حاوره : مقداد مسعود
مقداد مسعود
قبل أن يتسلل إلى سوريا.. أعارني(مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة ) الأستاذ رحيم كريم لم ينشر يومها أي عمل أدبي ومع وصوله إلى دمشق كانت المفاجأة أن مجلة (الطليعة الأدبية) العراقية، نشرت له قصة قصيرة (مطر أسود) في منتصف السبعينات على عهدة ذاكرتي وكانت له محاولات جميلة في القصة القصيرة أطلعت عليها من خلال صديقه الحميم ابن خالتي الشاعر مزعل التميمي. أثناء قراءتي مخلوقات العزاوي رأيتني في عالم لا انتمي إليه. ربما هي الصدمة الروائية الأولى التي تلقاها طالبا في الثاني متوسط. بعد سنوات قرأت (سلاما أيتها الموجة، سلاما أيها البحر) الصدمة ذاتها تلقيتها. لكن بنسبة أقل . حين قرأت(الشجرة الشرقية) مجموعته الشعرية البديعة وكررت قراتها .. للان اردد بعض صفحاتها دون أن أعود إلى نسخة الكتاب. و تعلقت بروايته (القلعة الخامسة) .. أما (الروح الحيّة) كتاب العزاوي فقد قرأته في سنوات الحصار مستنسخا.. وعدت للكتاب أكثر من مرة وكذا الحال مع (الموجة الصاخبة) للشاعر والكاتب سامي مهدي .وفي شتاء 2010 اقتنيت نسخة من (تهافت الستينين) للشاعر فوزي كريم وفي 2015 صار بين يدي (بغداد السبعينات) لصديقي الشاعر هاشم شفيق… وصرت أقتني هذا النوع من الكتب الذي يتناول الحركة الثقافية العراقية وقد أطلعت على كتابيّ الشاعر شاكر لعيبي (الشاعر الغريب في المكان الغريب) و(رواد قصيدة النثر في العراق) وآخر الكتب التي طالعتها(حطب إبراهيم) للشاعر محمد مظلوم. لاحظت أن هذه الكتب بعضها يكمل البعض عن محنة الشاعر الملتزم والشاعر الذي يريد أن يتحصن بحريته الفردية بعيداً عن كل أنواع القيود.. في 10- 1- 2017 قرأت (الرائي في العتمة) ويمكن اعتبار هذا الكتاب وكتابه (المؤتلف والمختلف من قصيدة الشعر إلى قصيدة النثر) من الكتب الهامة جدا في التنظير الشعري من خلال تجربة الشاعر وهي تجربة ثرة ومن طراز خاص.
(*)
الشاعر والروائي والصحفي العزاوي منذ وصوله بغداد سعى إلى نقلة شعرية جديدة وكان سعيه جماعيا ضمن ما سيعرف جيل الستينات أو حركة الستينات وهي حركة كما يرى الشاعر والكاتب سامي مهدي ( لم تهبط من السماء، ولم تظهر حين ظهرت اعتباطاً، بل كانت حركة جيل شكلته ظروف ذاتية وموضوعية خاصة. ولذلك لم تقتصر على الشعر، بل شملت القصة والنقد والرسم. ووسمتها بالسمات نفسها. ولكن ثمة حقيقة لا بد من الاشارة إليها وهي أن أدباء الجيل الجديد لم يكونوا على الدرجة نفسها من الحيوية والموهبة والثقافة والوعي والإنتاج والقدرة على الحركة والحوار. ولذا ثمة من له دور ملموس في حركة الجيل.. لقد كان في هذا المشهد غائبون حاضرون (محمد خضير مثلا) وحاضرون مدمنون هم غائبون دائما../ 16- 17/ الموجة الصاخبة/ شعر الستينات في العراق/ دار الشؤون الثقافية/ بغداد/ 1994) لكن في محاورة صحفية أجراها الصحفي الأردني هشام عودة 2011 مع الشاعر سامي عن شعراء الستينات من هم المقصودون؟ كان جواب سامي مهدي كالتالي: (حين اتحدّث عن جيلنا أنمّا أتحدث عن شعراء بأعيانهم، فقد كان شعراء هذا الجيل يُعدّون بالعشرات، ولكن ممثليه الحقيقيين قد لا يزيد عددهم على عدد أصابع اليد الواحدة : حميد سعيد وفاضل العزاوي وحسب الشيخ جعفر وسركون بولص وأنا نفسي ولا ينسى التنبيه لصديقه الشاعر الفلسطيني خالد علي مصطفى/ 170/ محمد غازي الأخرس( السؤال هنا: لماذا لم يذكر اسم الشاعر فوزي كريم وهو المثقف المستقل الذي ورد اسمه في البيان الذي كتبه الشاعر فاضل العزاوي وقع عليه الستينيون ومن ضمنهم الشاعر فوزي كريم؟ لنستمع بأعيننا للشاعر خالد علي مصطفى بهذا الخصوص : (كنا نلتقي على السجية ونفترق على السجية، من غير أسئلة عمّا يجري في هذه الدنيا. هكذا عرفتُ فوزي كريم، وعرفناه معا، وهو الأمر الذي وجد نفسه فيه مستجيباً لتوقيع ،، البيان الشعري،، حين دعي إلى ذلك في جلسة مشتركة جمعتنا بمقهى ياسين، لا أدري إن كانت استجابته لتوقيع البيان،، حياء أم قناعة،، غير أنّ جهوده النقدية تدلّ على أنه لم يكن مقتنعا به، ومع ذلك، فأنه – حين وقع البيان – ألزم نفسه – بما جاء فيه، حاله حال زملائه الآخرين الذين مهروا بأسمائهم../ 108/ شعراء البيان الشعري) وكلام الشاعر خالد علي مصطفى تأخر حتى 2015!!..يبدو أن هناك ما يجعل فوزي كريم علامة مفارقة، منذ تلك اللحظة من 1969 وبحسب قول فوزي نفسه(الشعر الستيني بصورة عامة سعى طامحا لتغيير العالم، كنت أنا بالمقابل أتمتع بمناعة ضد هذا السعي هذا هو جوهر الفرق/ 129/ إضاءة التوت) ومن جانب آخر يلقي فوزي كريم ضوءاً تاريخيا ضروريا حول توقيت الحركة الشعرية الستينية (الستينيون العراقيون حققوا هويتهم داخل حركة ثقافية استثنائية في مرحلة حكم العارفيّن التي جاءت مثل هدأة صمت، بعد مرحلة البعث الانقلابية الدموية. لم تكن مرحلة إصلاحية، بل مرحلة فراغ والسلطة فيها ليست كلية الحضور في حياة الفرد والمجتمع. هذه الهدأة منحت الستينيين فرصة الحركة والحياة بطلاقة غير معهودة/ 21/ فوزي كريم/ تهافت الستينيين) وينقل لنا فوزي كريم رأي فاضل العزاوي عن مرحلة حكم العارفيّن قائلا(فاضل العزاوي أكثر نفعا في إبراز مفاتن الستينيين الصارخة فلنتابعه يؤرخ لهذه المرحلة (كانت اللوحة السياسية في عراق منتصف الستينات متنوعة تحمل أثراً من كل لون، أكسبها ذلك الغنى الثقافي الروحي الذي أضفى على الحياة بهجتها المفتقدة منذ زمن طويل. وكان سر ذلك كله يكمن في ضعف الدولة وكفّها عن التدخل السافر في حياة الناس/ فوزي كريم).. وفي السياق نفسه يعلن الشاعر والناقد فوزي كريم (من بين،، الروح الحية،، و،، الموجة الصاخبة،، للستينين في العراق لم تخرج إلاّ بضعة أصوات شعرية خفيضة، أعطت شرعية لبضعة تنهدات رأت فيها ،، صوتا إنسانيا،، ومبعث ،، ارتياح وفرح،، إذ أن تلك الروح الحية والموجة الصاخبة مثلت بصورة جد صادقة هستيريا الرغبة في (تجريد) الإنسان إلى مجموعة أفكار. وأعطت الشرعية لسحقه في عجلة رمزيته، القصائد التي كنت أكتبها كانت أشبه بأغنية في حنجرة راعية على رابية، تطل على مدينة تحترق. كنت أرى الإعلان عن عجزي شجاعة ً. والحديث الشجي عن (القمر والنجوم) على حد تعبير فاضل العزاوي الساخر، عزاء وسلوانا، كنت أرقب