23 ديسمبر، 2024 8:53 ص

فائق بطي الباحث عن الحقيقة… في ذكرى أربعينيته

فائق بطي الباحث عن الحقيقة… في ذكرى أربعينيته

في دورة تدريبية للصحفيين الشباب ضمت عددا غير يسير من الشباب الطمّاح الى الاستزادة من العلم والرَّغوب في اكتساب الخبرة عن ايدٍ متمرسة، حكيمة ذات باع طويل في بلاط صاحبة الجلالة، أسعدنا الحظ أن كانت ضمن منهاج الدورة محاضرة لعميد الصحافة العراقية الدكتور فائق بطي. ذلك الانسان الراقي ذو النفس الصافية التي انعكست ابتسامة عذبة على محياه، منذ ذاك، لا أذكر أني التقيت به يوما إلا وكانت تلك الابتسامة مفتاح الحوار و خير مشجع لي و لأي صحفي أو كاتب شاب مبتدئ ليلج حلقة نقاشية مصغرة لن يخرج منها قطعا خالي الوفاض ما دام الحديث يسري إلى قامة ملء قامة الأستاذ الدكتور الصحفي العميد، والمناضل العنيد، الراحل الفقيد، فائق بطي، الذي غادر عالمنا يوم الاثنين 25 كانون الثاني 2016 في العاصمة البريطانية بعد صراع مع مرض عضال.
لاحقا أتاح لي عملي في قسم الإعلام بالمديرية العامة للثقافة والفنون السريانية اللقاء الشخصي بباقة منتخبة من المبدعين العاملين في ميدان العمل الثقافي، كان من أبرزهم الدكتور بطي الذي كان مشاركا شبه دائم في المؤتمرات والحلقات الدراسية التي كانت تنظمها المديرية العامة في ذلك الوقت وقد أغنى جلساتها بمحاضراته ومداخلاته وتعليقاته الرصينة لاسيما في الحلقة التي اتخذت من اسم الراحل رفائيل بطي، والده، اسما وعنوانا أبرز. وكانت فرصة طيبة أن أراسل الراحل عبر (الايميل) للاسترشاد برأيه فيما أكتب وتاليا لم يكن أي لقاء يمر دون أن يسألني عن الجديد ويدعوني لإرساله إليه قبل نشره، مما يبعث
في الغبطة ويحفزني على الاستزادة من المعرفة والاطلاع لتكون كتاباتي مستحقة للإشادة التي كان يخصني بها.
عام 2009 كان الدكتور فائق بطي احد المكرمين في ختام إحدى الفعاليات الثقافية بعنكاوا، يومها طرحت عليه سؤالا مفاده: كصحفي يساري مخضرم، كيف تنظر إلى تكريمك كرائد من روّاد الثقافة السريانية؟ فقال: «أنا لا أعتبر نفسي مكرماً لكوني مثقفاً قومياً، لأن السريان جزء مهم من الثقافة العراقية، وقد أعطوا الكثير الكثير، وهم جزء فاعل في الثقافة العراقية. الأمر الجيد هنا هو إلتفاتة وزارة الثقافة في اقليم كوردستان ممثلة بالمديرية العامة للثقافة والفنون السريانية وتوجهها لتكريم هذه النخبة من المثقفين السريان. وأتمنى لو تحذو وزارة الثقافة العراقية حذوها وتكرم الجمهرة الواسعة من مثقفي العراق بكافة انتماءاتهم: (كورد، عرب، سريان، كلدان، آشوريين وتركمان) لأنهم جميعاً كما هو الحال مع الثقافة السريانية روافد مهمة للثقافة العراقية عامة».
إذ لم يرقه أن يطلق على العمل الصحفي (مهنة البحث عن المتاعب)، خلع عليها تسمية فيها الكثير من التقدير والاحترام الا وهي (مهنة البحث عن الحقيقة)، لخطورة فعلها وتأثيرها على حياة البشر، معتبرا أن خطأ طبيب واحد قد يؤدي بحياة شخص او أكثر، لكن نشر تحريض او أكاذيب قد يتسبب بموت الآلاف.
