تمر علينا الآن الذكرى الثانية والثلاثون لمجزرة حلبجة الشهيدة، لقد أعادت فاجعة حلبجة في السادس عشر من شهر آذار/مارس عام1988م الى أذهاننا وضمائرنا قصة أصحاب الاخدود في مدينة نجران اليمنية( الآن تابعة للمللكة العربية السعودية) التي قام بها السفاح (ذو النواس الحِميَري) في سنة 542م ضد الموحدين المؤمنين برسالة السيد المسيح (عليه السلام)، وكيف أنهم لم يتنازلوا عن مبادئهم. فلذا أمرالملك اليهودي ذو النواس الحِميَري بحفر أخاديد لهم في الارض وأضرم فيها النيران، وطلب منهم تغيير دينهم، فلما رفضوا، ألقاهم في تلك المحرقة، حيث ماتوا جميعا حرقاً، وقد أنزل الله سبحانه وتعالى قرآنا في سورة كريمة تتلى الى يوم القيامة ويتعبد بها المسلمون في صلواتهم وأدعيتهم في مشارق الارض ومغاربها: { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9). سورة البروج: الآية 1- 9.
فماذا ياترى لو أنزل الله قرآنا الآن فماذا يقول عن مجزرة حلبجة وعن المسبب؟، لقد فعل صدام حسين بالكرد وغيرهم أضعاف مافعله فرعون ونيرون وذو النواس وغيرهم من طواغيت الارض، أحرق صدام وزبانيته أمثال: علي حسين المجيد الملقب بالكيمياوي وبرزان ابراهيم الحسن الاخ غير الشقيق لصدام حسين، وطه الجزراوي (خادم صدام الامين) وغيره مدينة حلبجة الجميلة المسالمة الوادعة في حضن جبل شينوار لا لشىء فعلوه إلا أنهم كرد مسلمون، فهذه المدينة من المدن المشهورة بتدينها العميق الجذور، وأخلاق أهلها الطيبة الزكية، فقط إن حلبجة قالت لصدام وزبانيته لا للبعث، لا للطغاة، لا للمستكبرين، لا للرذيلة. وتكشف الوثائق التي حصل عليها من أوكار الاجهزة الأمنية للنظام العراقي السابق (=الامن، والاستخبارات، والمخابرات)، أن صدام وزبانيته كانوا يضمرون شراً لهذه المدينة منذ أمد بعيد، فهذه كانت عصية عليهم عصيان جبال كردستان الشماء، فلذلك أرادوا النيل منها ومن أهلها الطيبين فكان لهم ما أرادوا، ولكن التاريخ كتب بأحرف من نور بسالة وعنفوان وتضحية هذه المدينة وتحديها للطاغوت البعثي، وأصبحت مثلا على ظلم الانسان لأخيه الانسان، حيث نزع الله الرحمة والشفقة من قلوب هؤلاء الطيارين القتلة الذين القوا قنابل الموت والدمار على مدينة عراقية مسلمة وليست مدينة يهودية أو أمريكية أوصهيونية كما يتسنى للاعلام العربي القومي ان يطلق هذه الشعارات على اعداء الامة العربية ؟!
ومن جانب اخر فأن الاعلام العربي بل حتى الاسلامي لايشير الى هذه الفاجعة التي ألمت بشعب شقيق طالما دافع ونافح عن حقوق المسلمين، فلما ضرب هذه الضربة القاضية، تسنى للبعض القول بان (الاكراد يستحقون ذلك لانهم انفصاليون وعملاء للفرس المجوس ولليهود الصهاينة ؟!)، ولم يتناطح فيها عنزان، والاعلام العربي وحتى وزراء العديد من الدول العربية حاولوا التغطية على هذه المأساة واعتبارها شأناً داخلياً لايجوز البت فيه، أو انها حدثت لطائفة من الجن كشف الله عنهم الغطاء يعيشون في جزر الواقواق ومعذرة للرحالة المسلم الادريسي.