الإسهام المتحرق، المؤلّب لمزيد من الثورة، ولمزيد من التجاوز، ولمزيد من الجنون. لكن قراءاتي كانت بمعزل عن كل توجسي الروحي. كانت تحيا في بهو الثقافة العامة/ 44/ تهافت الستينين/ دار المدى/ دمشق/ ط1/ 2006).. ويقول سامي مهدي عن فاضل العزاوي من خلال قراءة سامي مهدي لرسالة العزاوي التي ارسلها من سجن الحلة إلى عبد الرحمن مجيد الربيعي بتاريخ 31/ 10/ 1964 وهي رسالة أدبية عنوانها (كلمات من شاعر) وقول الشاعر سامي مهدي هو كالتالي ( أن العزاوي قد انتبه إلى ميلاد الجيل الجديد، وأنه يطمح أن يضع هذا الجيل(أسس أدب جديد) وأن العزاوي بدا (يضجر) من قصائد السياب والملائكة ومن (جميع الشعراء الذين تفوقوا في أطر الشكل الخطابي والوصفي دون أن يتجاوزوا خطوط عبوديتهم القديمة) فهم على ما يرى (شعراء اجتماعيون)/ ص141/ الموجة الصاخبة).. الشاعر فوزي كريم له رأيه الخاص بطاقات ومواهب فاضل العزاوي، حين يسأله الدكتور حسن ناظم، يجيبه (سأضيف لك عاملاً آخر لا يقل تأثيراً يرتبط بفاضل وحده من أبناء المرحلة الستينية وكانت هذه الموهبة وهذه الخبرة تنمو وتتطور قرابة أربعين عاماً .يحرص فيها فاضل على تكريس ساعات يومه، من الصباح حتى المساء، للتحرير الصحفي والكتابة الصحفية. خبرناه في بغداد منذ مطلع الستينات حتى سفره في منتصف السبعينات ثم خبره العراقيون والعرب المقيمون في قبرص. حتى أن بعض العرب دهشتهم هذه القابلية، صار يبحث عن سرّها في طبائع فاضل اليومية. في النهاية استقر الرأي على أن احتساء الشاي يقف وراء ذلك. لأن فاضل لا فت للنظر في كثرة احتسائه الشاي العراقي الثقيل على امتداد اليوم/ 165/ إضاءة التوت وعتمة الدفلى/ دار المدى/ ط1/ 2013) ولنستمع لشهادة خالد علي مصطفى بخصوص فاضل العزاوي (لم تكن لي معرفة ٌ مباشرة بفاضل العزاوي، كنتُ أسمع عنه وعن شعره، أشتاتا ً من هنا وهناك، تعلي من شأنه ومن قصائده. كما أن معرفتي بما كان ينظم لم تكن تتجاوز قصيدته (يوليس يموت في الغربة) في أحدى أعداد مجلة (المثقف) من عام 1960 إن لم تخني الذاكرة/ 73) ثم يضيف خالد (لا أعدو الحقيقة حين أزعم أنّ إنسانا ً تصدر عنه هذه القصيدة أو مثلها، لا بد أن يكون على شيء من الموهبة، أن إعجابي بهذه القصيدة ما زال على حاله بعد تطاول العمر ومرور أكثر من نصف قرن، تغير فيه كثيرٌ من أذواقنا وثقافتنا وهواجسنا) وفي ص78 يعلن خالد علي مصطفى (..أن شعرية فاضل العزاوي، وأهميتها تأتت لهما من هذه القصائد الغريبة، المستفزة)
ويقول خالد على مصطفى عن الشاعر سامي مهدي(في تقديري أن بداية سامي مهدي الشعرية وأنشطته النقدية تبدّت مع أعوام الضياع والبطالة التي عشناها معاً منذ عام 1964/ 35/ شعراء البيان الشعري)
(*)
في 24/ 5/ 2021 نشرت في الحوار المتمدن مقالتي عن رواية فاضل العزاوي (مدينة من رماد) وكان عنوان مقالتي (عنف الدولة / كائنية المشطور) و تحاوري معه هنا محاولة جمالية صاغية لما يحب قوله في هذه اللحظة بالذات
م: حين تنظر من نافذة غرفتك إلى طريق البحيرة البيضاء الذي يطل عليه بيتك في برلين ماذا ترى..؟
