هناك الكثير من الكتابات والدراسات المتناثرة هنا وهناك في مؤلفات الكتاب والباحثين، تتناول الثقافة العراقية والتاريخ والفكر العراقي الحديث، وأكثر ما نجد تلك الكتابات في مجال السياسة والتاريخ والأدب والاجتماع، ولكن الملفت للنظر أن هناك فراغاً كبيراً في مجال الدراسات التخصصية الثقافية والفكرية في العراق الحديث والمعاصر، وزهداً في الدراسات التي تعرض وتحلل وتفكك وتنتقد حجم ما قُدم من نتاجات وكتابات لمفكرين ومثقفين عراقيين طوال الفترة الحديثة، فضلاً عن تشريح المنظومة الدينية والسياسية والثقافية والاجتماعية وبيان التداخل بينها، وما أحدثته كل منظومة من تدخلات وتداخلات وتأثيرات في بنية الخطاب الثقافي والفكري والمعرفي العراقي، هذا ما نفتقده فعلاً على مستوى الدراسات والكتابات العراقية الاكاديمية والثقافية، ولكن ما قامت به الكاتبة العراقية الدكتورة فاطمة المحسن في كتابها (تمثّلات النهضة في ثقافة العراق الحديث) الصادر عن دار الجمل 2010، وبصفاحاته (455) صفحة، هو محاولة جادة وكبيرة وفاعلة أستطاعت من خلاله الكاتبة الأنتباه الى ذلك الفراغ في الوسط الثقافي العراقي، والتي حاولت في كتابها هذا أن تسد شيئاً من ذلك الفراغ وتعوض نقصاً معرفياً يحتاج له المثقف والقاريء العراقي في الوقت الحاضر، حقاً نحن بأمس الحاجة لمثل هكذا دراسات تسلط الضوء على المنجز الفكري والثقافي والمعرفي في العراق، وأن نعرف مكاننا ودورنا ضمن خارطة الثقافة العربية، وهل أستطاع المثقف والكاتب العراقي أن يكون فاعلاً ومؤثراً على الساحة كما أثر المثقف والكاتب العربي المصري والشامي سابقاً؟، وما مدى العلاقة الثقافية بين المنجز الثقافي والأدبي والفكري العراقي، والمنجز الثقافي العربي والتركي والايراني؟، وهل عبر الكاتب والمثقف العراقي عن آلام وآمال وطموح مجتمعه وواقعه وسعى الى تحقيق مشاريعه على أرض الواقع من خلال برامج ثقافية وسياسية واجتماعية واعية؟ وهل ساهم المثقف العراقي في النهضة الثقافية والفكرية العربية الحديثة وأين منجزه في هذا المجال، أم بقي متأخراً بعيداً عن تلك الأجواء؟، وما تأثير كلاً من السياسة والدين على تكوين منظومة الفرد والمجتمع العراقي، ومدى أنعكاس ذلك على طبيعة الخطاب الثقافي والفكري والمعرفي؟. كل تلك الأسئلة وأكثر حاولت فاطمة المحسن الأجابة عليها من خلال كتابها وموضوعاته الشيقة التي حاولت فيه أن تؤرخ للثقافة والفكر العراقي الحديث، لقرن من الزمان أو يزيد، وهي فترة نهاية القرن التاسع عشر والقرن العشرين، بعقلية الناقد، وعين الأديب، ومنهج الأكاديمي المتخصص والمتمكن من أدواته المعرفية ومصادره الثقافية.