الموسوعي فائق بطي
العمل الموسوعي في رأي كثيرين لا يمكن أن يكون مسؤولية فردية، بل هو عمل مؤسسي ويحتاج إلى الكثير من الجهد والدعم الأمر الذي لم يتوفر كثيرا للدكتور بطي، ورغم كل ذلك قدم للصحافة العراقية والكوردية والسريانية ثمار الجهد الكبير بل الجبار المبذول في إعداد موسوعات متعددة للصحافة في العراق، وهو الجانب الأكثر تميزا الذي نود تسليط شيء من الضوء عليه، بدءا من (الموسوعة الصحفية العراقية) الصادرة في 500 صفحة عن دار المدى عام2010. حاول فيها أن يسجل «تاريخ الصحافة العراقية بصورة موسعة شاملة وبتجرد تام تقتضيه مصلحة الأمانة في سرد وقائع الأحداث التاريخية، لتكون خير مصدر للأجيال القادمة في دراسة تاريخنا السياسي من خلال دراسة تاريخ صحافتنا الزاخر بالمواقف والمعارك والبطولات لشعبنا ورجالنا وقادتنا وحملة الأقلام الحرة. وفي محاولتي هذه إنما أطمع في تزويد المكتبة العراقية والعربية بأهم مصدر من مصادر الصحافة العراقية مستندا على مصادر أولئك الأوائل الذين حاولوا تسجيل هذا التاريخ بصدق وأمانة معتمدا على مجلدات الصحافة نفسها ومقابلات مع من تبقى من الرعيل الأول على قيد الحياة وأولئك الذين عاصروا وشاركوا في دفع عجلة الصحافة الى الأمام». وجاءت هذه الموسوعة في عدة فصول:
(الزوراء.. ميلاد الصحافة العراقية 1869، الانقلاب الدستوري.. ميلاد الصحافة الخاصة 1908، من الاحتلال الى الاستقلال 1914-1921، من الاستقلال حتى المعاهدة الجائرة 1922-1930، من المعاهدة.. حتى الحرب العالمية الثانية (تطور الصحافة العراقية 1930-1939، الصحافة الحزبية/السرية
والعلنية منذ الحرب العالمية الثانية حتى ثورة 14 تموز 1958، الصحافة العراقية في ظل ثورة تموز 1958 والحكم الجمهوري، الصحافة الحزبية بعد ثورة 14 تموز 1958، الصحافة العراقية 1963-1967 تعدد الامتيازات.. ثم القطاع العام، التطور الصحفي 1968-1972، التنظيم النقابي في العراق 1959-1973 وبعض النماذج من الصحف والمجلات الصادرة بين 1922-1958). وفيها الكثير من الجهد الواضح لإدراج الصحف والمجلات كلها قدر المستطاع مع توفير جداول بأسمائها وصور من الصفحات الاول لعدد غير يسير منها لاسيما الموغلة في القدم.
وفي وقت لاحق عمل على إصدار موسوعة مفصلة عن الصحافة الكوردية جاءت في 885 صفحة وصدرت عن دار المدى ايضا، حظيت بإشادة وتقدير كبيرين في الأوساط الثقافية الكوردية خصوصا، لاسيما وأن صاحبها ليس بكوردي مما يسجل له في باب الحياد والبحث العلمي الرصين بعيدا عن المحاباة والمجاملة، فهو يرى أن «الصحافة الكوردية تاريخ هام، ومكمل لتاريخ الصحافة في العراق، وسجل حافل فاعل، تفاعل بموضوعية وجرأة وصدقية مع مجمل الأحداث التي مرت بالعراق الحديث، وطنا وشعبا، حيث لعبت ولعب صحفيوها الرواد دورا بارزا في تعميق الأواصر العربية الكوردية (…) وهي، لكونها صحافة فكر ورأي، عمقت، بدورها، مفاهيم الوطنية، وحددت الهوية القومية لشعب كوردستان العراق طيلة سنوات النضال التحرري ضد التواجد الأجنبي، وضد الحكومات الرجعية المتعاقبة على دست الحكم، وناضلت من أجل حرية وسيادة الوطن وبناء الدولة على أسس راسخة من الديمقراطية والعدالة والاعتراف بالحقوق القومية للشعب الكوردي. (…) كتب عن مولدها وتطورها كثيرون في الصحف والمجلات العربية والكوردية، وتناول البعض من المؤرخين نشأتها وتعداد الصحف والمجلات في مسيرتها، قبل وبعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958،(…) الا ان الملاحظ لكل متتبع او باحث هو غياب دراسة توثيقية (موسوعية) لكل مراحل تطور الصحافة الكردية وفي كل جوابها، كتاريخ ملازم لهذا الكم الهام من الإصدارات منذ ميلادها عام 1898 (جريدة كردستان)، حتى يومنا هذا، المستقلة منها والحزبية والمتخصصة ومجلات المنظمات والمؤسسات، إضافة إلى صحافة المنافي والمهجر الغنية بمادتها والصريحة في طروحاتها الفكرية والسياسية».