ف: يأخذ الشاعر فاضل نفسا ًعميقا، يغمض عينيه ثم يتهجد قائلا : أرى أكواخاً من القصب والبردي تطفو فوق سطح الماء، حيث يمتد مدى هائل لا نهاية له، أرى سماكين معداناً يقفون وسط مشاحيفهم ويوجهون فالاتهم إلى اسراب أسماك نافرة وأرى صبايا وصبيانا ً عراة يقودون جواميسهم بين القصب. وفي البعيد ثمة طيور ملونة قادمة من قارات أخرى تحلق عاليا
م: أبادر مستغربا متسائلا : أستاذ فاضل ..أين أنت الآن؟ وأي معدان وأنت في برلين..؟
ف: هذه القرية نفس القرية التي كنت قد زرتها قبل سنين طويلة مع زوجتي سالمة صالحة، فضيفنا آدم وزوجته عفراء في صريفتهما العائمة وقدما لنا أرغفة رز مع الشاي والقيمر. أمضينا حينذاك بضعة أيام بتنا فيها في بيوت المعدان، كنت أجلس وأحدق في المعيديات وهن يقدن قطعان جواميسهن الغارقة حتى أعناقها في الماء أو يعدن مساء من مناطق في الأهوار، محملات برزم القصب والبردي، كان يمكن للمرء أن يسمع بين الحين والآخر أغنية ريفية حزينة تنطلق من بعيد عن حبيب اختطفته المدينة
م: والغناء كيف كان في كركوك…؟ سؤالي منبثق من تواجدي في كركوك في 1977- 1979 حين كنت جنديا تسكعتُ في شارع الجمهورية واشتريتُ أشرطة سمفونيات من محل(ألحان) وقرب دائرة الانضباط العسكري كنتُ اشتري الكتب (الكنهة) كم تمنيتُ رؤيتك أيها العزيز ..أو رؤية جليل القيسي
..أنور الغساني.. جان دمو.. مؤيد الراوي ..أو القس السوريالي الأب الشاعر يوسف سعيد.. بالمناسبة سألتقي جليل القيسي في مصعد فندق تعارفنا وفي الممر المؤدي لغرفته حدثته عن (صهيل المارة حول العالم) وعن رأي فيها فوعدني أنه سيحاول استنساخ نسخة.. كما حدثته عن (زليخة البعد يقترب) و(جيفارا عاد أفتحوا الأبواب) التي اشتريتها من محل الكتب (الكهنة) أي القديمة.. اتفقنا على أن يكون ضيفنا فوافق الأستاذ جليل القيسي وأخبرت أستاذنا محمود عبد الوهاب .. ثم بشرنا أبو نوزاد المسرحي والروائي محي الدين زنكنة سنلتقي ليلا… للأسف لم نلتق.. مكالمة من كركوك أخبرته ضرورة العودة لأسباب عائلية مرضية..
ف: أتوقف عند الغناء في كركوك ثم أعود للصديق جليل القيسي.. كان السكارى التركمان عندما يعودن في آخر الليل من الحانات إلى بيوتهم سيراً على الأقدام، وقد استبدت بهم النشوة، يغني بعضهم بصوت مرتل وعال رباعيات شعرية يطلقون عليها باللغة التركية اسم(خوريات) يؤلفونها في اللحظة ذاتها. ما يكاد الشاعر ينتهي من إلقاء قصيدته عن الحب أو غدر الزمان حتى يرتفع صوت من شارع آخر أو زقاق بعيد ليجيب عليه برباعية شعرية تناسب الحال. فيرد عليه الشاعر الأول بقصيدة جديدة، يجيب عليها الشاعر الآخر أيضاً وقد يتدخل شاعر ثالث ورابع في ذلك الحوار الشعري الذي يستمر فترة من الزمن بين أناس لا يعرف أحدهم الآخر. هؤلاء الشعراء
كانوا ينسون قصائدهم الليلية..
م: للأسف أنهم يكتبون قصائد في الهواء وهذه خسائر شعرية فادحة
ف: يبادر موجها راحتيه أمامي ويقول: أطمئن .. الناس الذين استمعوا إليها كانوا يحفظون أجملها وينشرونه في المدينة في اليوم التالي، بدون أن يعرف أحد اسم مؤلفيها المجهولين.
م: لنعد الآن إلى القاص الكبير جليل القيسي..
