً وجودياً، فقد شكلت كتاباته في بُعدها الوجودي والسريالي اهتمام الكثير من القراء العرب والعالم، وكذلك الحال بالنسبة للباحثين والدارسين الذين أعتمدوا في تحليل أبطاله دراسة نفسية مقترنة بشخصية كافكا ودراسته في بعدها النفسي.
ولد الكاتب فرانز كافكا في براغ من عام 1883، في زمن الامبراطورية المجرية النمساوية، من أب تشيكي يهودي، وكانت وفاته في النمسا من عام 1924، من عائلة يهودية متدينة، حيث تميزت علاقته بوالده بالتوتر الدائم بسبب اختلافه عنه في العديد من الجوانب الحياتية.
بدأ كتابة القصص القصيرة والروايات في سن مبكرة، واستمر في الكتابة طوال حياته، ويعد كافكا واحداً من الذين أرسى شهرته الادبية فيما بعد بفترة ليست متأخرة، ليشكل أحد أعمدة الكتّاب في القرن العشرين ونموذج أدبي في فن القصة والرواية بالأدب الحديث، فضلاً عن ذلك فهو يعتبر واحداً من الكتّاب المؤسسيين للمدرسة الواقعية السحرية.
لقد كانت حياة كافكا معقدة ومليئة بالتناقضات، فكان يعاني من الشك والقلق الدائم، وكثيرًا ما كان يعبر عن انعزاله الاجتماعي والتوتر الذي يعيشه مع كتاباته، ولم يكن يعلم الكثير عن نجاح أعماله، إذ لم يكن معروفًا بشكل واسع خلال حياته الكتابية الاولى، واعترف قبل وفاته أنه كان يرغب في نشر أعماله بعد وفاته.
تأثرت حياته بعلاقته مع والده، والتي اثرت فيما بعد في نصوصه الروائية، فكان والده يتميز بطابع السيطرة المطلقة وعلاقة معقدة معه تشوبها التمرد النفسي، كما تأثر أيضًا بصداقته مع ماكس بروود وفيليسيتاس بواخ، اللذين شجّعاه على مواصلة الكتابة، وهما أقرب صديقاه.
تعاطفت حياته مع القلق، وكثيرًا ما كان يعبرعن مشاعره الشخصية في كتاباته، وتعرّض لظروف صحية صعبة حيث كان يعاني من مرض السل الذي كانت نهايته عليه، بالاضافة الى معاناة نفسية من العديد من المشكلات العائلية والاجتماعية، مما ترك أثرًا عميقًا في نفسيته.
وبالرغم أنه كان مشهورًا في الوسط الأدبي المحدود خلال حياته المتأخرة، إلا أن أعماله لم تحقق شهرة واسعة إلا بعد وفاته، حيث نُشِرت أعماله بناءً على رغبته الصريحة في عدم نشرها.
يُعتبر كافكا رمزاً من رموز الأدب الحديث، كما يحظى بتقدير كبير من قبل القراء والنقاد حول العالم، وتُعد أعماله من بين الأعمال الأدبية الأكثر تأثيرًا في القرن العشرين ولها حافزاً للأدباء والفلاسفة والنقاد بدراستها وتقديم البحوث بما يتعلق بابطال رواياته حتى يومنا هذا، إذ تتسم أعماله بالطابع الاستعاري والتحليل النفسي العميق للشخصية الانسانية، كما يتناول فيها مواضيع العزلة والتوتر النفسي والمشاعر الداخلية.
لقد أعتبرت كتاباته التي تتناول صراعات الانسان الوجودية وانغماساتها وصراعها بين الذات والواقع، مما شكلت عنده عقدة نفسية للأنزواء والوحدة والعزلة عن الآخرين، والانطواء الذاتي الذي أنعكس في تفاصيل أحداث رواياته وأسلوبه المتوزع بين السريالية والفنتازية في السرد الروائي، ذلك من خلال منظوره بما خلفه الانسان المعاصر في هذا العالم بين قوى الشر والظلام والخير والسلام، ومن جدوى وجوده المتصارع بين الآلة الحديثة والتطور الفلسفي الوجودي للكون.
فالمتابع الى قراءة كافكا يرى في كتاباته وغرائبيتها وسحريتها، بأن لديه حياة مليئة بالتحديات والظروف النفسية والاجتماعية التي أثرت بشكل كبير على نتاجه الابداعي ورواياته، فمن بين الأبعاد والظروف النفسية والاجتماعية الرئيسية التي أثرت على أعماله؛ علاقتة المُعقدة مع والده وطفولته المعذبة، التي كانت علاقتهما متوترة ومُحبطة، فضلاً عن تأثره بشكل كبير بتفكير والده الذي يتعارض مع سلوك كافكا ونمط تفكيره سعياً الى التحرر من القيود المفروضة التي غالباً ما كان يجبرها عليه الى أفكاره المُحدِّدة للنجاح والتحصيل العلمي، هذه الديناميات العائلية والصراعات شكلت مصدرًا للقلق والتوتر المزمن الذي انعكس في كتاباته، كما في رواية (أمام القانون) وهي عبارة عن نص قصير يُعتبر جزءًا من رواية ( القلعة ) التي يتناول فيها موضوع الحق والظلم والمراجعة، كذلك رواية (المسخ) التي شكلت نقطة أهتمام كبيرة من قبل العديد من النقاد ومناقشتها من زوايا متعددة، والتي سلطت الضوء على الزويا النفسية من حياة الانسان .
