تعد الحروب من الظواهر التي عرفها الانسان منذ بدء الخليقة, والتي لا يمكن منع نشوبها, وازاء هذه الفكرة – اي حتمية الحروب والنزاعات المسلحة- كان لا بدَّ من التدخل للتهدئة من وطأتها على الأنسان، بغض النظر جنسيته أو انتمائهالديني أو العرقي أو اللغوي، الأمر الذي جعل الأطراف المعنية تتدخل لمعالجة هذه الأوضاع، بوضع أجهزة رقابة دولية تعمل على التحقيق في فعالية تنفيذ أحكام القانون الدولي الإنساني، ومن صور ذلك اللجنة الدولية الإنسانية لتقصي الحقائق التي تعد الأداة الجديدة التي أمكن إيجادها لتطبيق القانون الدولي الإنساني، وذلك ابان المؤتمر الدبلوماسي لسنة 1977 الذي اقر البروتوكولين الاضافيين لاتفاقيات جنيف الأربع، فقد نصّتْ المادة (90) من البروتوكول الاضافي الاول لعام 1977 على انشاء لجنة دولية لتقصي الحقائق لتأمين الضمانات المكفولة لضحايا النزاعات المسلّحة.
أُنشأت اللجنة الدولية الإنسانية لتقصي الحقائق رسمياً عام 1991 كوسيلة تكميلية لتعزيز تنفيذ واحترام القانون الدولي الانساني, فهي هيأة مكملة للجنة الدولية للصليب الأحمر لكن متميزة عنها، وكان اسمها في بادئ الامر ” اللجنة الدولية لتقصي الحقائق” وبعد عدة سنوات، تم إضافة صفة “الإنسانية” إلى اسمها، ليصبح اسمها الجديد: “اللجنة الدولية الإنسانية لتقصي الحقائق(International Humanitarian Fact-Finding Commission)، والتي تعرف اختصارا ” CIHEF في خطوة للإعلان عن أن دورها لم يعد يقتصر، فقط، على مراقبة تنفيذ واحترام القانون الدولي الإنساني، وإنما امتد ليشمل الاهتمام والعناية بمآسي ضحايا النزاعات المسلحة، أيضا.
واللجنة الدولية الإنسانية لتقصي الحقائق هي هيأة دائمة غير متحيزة ومستقلة، تتسم بالحياد والنزاهة, وأن اعضاءها يؤدون مهامهم بصفتهم الشخصية على نحو مستقل عن دولهم، فهي تؤدي مهمة إنسانية بحتة غايتها الرئيسة التحقيق في كل واقعة يزعم انها تمثل مخالفة جسيمة لأحكام القانون الدولي الإنساني او انتهاكاً جسيماً لتلك الأحكام وبهذا تُعدُّ اللجنة المذكورة آلية مهمة ترمي الى تطبيق القانون الدولي الإنساني، والتقيد بأحكامه في زمن النزاعات المسلّحة.
ينحصر اختصاص اللجنة الدولية الإنسانية لتقصي الحقائق فقط في التحقيق وإصدار التوصيات واعداد التقارير بخصوص نزاع يقع بين اطراف معترفة باختصاص اللجنة، وانه ليس ثمة شيء آخر يدخل في نطاق اختصاصها، كتلك المتعلقة بإصدار أحكام قضائية، اذ ليس من بين اختصاصات اللجنة الدولية الإنسانية لتقصي الحقائق الصفة القضائية، فهي هيأة شبه قضائية وليست هيأة قضائية، فيمكن للجنة أن تبدي ملاحظاتها على الحقائق التي توصلت إليها دون أن تملك سلطة إصدار أحكام قانونية بحقها، الأمر الذي تنتفي معه أمكانية وسمهابالهيئة القضائية، ورغم أن اللجنة الدولية الإنسانية لتقصي الحقائق ليس لها اختصاص قضائي، الا ان لها تأثير في المجال القضائي الدولي، إذ ان الجهات القضائية الدولية يمكنها الاستناد إلى تحقيقات اللجنة والنتائج التي تتوصل اليها.
