22 ديسمبر، 2024 9:54 ص

حسناً لن تذهب اليوم إلى المدرسة، قالتها الأم بشكل صارم منهية المحادثة مع أبنها، فيما كانت تفكر بزوجها الذي خرج مبكرا دون أن يتناول طعام الإفطار.

أستنكر الابن هذا القرار المجحف: كل هذا لأن طلبت خمسة آلاف دينار؟

زادت حدتها عليه: لو تعرف كيف تأتي الخمسة آلاف دينار لما طلبتها مرتين في أسبوع واحد.

تراجع سريعا عن موقفه: أنا متنازل عنها، ولكن لا تمنعينني عن يوم دراسي مهم.

حسمت النقاش: لن تذهب، وسترافقني إلى مكان عمل أبيك لتعرف قيمة المبلغ الذي تطلبه.

ضحك في سره من القيمة التي لا تعادل أكثر من سندويشة فاهيتا مع علبة بيبسي، يتناولها أصدقاؤه بشكل يومي، وربما لأكثر من مرة في اليوم الواحد.

غسلت صحون الإفطار القليلة وأفرغت بقايا إبريق الشاي، ارتدت بسرعة العباءة الخليجية التي حال لونها الأسود إلى أحمر باهت، وأشارت إليه بأن يتبعها دون اعتراض.

لم يفهم فلسفتها من هذا القرار الذي نفذته بشكل فوري، فهو يعلم أن والده موظف في محطة تعبئة غاز اليرموك، وليس هناك شيء سري يمكن أن يكتشفه في رحلتهم العاجلة.

وقفا لأكثر من عشر دقائق على الشارع العام بمنطقة الحرية، قبل أن يركبا في الحافلة المتجهة إلى منطقة البياع، حيث يتعين عليهما النزول في نفق الشرطة، ويتجهان سيرا إلى محطة الغاز التي يمكن الوصول إليها سير خلال 5 دقائق.

بقرار منها، لم يدخلا من باب المحطة، وإنما سارا بمحاذاة سكة القطار التي تقع خلفها، قبل أن يتوقفا أمام الصفائح المعدنية التي تشكل سياج المحطة، حيث مدت الأم رأسها في إحدى الفتحات بين الصفائح وانتظرت قليلا قبل تدعوه ليفعل مثلها.

لم يفهم سبب ارتداء والده لبدلة زرقاء شاحبة مبقعة بالزيت، ولم يفهم لماذا يقوم بتعبئة أسطوانات الغاز الثقيلة في القفص الحديدي.

استعاد رأسه من فتحة السياج، متسائلا: أليس من المفترض أن يجلس في غرفة المكتب، ويرد على المراسلات التي ترده من وزارة النفط؟

بقيت صامتة وحافظت على ملامح حيادية وخالية من أي تعبير؛ مما جعله راغبا بطرح عشرات الأسئلة عن المنظر المحير والصادم الذي يشاهده.

_والدك ليس موظفا رسميا، وإنما عامل بأجر يومي في محطة الغاز، يمضي نهارهُ في تحميل وتفريغ الأسطوانات، سكتت قليلاً قبل أن تُكمل مُشفقة : المئات منها.

لم يتجاوز الصدمة، ولكنه استطاع أن يسأل: ولماذا يخبرنا بأنه موظف في مكتب المحطة وان راتبه ممتاز؟

_حتى لا تشعر بالفقر والضعف أمام أصدقائك، وتحافظ على رأسك المرفوع بينهم.

_مرفوع بماذا، بالغياب عن المدرسة لأنني لا أمتلك خمسة آلاف دينار؟

تمالكت رغبتها في أن تصفعه أو تزجره: هل تعرف أن أباك يتقاضى 25 ألف دينار في اليوم الواحد، ويوزعها على طلبات البيت التي لا تنتهي، وأنه امتنع عن شراء أدوية ضغط الدم لمدة شهر حتى يوفر ثمن حذاء السكيجر الذي نصحك به صديقك ابن تأجر السيارات.

_ وهل هو ذنبي إن كان أبي فقيرا؟

عاودتها الرغبة بصفعه: أبوك فقير على نفسه واحتياجاته فقط، وإنما علينا فهو غني وكريم، وأنت بالذات لم يحرمك من شيء أبدا، أنظر إلى ظهره الذي سحقته الأسطوانات وكتفه الذي يؤلمه طيلة الليل وإلى وجهه المصبوغ بلون الأسطوانة الحديدية، ولكنه لا يتكلم أو يشكو أمامك.

كانت المفاجأة أكبر من استيعابه، وكان التناقض هو المسيطر على مشاعره، فهو حتى صباح اليوم كان ابن موظف مرموق، قبل أن يكتشف أنه عامل أسطوانات.

طال وقوفه أمام أمه التي حافظت على ملامحها المتجمدة، ومنعتها من الشعور بالدموع التي أخذت تتساقط من عينيها.

صدمه المشهد مجددا، ,احس في تلك اللحظة انه يكره سندويشة الفاهيتا مع علبة البيبسي.

تقدم لمسح دموعها بطرف قميصه المدرسي الذي ارتداه صباحا، وأحاطها بيده وهم يعبران من فوق سكة القطار، ليعودا إلى منزلهم في الحرية.