كما أنعكس في أغلب كتاباته، خياله الخصب السردي، فنجد إن موضوع العزلة والغربة كان واضح في أعماله، فشخصيته الانطوائية وعزلته كان يشعر بأنه غريب داخل المجتمع، ولا ينتمي إلى أي مكان، هذا المشهد النفسي والاجتماعي الذي تأثر به والذي قاده الى الانعزالية، يظهر في رواياته مثل ( رواية تحويل ) و ( رواية القلعة ) و( رواية العمل )، حيث نجد الشخصيات نفسها محاصرة في أنظمة اجتماعية بيروقراطية غامضة، تعكس دوماً السلوك وأسلوب نمط تفكير الكاتب الذي لا ينفك منها، فهي تلاحقه وتحاصره بين أسطر الرواية مما تملي عليه تفريغ ما يحمل من شحنات شكلت له فيما بعد أسلوباً في البناء السردي الذي يتشعب بين أروقة النص، فتنعكس بشخوص ابطاله.
ويمكن الاشارة، إن كافكا عمل في إحدى مؤسسات الدولة بعد تخرجه من دراسة القانون، وهو مجال كان يتسم بالقواعد المعقدة والسيطرة الإدارية، مما تأثر أيضاً بهذا الجو الآخر المُعقد والقاسي، والذي تجلى في أعماله اللاحقة، حيث يظهر الفرد معزولًا ومحاطًا بموجات من البيروقراطية والتعقيد والسيطرة الفوقية، فتتنازع ذاته نحو التمرد والغليان على القواعد والانظمة، كما تظهر حالة القلق والتوتر النفسي في شخصيات أبطاله، فهي تكون في حالة دائمة من التشتت، وهذا ما يُعكِّر حياتهم ويؤثر على تفاعلهم مع العالم ومَن حولهم، فقراءة أبطالهُ في معظم ما كتبه تجد أن عليها الامتثال لقواعد المجتمع وأدواره المفروضة، حتى لو كان ذلك يتنافى مع رغباتهم وطموحاتهم
كما أتسمت أعمال كافكا بالرمزية والغموض، حيث يشبك أحداثه وشخصياته في سياق غامض يصعب فهمه أحياناً ويلبسها بتفاعل متداخل بين الشخصيات الاخرى في سردية نصه، مما يُضفي طابعًا فنتازياً على قصصه أو رواياته، إذ يستخدم كافكا في كتاباته العناصر الخيالية والرمزية لتصوير واقع مشوه وغريب، يمزج بين الواقع والخيال بطريقة تثير الاستفهام والتساؤل.
لقد كان كافكا قارئاً ومطالعًا جيدًا رغم العيش في بيئة ثقافية ملتبسة، لذلك، تأثرت كتاباته بتيارات أدبية وفلسفية توزعت بين مفاهيم الألم واللذة، مما أثر على تفكيره الابداعي الأدبي ومضمون رواياته.
لقد تناولت رواياته غالبًا صراع الفرد مع النظام والهياكل السلطوية، فأبطاله في ديمومة مواجهة لقوى غامضة تسيطر على حياتهم وتنازعها بين المنطق والوجود.
ورغم إن فرانز كافكا كان مهتمًا بالأدب الوجداني والفلسفة، وهذا ما يتجلى في أعماله من خلال الأفكار المُحيطة بالوجود والهوية والمعنى، فقد تناول كافكا قضايا الوجود والمعنى والعدم، وهذا ما طبع شخصياته وسلوكها التي تواجه تحديات كبيرة تتعلق بالهدف الوجودي، ويبحثون عن معنى في عوالم خالية من المعنى، إلا إن رواياته ظلت تتضمن تساؤلات عميقة حول الحياة والموت والإنسانية.
إن الظروف النفسية والاجتماعية الصعبة التي عاش بها فرانز كافكا تُشكِّل إطاراً أساسيًا لفهم أعماله، كما تمثل هذه الأبعاد النفسية والاجتماعية تجربة حياته ومصادر إلهامه، وقد ساهمت في خلق أسلوبه الفريد والمميز في الكتابة، تعكس هذه الأبعاد والظروف النفسية والاجتماعية في حياة كافكا تجربة شخصية معقدة ومتنوعة، وهذا ما جعل أعماله مصدرًا غنيًا للتفسير والدراسة في مجالات مثل الأدب والفلسفة وعلم النفس.