يتضمن كتاب تمثلات النهضة لفاطمة المحسن بفصوله التسعة، مادة ثقافية ومعرفية غنية، كشف عن وعي وخبرة وثقافة الكاتبة في القراءة والعرض والنقد والتحليل، اذ أنطلقت الكاتبة في الفصل الأول من الكتاب للتعريف بمفاهيم النهضة والثقافة وتمثلاتها في العراق الحديث، وما مدى الأقتراب من مفاهيم اليقظة والتنوير والتحديث والتجديد، بصورتها الغربية والعربية، وكيف أستفاد المثقف والمفكر العراقي توظيف ذلك، وما مدى حضور فكر النهضة العربية في كتابات ومنتجات المثقفين والادباء والمصلحين العراقيين. مستنتجة أن العراق قد تأخر عن فضاء وأجواء النهضة العربية الذي ساد في القرن التاسع عشر، وذلك بسبب السيطرة العثمانية على العراق، وذوبان السياسي والديني في الخط العثماني، رغم وجود صيحات ووقفات معترضة ومحتجة هنا وهناك، الا أن سيطرة نمط التفكير العثماني والتفكير الصفوي على أبناء المذهبين السني والشيعي، أو بالاحرى التفكير الطائفي هو المسيطر على عقلية الافراد والمجتمع العراقي، وكل فريق ينحاز لثقافة طائفته الدينية، وهذا ما أنعكس فعلاً ليس على التاريخ الحديث للعراق فحسب، بل وعلى التاريخ القديم منه والمعاصر، ولا زالت تلك التبعية سائرة المفعول وسائدة الى اليوم، وهذا ما جعل العراقي بعيداً نوعاً ما عن المنجز الثقافي العربي المحيط به، سواء النهضة العربية في مصر أو بلاد الشام. من خلال ما قام به محمد علي باشا من تحديث وعمران في مصر والشام، خلاف الانتكاسة والانحطاط الثقافي والمدني الذي ساد العراق ودول الخليج العربي، بسبب السياسات الدينية المنغلقة، ولغة العداء والصراع المذهبي بين أبناء الدين الواحد، وجعل العراق ساحة لعب وحرب للخطابات المذهبية والسياسية والدينية المتشنجة التي تفوح منها رائحة العنف والدم والتطرف والكراهية. وهذا بدوره ما أنعكس على الساحة العراقية برمتها، وعلى صياغة خطابها الثقافي والسياسي وألقى بضلاله على نسيجها الاجتماعي.
تسجل فاطمة المحسن تاريخياً تاريخين للنهضة العراقية الحديثة، الأول عام 1908، وهو العام الذي صدر فيه الدستور العثماني، الذي شكل بداية تأثر العراقيين بدعوة الدستور وشعاراته الحديثة التي تنادي بالحرية والمساواة والعدالة، تلك الشعارات الغريبة عن مجتمعاتنا وواقعها، وحداثة ظهورها وأنتشارها مع الفكر الغربي والثقافة الأوربية الحديثة، التي تبناها ودعا لها كتاب وأدباء عرب، من خلال ترجماتهم ورحلاتهم الي البلاد الأجنبية. والتاريخ الثاني الذي تذكره المحسن لولادة النهضة في العراق هو عام 1921، وهو تاريخ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، وما قام به الملك فيصل الأول من أنجازات وتحديث على الجانب الاجتماعي والسياسي، معتمداً النمط الغربي البريطاني في تلك المسيرة. والمحسن لا تدور في فلك هذين التاريخين فقط، وانما تناقش غيرهما من تواريخ ولكن تجدهما الارجح من قبل الباحثين، وأن كلا هذين التاريخين المتقدمين يشيران الى حدث جذري كبير على الساحة العراقية، فالدستور العثماني الجديد الصادر 1908، يمثل من وجهة نظر عراقية، بداية النهاية لعصر الاستبداد العثماني والحميدي في العراق، معتقدين أن ذلك الدستور سيعطي للعراق والعراقيين حقهم المسلوب وسيجعلهم في مكان يليق بهم شأنهم شأن شعوب المنطقة، ولكن شيئاً من هذا لم يتحقق. والتاريخ الثاني عام 1921 هو حدث يشكل نقطة وعلامة فارقة في تاريخ العراق الحديث، وهو تأسيس الدولة العراقية الحديثة الذي طال أنتظارها، ولعل بذلك التأسيس يتحقق شيئاً لم يتحقق طوال الفترة السابقة، وهو الخلاص من السيطرة العثمانية وبناء دولة المؤسسات، ولكن للاسف فالعراق قد أنتقل من أحتلال عثماني الى أحتلال بريطاني، وما قامت به بريطانيا من مؤسسات وتحديث انما هو من أجل مصالحها وتحقيق مكاسب عظمى على مستوى العراق والمنطقة، ولكن بقيت مصالح المحتل واحدة لم تتغير، وهو نهب ثروات البلد وسرقة طاقاته وآثاره، وهو ما تحقق فعلاً على أيديهم.