ان على الاعلام العربي تحديدا اعتبار هذا اليوم 16/3/1988 نكبة المت بالامة العربية مثل نكسة حزيران1967م، والاعتذار للشعب الكردي عامة ولمواطني مدينة حلبجة خاصة، وعليهم كما بنوا مدن مثل: قناة السويس، وبورسعيد، والإسماعيلية التي دمرها الاسرائيليون في حروب 1956م و1967م و1973م ؛ ان يبنوا ويشيدو مدينة حلبجة والقصبات والقرى الصغيرة المنبثة حولها التي تعرضت للضربة الكيمياوية، وبناء المدارس والمعاهد والمصانع لأهلها فضلاً عن بناء مستشفى متخصص لامراض السرطان التي يشكوا الالاف من اهل حلبجة منها نتيجة تعرضهم الى غاز الخردل والسيانيد، عسى ان تكون هذه بداية الطريق لاقامة علاقة سوية وطيدة بين الجانبين العربي والكردي .
ان صدام حسين وزمرته الباغية لايمثلون الشعب العربي، ولكن بكاء البعض عليه ودفاعهم المستميت عنه أعاد الى الاذهان بأن صدام حسين هو أحد قادة العرب وحارس البوابة الشرقية!، فلذلك نرجوا من هؤلاء المغرر بهم اعادة حساباتهم من هذا الدكتاتور الارعن الذي كان يمسك القرآن الكريم بيديه أثناء محاكمته، والتي طالما أستغل أسماء سورها وآياتها الكريمة لشن عمليات، قتل بها الآلآف من المسلمين الابرياء من: الكرد ومن الشيعة وبعض أهل السنة لا لذنب ارتكبوه إلا أنهم لم يمشوا في ركبه، ولم يذعنوا له بالطاعة المطلقة، كأنه هو الواحد الأحد (جعل بعض زبانيته له تسع وتسعون إسماً، على غرار الأسماء الحسنى) – تعالى الله وتقدست أسماؤه عما يقول صدام حسين وزبانيته علواً كبيراً- .
وللامانة العلمية فإن التاريخ لا يرحم أحداً، فهذه الجريمة النكراء لا تقلل من أخطاء وتجاوزات بعض قيادات الأحزاب الكردية التي بررت لصدام حسين وقياداته بالقاء السلاح الكيمياوي على حلبجة وأطرافها؟!، بعد أن أغروا وسهلوا مهمة إدخال الجيش الإيراني الى حلبجة وأطرافها، والحرب العراقية – الإيرانية على أشدها؛ وكانوا يعرفون سلفاً بأن صدام حسين سوف يستعمل الأسلحة الخاصة!، وكان قد هددهم مسبقاً، جاء ذلك من خلال التراشق الإعلامي بين قياديين كرد على مستوىً عالٍ قبل عدة سنوات.
وختاما أطلب من أصحاب الاتجاهات الاسلامية العربية وغير العربية، وغيرهم من التيارات القومية والليبرالية واليسارية والماركسية على حدٍ سواء، تغيير مواقفهم وأن يعلنوا بكل وضوح وشفافية ما جرى في تلك الحقبة من مآسي ونكبات على يد النظام السابق، ليس أقلها مجزرة الانفال، وان لايقولوا بأن العراق محتل الآن وأن صدام الآن في ذمة الله جلت قدرته، وعلينا ان لانمسه وأركان نظامه بسوء وهم في السجون ومشردين في بقاع الارض، لأن الجريمة لا تنتهي بتقادم الزمن وفق القاعدة القانونية، بل المطلوب بيان الحقيقة كل الحقيقة، والاعتذار، وعلى البرلمان العراقي سن تشريعات قانونية ملزمة للحكومة العراقية لدفع التعويضات المناسبة لأسر الشهداء والمعوقين والمرضى، على غرار ما تفعله المانيا مع ضحايا المحرقة اليهودية الذين قتلهم الزعيم النازي هتلر أثناء سنوات الحرب العالمية الثانية؛ حتى تهدأ نفوس الكرد عامةً، وأهالي الضحايا والمنكوبين في حلبجة خاصةً، لأن الجراح عميقة عمق وديان كردستان، ومن الصعوبة بمكان اندمالها ونسيانها في المستقبل القريب.
وغني عن القول أن الرئيس العراقي الاسبق صدام حسين برعونته وجبروته واستخفافه بالأمور، هوالذي كان السبب في احتلال أمريكا لهذا البلد العريق، وجعله فريسة سهلة لهؤلاء: الدخلاء، والعملاء، والسراق…الخ، الذين لا زالوا ينهبون ثروات وامكانيات هذا البلد، ومظاهرات العراقيين بشتى فئاتهم وانتماءاتهم الدينية والاثنية والمذهبية في الساحات العامة والشوارع لعدة أشهر مضت ولا زالت أكبر دليل على ذلك..