22 ديسمبر، 2024 8:45 م

كنت أجلس على كرسي في غرفة نوم العائلة، في القطع الأخير من الليل، أمام الشباك المنفتح على الشارع الفرعي، كنت متألماً وضجراً. متأملاً الطفلة الغارقة في نوم عميق.- من المسؤول؟
في المساء، قبل يوم من الغزو الأمريكي، وفي أمسية لنا، أنا وصديقي عادل، قضيناها في مقهى مطل على نهر دجلة، كان صديقي مهموما، يضج عقله، بكم هائل من الأسئلة، لكنه كان يلوذ بالصمت كما هي عادته التي كنت أعرفها فيه، حتى كانت لرسوخها وثباتها، جزءاً مهما من شخصيته، لكني وبفعل العُشَرة الطويلة، اعرف مايقول بلا قول يخرج من فيه؛ من تقطيب وجنتيه، ومن الحركة السريعة لجفنيَ عينيه، حين يتفكر بفكرة لم يلفظها لسانه. كنت متيقنا تماما بأن بوش سينفذ تهديده لامحالة، مع هذا التيقن الراسخ في عقلي؛ هل ينفذ بوش تهديده؟ سألته. بكل تأكيد أجابني ومن ثم عاد الى ماكان عليه، داخلا في طوق من الصمت المتفرد، والذي يبث الصوت في انحاء هذا المساء. أركز نظرات عيناي على الطفلة النائمة، نوما هادئا في هذه اللحظة.
تآملتُ الصورة العائلية، المعلقةعلى الجدار، أنا وزوجتي وأبني، وصديقي وزوجته وأبنته. كان ضوء الفانوس الباهت، يسقط عليها، بالكاد ينيرها. قمنا بالأستعانة به، للأنارة، بسبب تدمير محطات انتاج الكهرباء. اخذت الطفلة فجأة، تشهق، كأن احداً فززها من نومها العميق. ثم بدأت تبكي وهي نائمة. فيما لاتزال غرفة نوم عائلتي، غارقة في الصمت إلا من انفاس، وهمهمات زوجتي التي خلدت الى النوم منذ ساعات، مع أبني والطفلة. – ثمة خطأ في النظام الكوني، خطأ في هيكليته البنوية؛ قاد ولم يزل يقود الى كوارث بشرية في جميع زوايا وجهات المعمورة. نظرت الى وجه الطفلة التي كفت عن البكاء المختنق؛ كان وجهها البريء، ساكناً. – لاتعرف، هدف من داس على زر آلة الموت؟ لكنه ستعرف لاحقا، بعد سنوات. صمت، يمزقه في كل حين، دوي الطائرات، وأزيز الصواريح، ونباح الكلاب ومواء القطط، وأزيز رياح نيسان. يطاردني الليل والخوف والغضب والذاكرة. أسمع أصوات أقدامي وهي تضرب سطح اسفلت الشارع، قبل الغروب بقليل، في اليوم السابع من الغزو الامريكي. استوقفتني بناية قد سوت بالارض. لايزال الدخان يتصاعد منها. وقفت امام الانقاض. كنت قبل عدة ايام قد مررت بها، فقد كانت في الطريق بين بيتي وبيت صديقي، كانت حينها شاهقة، تعانق نهاياتها وجه السماء. شعرت بالانهاك، والضعف، ورجلاي لاتساعدنني على الوقوف. بدأت معدتي تؤلمني. – اللعنة على الطغاة. سمعت دوي القصف في مكان بعيد. – ترى اية بناية هدها هذا الصاروخ. كانت الريح تصفر في الدرب الذي أمشي فيه. كانت السماء فوقي ملبدة بالغيوم المحملة بالمطر، لذا سارعت في خطواتي حتى اصل الى مبتغاي قبل ان تمطر. ثمة سحب من الدخان اسفل الغيم تلتف وتتلوى فوق المباني والبيوت. العصافير والحمام كانت تلوذ بين اغصان الشجر وسعف النخبل النابت في الجزرة الوسطية وعلى الرصيف في الجانبين. ثم بدأ المطر يتساقط على وجه الطريق مع دوي ورعود وبروق في السماء التى بدت سوداء، قاتمة السواد حتى غرقت الانحاء في ظلام كما هو ظلام الليل مع أن الليل لم يحل بعد، ليطرد اخر اضواء النهار. يُضَاءُ الفضاء من حولي بحزمة ضوء باهر، شديد الانارة، بين الفينة والفينة الاخرى وبسرعة خاطفة. حاولت العودة الى البيت. توقفت تحت المطر الذي أخذ يتهاطل بغزارة، لكني عزمت ان لا اعود. قلقي على صديقي، حثني على أن لا أرجع. تابعت سيري تحت المطر الغزير، كأن السماء ارادت ان تفرغ مخازنها من المياه، لتطفأ الحرائق المشتعلة في كل مكان وصوب وزاوية. البرق والرعد، ما انفكا يجلجلان ويضيئان المكان لبرهات متتاليات كلمح البصر. الطائرات الامريكية، تقذف على بغداد، وهي تحلق في اعماق السماء البعيدة، موجات متتاليات من الصواريخ المجنحة والقنابل الذكية. تتصاعد من مساقطها، فتائل من النار والدخان، الى الاعالي. لذت باحد المباني الحكومية المهجورة، محتميا بها من المطر والريح التي اخذت في الاشتداد، لدقائق ومن ثم اندفعت بقوة، راكضا تحت المطر. عندما وصلت الى بيت صديقي الذي من أجله، خرجت، لأتفقد احواله. رأيت البناية الفخمة، تحولت الى اثر بعد عين. بيت عادل، البيت الصغير، على بعد امتار قليلة منها، صار هو الاخر مع بقية البيوت، ركاما من الحجارة والحديد المنصهر. عندما وقفت، اتطلع الى ما حل بهما من دمار، كان الدخان، لايزال يرتفع منهما، الى السماء والريح والمطر. طفر قلبي من بين ضلوع صدري، وهرب الهواء من مجرى تنفسي حتى شعرت بالاختناق، وكدت اسقط لولا تماسكي، ومجالدتي للقهر والحزن والفجيعة. اندفعت في دواخلي موجة من الألم على اجنحة من خوف ورعب ووجع هذه الدقائق، فقد طاف في نفسي سؤال كل حرف فيه، يحمل كنه القسوة والظلم والمتوحش، قوة في نفسي على الرغم مني، منعت السؤال عن ان ينطق به لساني، لكنه ظل يدور في عقلي، ضاجا بكم هائل من الاسئلة التي أنتجها سؤال البداية عن سيرورة الشراسة الكونية المقوننه، على سطح كوكب الأرض، وعن مدى التأثيرات النفسية، والوجودية.. انين خافت، يجيئني من النخلة. أخرجت من جيبي مصباح الأنارة اليدوي. فتحت الأنارة. كانت هناك، بين سعف النخلة، اللوحة التى تحمل على سطحها، الذي كان، في جهة أنظاري، عنوان البناية؛ المركز القومي للبحوث والدراسات والابتكارات العلمية. تحول الأنين القادم، من قلب النخلة النابتة على الرصيف، مقابل بيت صديقي؛ الى بكاء يجلله الخوف. وصوت ضعيف بالكاد يسمع: أريد أمي. كانت تجلس الطفلة، فوق اللافتة التي تحمل عنوان البناية.