وبقيت المحسن تتأرجح بين هذين التاريخين لزمن ولحظة النهضة في العراق، معللة ذلك بـ ( ان مظاهر النهضة العراقية، كما نظر فيها الدارسون، لم تعتمل في سياق زمني منتظم، الأمر الذي يسلط الضوء على جانب من جوانب تلك الحركة الهشة المترددة التي ترى في العامل الخارجي ما يساعدها على تبصر واقع التخلف الذي تعيشه) ص 42. من الكتاب.
الملاحظ على كتاب تمثلات النهضة لفاطمة المحسن هو دراستها التحليلية والنقدية للمنجز الثقافي بصورته الأدبية، شعراً وقصة ورواية، تلك البداية الثقافية المعروفة من خلال كتابات جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي ومحمود أحمد السيد، وما طرحوه وقدموه من موضوعات اجتماعية وسياسية وحياتية حول الواقع العراقي والمتغيرات والمؤثرات التي أحاطت به، محللة وكاشفة الكاتبة عن نمط التفكير لدى هؤلاء الكتاب والادباء وغيرهم، ولكنهم يمكن عدهم المدخل والمفتاح الأول والمهم للنهضة العراقية الحديثة، فهم قد عاشوا وعاينوا واقعين وأحتلالين وفترتين مختلفتين وشخصوا ذلك وسجلوه في كتاباتهم، كما أن النهضة الادبية كانت بداية الطريق للنهضة الثقافية في العراق، لأن طابع الواقع العراقي هو الصبغة الأدبية العاطفية والوجدانية والحماسية، التي أثرت في قلوب الناس وألهبت مشاعرهم، من خلال القصائد والخطب والكتابات الصحفية التي أستنهضت فيهم روح الثورة والاصلاح والتغيير، ولكن هذا قد ينطبق على الشعر ولا ينطبق على القصة والرواية التي تحتاج الى عقل متنور ومستوى فكري وثقافي واعٍ، وهو الذي عمل عليه محمود أحمد السيد في كتاباته القصصية والروائية، ناقداً الشعر والشعراء في تنصيبهم رواداً على النهضة الادبية في العراق وتسيدهم على المشهد الثقافي برمته، عاداً ذلك نوعاً من التقليل من قيمة النهضة ومحتواها الثقافي والفكري التغييري الكبير، ولا ننسى الدور الكبير للفكر الاشتراكي والتقدمي والتنويري الذي حمله السيد لمواجهة الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي العراقي السيء الذي عاشه الفرد والمجتمع العراقي لحقب طويلة لم تنفرج وتفرج عنه تلك المعاناة والازمات التي أحيطت به وأنهكته بشكل كبير.
وتسجل المحسن رأياً محترماً عن سبب بداية الأدب ومنه القصة بعد الشعر ليكون عاملاً مهماً في بناء النهضة في العراق، وهو أن ( اشكالية القص العراقي هي في الأصل اشكالية فترة النهضة برمتها، واشكالية الأدب العراقي الذي مر بمرحلة التباس ربما لم يمر بها المصريون، لكون مصر أستطاعت أجتياز عقبات كثيرة لتبدأ التنوير على هيئة مباحث فكرية ومواضيع خاض فيها رجال الدين، والمفكرون الشوام الذين قصدوها وأقاموا بها.). ص242 من الكتاب.
من خلال تشريح المحسن لمشروع النهضة في العراق، لم تغفل العوامل والمؤثرات السياسية والدينية على بنية الخطاب الثقافي والمعرفي، بل عدت ذلك عاملاً قوياً وأساسياً في تكوين نمط الثقافة وشكلها السائد آنذاك، كما أن النمط الثقافي الديني التقليدي الذي كان سائداً في تلك الفترة ألقى بضلاله أيضاً على طريقة التفكير وعدم الخروج على ذلك النمط، الا من خلال بعض الدعوات الاصلاحية والنهضوية التي قادها كتاب ومثقفين ممن تلقوا دراستهم ومعارفهم خارج العراق، أو ممن تثقفوا ثقافة غربية تريد للواقع العراقي أن يحذوا حذوها. وقد عرضت المحسن للصراع الديني العلماني في الفكر والثقافة العراقية، وهو الصراع عينه الذي تعرض له الواقع العربي في زمن النهضة العربية الحديثة ولا زال الصرع بين الأثنين مستمر ومستعر حتى الساعة.