وتتولى جميع التحقيقات في اللجنة غرفة تحقيق تنشأ خصيصاً للقيام بهذا الدور، تتكون من سبعة أعضاء، يعين خمسة منهم بواسطة رئيس اللجنة من أعضاء اللجنة، على الا يكون أي منهم من أطراف النزاع ، ويعين العضوين الأخرين بواسطة أطراف النزاع، على أن يقوم كل طرف بتعيين عضوٍ ما.
ولا يمكن للجنة الدولية الإنسانية لتقصي الحقائق مباشرة التحقيق من حيث المبدأ إلا بعد موافقة الأطراف المعنية جميعا، ولكن لا يوجد ما يمنع دولة ثالثة أن تطلب من اللجنة إجراء تحقيق في مخالفة جسيمة أو انتهاك خطير للقانون الإنساني، يرتكبه أحد أطراف النزاع، شريطة أن يكون الطرف المعني قد اعترف أيضًا باختصاصات اللجنة.
ومع أهمية لجنة تقصي الحقائق في تنفيذ القانون الدولي الإنساني إلا أن هذه اللجنة لم تمارس اختصاصها – ومنذ تأسيسها- إلا في حالة نادرة واحدة جرت فيها الاستعانة بالفعل بخدماتها, وذلك لقيادة تحقيق مستقل في تقرير الطب الشرعي في شرق أوكرانيا (مقاطعه لوهانسك) 19/5/2017 فيما يتعلق بحادثة 23 نيسان 2017 التي وقعت في “بريشيب” مقاطعه “لوهانسك” وتسببت في وفاة مسعف وإصابة اثنين من المراقبين من بعثة الرصد الخاصة إلى أوكرانيا(Special Monitoring Mission) والمعروفة اختصاراً (SMM).
فرغم مضي أكثر من ربع قرن على انشاء اللجنة الدولية الإنسانية لتقصي الحقائق ودخولها حيّز النفاذ، إلا أنها مازالت مثار جدل لدى الفقه القانوني، ويدور هذا الجدل في معظمه حول تفسير القانون المنظم للجنة, ومدى صلاحيتها في إصدار أحكامها على الأحداث، اذ ان هذه الالية لازالت في المحك وما زالت لم تعمل بعد، نظراً لتوقف عملها أولاً وأخيراً على ارادة الدول، لأن الدول – على الأرجح- لن تقبل الطعن في معاييرها الانسانية أو في حسن نواياها عن طريق التحقيق الذي لا تسيطر عليه سيطرة كاملة، ومن هنا فأنها تفضل الدخول في مفاوضات سرية في هذا الصدد، وهو ما جعل اللجنة تعاني من الركود الذي ترتب عنه استحالة تقييم كفاءتها، وهذا السبب بالتحديد شكّل أحد أهم الأسباب التي يرجع اليها عدم تحقيق هذا الاجراء، أي نجاح يذكر، فضلا عن أن واقع النزاع المسلح لا يلائم امكانية اجراء تحقيق بطلب من الخصم، ولهذا لم يكن لهذه الطريقة من طرق فض النزاعات من أثر ملموس مع كثرة النزاعات المسلحة وما أفرزته من انتهاكات .
الأمر الذي يظهر وجود إرباك في التنظيم القانوني للجنة المذكورة مما يستلزم تسليط الضوء على العقبات التي تقف حائلا امام مباشرة اختصاصاتها والاجراءات الواجب اتباعها لتجاوز تلك العقبات.
إن ما يدعو للأسف, إن صلاحيات اللجنة الدولية الإنسانية لتقصي الحقائقمحدودة نسبيا في ظل الوضع الراهن للنظام العالمي، وتزايد انتهاكات قواعد هذا القانون في النزاعات المسلّحة الدولية منها وغير الدولية، خصوصا في منطقة الشرق الاوسط، وعلى هذا الأساس أصبح من الأهمية بمكان تفكير المجتمع الدولي بجدية في آليات لتنفيذ أحكام القانون الدولي الإنساني يكون ملزما لأطراف النزاع،وبات المجتمع الدولي في أمس الحاجة لتوفير الأجواء المناسبة لتمارس لجنة تقصي الحقائق دورها المنوط بها على أكمل وجه وتصبح أكثر نجاعة في الحد من تلك الانتهاكات.
امين سر مجلس محافظة واسط