ف: في زيارة لي مع سالمة صالح إلى أهلي في كركوك، رافقني الروائي الأردني غالب هلسا والناقد التشكيلي عادل كامل. ثم قمنا بزيارة القاص جليل القيسي في بيته الواقع في منطقة التبة وكان معنا الصديق جان دمو، فأحتفى بنا جليل القيسي على عادته بكل ما لذ وطاب من طعام وشراب. في تلك الجلسة وأثناء الحديث عن الأدب انتابت جليل القيسي حالة عاطفية من التواضع جعلته يعلن أن كل كتاباته فاشلة وتخلو من أي قيمة لها. وهنا كان علينا أن نرفض كلامه. فإذا بالكثير من التشفي يخاطبه جان دمو: هل رأيت؟ لقد اعترفت الآن فقط بالحقيقة التي كنت تنكرها. كنت أقول لك دائما أنك كاتب فاشل ولا تعرف الكتابة، لكنك لم تكن تصدقني
م: ماذا كان رد الأستاذ جليل القيسي؟
ف : انفعل جليل وجاهد ليسيطر على نفسه برهة، مردداً على عادته في اللجوء إ لى المقتبسات: (يا ضيفنا لو زرتنا لوجدنا نحن الضيوف وأنت رب المنزل)
م: كيف ترى الأمر من جانبك وأنت صديق الأثنين؟
ف: كل هذا يبدو لي مفهوما الآن، فالغيرة الإبداعية، وهي بالطبع غير الوقاحة أو قلة الأدب التي ينفرد بها مع الأسف بعض كتابنا، يمكن أن توجد في أي ثقافة.
م: عائليا من كان له التأثير الكبير عليك ..؟
ف: لم نكن أغنياء، والدي يعمل في شركة النفط البريطانية رواتبها تثير حسد العمال الآخرين. عمل والدي في الشركة علمّه احترامه الشديد لحضارة الغرب وإعجابه بالتقدم. قبل دخولي المدرسة كنت قد تعلمتُ قراءة القرآن عند الملا.وحينما أنهيت الصف الأول الابتدائي وحلت العطلة الصيفية أمسك بيدي وأخذني إلى معلم آشوري اسمه جبرائيل كان يسكن في منطقة القورية وقال لي إنه سيعلمني اللغة الإنكليزية وهكذا توجب علي أن أقطع كل يوم طريقا طويلة لطفل مثل عمري، مشيا على الأقدام، إذ لم تكن هناك باصات حينذاك، لأتعلم اللغة الإنكليزية.. ولأن حياتي ارتبطت بالشعر، رحت أتابع باهتمام الحركة الشعرية العراقية والعربية والعالمية، منتبهاً إلى أهمية الشعر الإنكليزي بصورة خاصة. مما جعلني أولي اهتماما خاصا بتطوير لغتي الانكليزية عن طريق استعارة أحدث الكتب البريطانية والأميركية التي كانت توفرها(المكتبة الأميركية العامة) والتي ظلت قائمة حتى ثورة 14 تموز.
م: لنبحر للوراء للخطوة : متى صرت شاعراً..؟
ف: بعد صمتٍ مبتسم ٍعميق، يخلع الأستاذ فاضل العزاوي نظارته وبصوت فتي يجيبني : بدأت كتابة الشعر مبكراً. نعم مبكراً جداً. أول قصيدة منشورة لي وأنا في الرابعة عشرة من عمري، وجهة النشر هي جريدة (اليقظة) اليومية البغدادية وكانت قصيدة نثرية. في المتوسطة أقامت شركة الآي بي سي مسابقة أدبية لتلاميذ كركوك بعد زيارة لمنشآتها، لكتابة مقالة عن مشاهداتهم. فزت بالجائزة الأولى حينذاك وقدرها عشرة دنانير، لكنهم أشركوا معي فائزاً آخر من التلاميذ: موفق، أبن متصرف كركوك. وهكذا أتيحت لي الفرصة لألتقي بالرجل الأسطورة، مدير شركة النفط، المستر تيسو الذي سلمنا الجائزة بنفسه.
في طفولتي جذبني التراث العربي القديم فأخذت بالإيقاعات السحرية للغة القرآن وفخامة الشعر العربي الكلاسيكي وأسطورية عوالم (ألف ليلة وليلة) والقصص الغرائبية التي كنت أسمعها من الكبار، قبل أن أصل إلى الشعر العربي الحديث الذي أنطلق من العراق بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بفترة وجيزة.