والجميل في كتاب تمثلات النهضة، ان المحسن قد سلطت الضوء أيضاً على الثقافة الشعبية، ولم تقتصر على الثقافة العالمة فقط، من خلال الفصل السابع (ص 259ـ 285) الذي أسمته الأدب الشعبي والنهضة، من خلال الاطلال على ما قدمه في بغداد الملا عبود الكرخي، من شعر وأقوال وكتابات صحفية، وما قدمه الحاج زاير الدويج في النجف من كتابات للشعر الشعبي والابوذية التي برع فيها لتسجيل معاناة الناس وقضاياهم اليومية.
ويبقى للفصل التاسع والأخير من الكتاب نكهته الخاصة والجهد الكبير الذي ختمت به الكاتبة دراستها القيمة والذي حمل عنوان الرواد (ص 325ـ 438) الذي تعرضت فيه لذكر نماذج مهمة من رواد الفكر والثقافة والاصلاح والنهضة في العراق، وما مدى تأثير هذه الأسماء على الساحة العراقية كل حسب مكانته وخطه الفكري الذي سار عليه، وأهم اسماء الرواد الذين عرضت لهم الباحثة هم (محمود شكري الآلوسي، هبة الدين الشهرستاني، أنستاس ماري الكرملي، معروف الرصافي، جميل صدقي الزهاوي، رفائيل بطي، محمود أحمد السيد)، فهؤلاء الرواد عكفوا على تقديم مشاريع ثقافية عراقية متباينة، كل حسب نمط تفكيره وثقافته وتوجهه الديني والسياسي والثقافي، فضلاً عن الجهود الفكرية والصحفية والسياسية التي تميز بها البعض منهم، فكانو رواداً للثقافة والفكر والسياسة، ولكل واحد منهم مشروع متكامل يمكن للباحثين والدارسين العكوف على قراءته ودراسته ومقارنته مع المنتج العربي والاسلامي.
لقد أستطاعت المحسن خلال صفحات كتابها أن تقدم الكثير من الموضوعات وأن تناقش وتحلل وتنقد الظروف التي مر بها المثقف العراقي، وأن تُقييم دوره وتبين مكانته بين كتاب النهضة العربية، وأن تصل الى نتيجة مهمة وهي أن للعراق نهضته الخاصة به، التي لحقت النهضة العربية الحديثة في مصر والشام، ويمكن ارجاع النهضة في العراق الى عدة مصادر شكلت وكونت نهضة العراق، فهناك المصدر التركي والايراني والهندي والعربي والغربي، فهي عوامل ومصادر أشتركت في صياغة نهضة العراق الحديث، على مستوى السياسة والثقافة والادب والفكر والمجتمع.
ويبقى للكتاب قيمته الفكرية والثقافية والمعرفية الكبيرة، ويمكن عده من الدراسات المهمة ضمن العمل الاكاديمي والثقافي النسوي، ومدى حضور المرآة الكاتبة والمثقفة والاكاديمية ـ وان كان خجولاً ـ ضمن الخطاب الثقافي العراقي المعاصر، ويظهر في الكتاب الجهد والوعي الفكري والنقدي والفلسفي للكاتبة من خلال سياحتها الثقافية ومسحها المعرفي والنقدي وغوصها لكشف البنى الفكرية والثقافية لمنتجات وكتابات المثقفين والرواد العراقيين وأثرهم على الساحة الثقافية العراقية والعربية، وتكوين نهضة العراق الحديث.
د. رائد جبار كاظم. كاتب وأكاديمي من العراق. وأستاذ الفلسفة والفكر العربي المعاصر في الجامعة المستنصرية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ أعتمدت في كتابة المقال على كتاب تمثلات النهضة في ثقافة العراق الحديث. لفاطمة المحسن. ط1. منشورات الجمل. بيروت ـ بغداد. 2010.
ـ فاطمة المحسن. باحثة وكاتبة وناقدة وأكاديمية عراقية حاصلة على شهادة الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة بودابست في هنغاريا عام 1986، عن أطروحتها الموسومة (التجديد في الشعر العراقي الحديث: سعدي يوسف انموذجاً )، تعيش المحسن حالياً في بيروت مع زوجها، الدكتور فالح عبد الجبار، عالم الاجتماع العراقي، الذين تشاركا معاً في تحمل معاناة وألم الغربة والحياة والثقافة، في المهجر خارج العراق لأكثر من ثلاثين سنة. وصدر مؤخراً للمحسن كتاباً بعنوان (تمثلات الحداثة في ثقافة العراق) عن دار الجمل أيضاً.