م: ننتقل إلى موضوعة نازك الملائكة والريادة الشعرية العراقية.. كيف يرى الشاعر فاضل العزاوي الشاعرة الريادية الكبيرة نازك الملائكة؟
ف: من خلال قصيدة نازك والسياب صار الشعر أكثر التصاقا بالحياة الحقيقية للإنسان وأكثر حساسية في التعبير عن مواقفه من العالم الذي يعيش فيه. فالصوت هنا هو صوت الشاعر الشخصي والخاص والاستثنائي، مقابل
الإيقاع الخارجي الذي شكله تاريخ طويل من القصائد المكررة المسطحة.
نازك بهذا المعنى شاعرة رائدة فتحت الباب للقصيدة العربية الحديثة التي سارت بالتجربة إلى أقصى مدياتها. رغم أن نازك نفسها لم توافق على هذا المآل. فإذا كانت نازك تبدو مبتكرة ومجددة في قصائدها وكتاباتها النقدية
الأولى فإنها صارت فيما بعد أكثر صرامة ومحافظة في تقييم التجارب الشعرية الجديدة للجم التطور الكبير الذي شهدته القصيدة العربية التي أعقبت قصيدة الرواد. لا ينكر أن (عاشقة الليل) ديوانها الأول كرس سمعتها كشاعرة كبيرة.. أن نبرة نازك الرومانسية الحزينة سحرت الكثيرين، فضلا عن لغتها الرصينة الخاصة بها. أما سمعتها كشاعرة مجددة فقد جاءت مع ديوانها الثاني(شظايا ورماد) و(قرارة الموجة) في حين شكل ديوانها (شجرة القمر)
خيبة بالنسبة للكثير من شعراء الحداثة.. نازك امتلكت ما يكفي من الشجاعة والإخلاص مع نفسها لتتوقف عن الكتابة.
م: أن من خلال مسيرتك الإبداعية تؤكد دائما على أهمية (الكتابة الجديدة) شخصيا أعتبر ما بين القوسين مفهوما عائما بالنسبة لي .. أتمنى عليك توضيح الأمر لي ولسواي ..ماذا تعني لك (الكتابة الجديدة)؟
ف: بضجيج أكثر، أثيرت في منتصف ستينات القرن الماضي فكرة الكتابة الجديدة، فظهرت قصائد وقصص وروايات متعددة في أدبنا العربي يملؤها هذا الهوى. وفي الطرف الآخر كان ثمة من يزعق بوجه هؤلاء الفتيان الباحثين عن قارات جديدة، داعيا ً إياهم للعودة إلى أصالة متروكة في ماض بعيد، يسكنه أسلافهم الغابرون
م: من خلال خبرتك الشعرية الغزيرة، أتمنى عليك تعريفا للشعر..؟
ف: يصعب عليّ أن أقدم تعريفا واحداً للشعر.
م: ما كنه هذه الصعوبة ..؟
ف: لأنني لا يمكن أن أضع أي حدود أمام حرية الشاعر في الوصول إلى ما هو شعري في الحياة. لا حدود للطرق التي يسلكها الشاعر في الوصول إلى القصيدة. وفي النهاية يكتب الشاعر قصيدته لا لكي ينقذ البشرية من جحيمها، واعدا بالفردوس، وإنما ليقول حقيقة الحياة نفسها. وكل عمل جديد للشاعر هو امتحان جديد له.
م: من هو الشاعر برأيك أيها الفاضل العزاوي..؟
ف: هو الذي يرى العالم دائما بعين المكتشف، حيث كل شيء ينهض أمامه للمرة الأولى. الشاعر هو الذي يدخل كل مدينة للمرة الأولى، على العكس يكون الكاهن أو العقائدي الذي يرى ما كان قد رآه دائما.
م: لا أريد وداعا أيها الشاعر الرائي والباحث عن الصاعق اللغوي …
ف: حسنا يا صاحبي البصري أهديك هذه الحكاية الصغيرة: كنتُ أسير في أحد شوارع مدينة بريمن مع الهولندية هاخر بيتيرس وهي شاعرة شابة حقق ديوانها الأول أعلى المبيعات .ألتفت إلي قائلة ( أحسدك لكونك من بلد ضاج بالمشاكل. هناك الكثير الذي يمكن أن تكتب عنه. في بلد مثل هولندة لا يكاد يوجد ما يستحق الكتابة عنه).