حملت الموسوعة عنوان (الموسوعة الصحفية الكردية في العراق: تاريخها وتطورها). تناولت في فصولها الثمانية المراحل التاريخية للصحافة الكوردية، هي: (البدايات، تطور الصحافة الكردية، صحافة المنظمات والجمعيات والمؤسسات، صحافة الاحزاب السياسية، الصحافة الكردية في المنافي، الصحافة الكردية في ظل الانتفاضة، الصحافة الكردية بعد سقوط الدكتاتورية 2003، رواد واعلام في الصحافة). وإذ كانت الموسوعة على درجة عالية جدا من الاستفاضة نستغرب خلوها من فهرس للموضوعات وعناوين الفصول، وربما يكون الأستاذ بطي قد لجأ الى الإسهاب رغبة في عدم إغفال أي مطبوع مهما كانت درجة أهميته كونه يعمل على أول كتاب يجمع بين دفتيه كل ما نشر في باب الصحافة الكوردية.
ولانه خبر المنافي سنوات طويلة وعمل بصحافة المنفى عمل على تدوين مسيرتها كجزء من تاريخ الصحافة العراقية، خصوصاً وأن الصحف والمجلات كانت تتمتع بقدر كبير من الحرية مما حفز على الإبداع الذي يجعلها جديرة بالتدوين والتأريخ لها، يتكون الكتاب من مقدمة وأربعة فصول هي (صحافة الأحزاب والكتل السياسية، الصحف والمجلات الثقافية، صحف ومجلات المنظمات والجمعيات والنوادي والصحافة الخاصة) وقد تصدى لهذا العمل رغم صعوبته وربما استحالته نظرا لاتساع رقعة المنافي وتعدد الادباء والصحفيين الذين أرغموا على قصدها مما وسع دائرة نشاطهم حتى تكاد تشمل الكرة الارضية بأسرها.
ومسك ختام العمل الموسوعي الجليل للرائد فائق بطي كان مع موسوعة الصحافة السريانية في العراق .. تاريخ وشخصيات الصادرة عن المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية، التي يستغرب المتابع من إدراجها ضمن خانة (تحت الطبع)، جاء ذلك في نعي أصدرته اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، ونشرت (المدى برس) نسخة منه. والغريب اعتبار كلا الجهتين كتابا مهما صدر قبل عدة سنوات وحظي بحفل توقيع شهد حضورا متميزا وتغطية اعلامية جيدة، ما يزال تحت الطبع!
وقد تضمنت الموسوعة ثمانية فصول (البدايات، دور السريان في تطور الصحافة العراقية 1929-1945، السريان بين السياسة والصحافة 1947-1957، السريان يواكبون تطور الصحافة/ثورة 14تموز 1958 حتى عام 1978، نمو وتعدد إصدارات الصحافة السريانية1979-2003، صحافة الأحزاب والحركات السياسية، الصحافة السريانية بعد سقوط نظام صدام حسين2003-2012 واخيراً الصحافة السريانية في المهجر والمنافي).
أوضح في تقديمه لها أنه «كما عرف العراق ميلاد الصحافة العراقية عام 1869 بصدور جريدة (الزوراء) إبان حكم الوالي مدحت باشا للبلاد، كذلك دخل السريان باب الصحافة باللغة العربية منذ عام 1902 بصدور مجلة (اكليل الورود) في مدينة الموصل وهي أول مجلة دينية شهرية أصدرها واشرف عليها الآباء الدومينكان إلى جانب مجلات أخرى أصدروها في الموصل وبغداد، اما بداية الصحافة السريانية الحقيقية عبر التاريخ فقد كانت بصدور صحيفة (زهريرى بهرا) //الصحيح زهريري دبهرا// وتعني بالعربية (اشعة النور) وذلك في الاول من شهر تشرين الثاني 1849 في أورميا- إيران كجريدة شهرية ومن ثم نصف شهرية بأربع صفحات، وكانت اقرب إلى الصحيفة منه الى المجلة لما تضمنته أعدادها من الاخبار المحلية والعالمية ومقالات تعليمية عن اللغة والأدب والجغرافيا (…) لقد لعب السريان في العراق كما في البلدان العربية دوراً بارزاً في الثقافة العربية وبرز منهم رجالات ورواد في شتى فروع هذه الثقافة تركوا بصماتهم المتميزة في سجل الثقافة والصحافة (…) وأول عمل قام به الآباء الدومنكان حتى قبيل الانقلاب الدستوري العثماني عام 1908 هو اصدارهم لمجلة (اكليل الورود) في كانون الثاني 1902في مدينة الموصل(…) كما اصدروا مجلة (زهيرة بغداد) في اذار 1905 وكانت شهرية وأول محرريها هو الكاتب
واللغوي المعروف الأب انستاس ماري الكرملي». وقد تميزت هذه الموسوعة بفهرس يسهل الاستدلال على الفصول.
جدير بالذكر ان عائلة بطي رفدت الثقافة العراقية بعدد كبير من المبدعين فضلا عن الدكتور فائق بطي ووالده الصحفي والسياسي رفائيل بطي، فمن أشقائه من كان رائدا في مجال المسرح والأدب حيث كان سليم بطي من أوائل من كتبوا المسرحيات في الثلاثينيات وكان من رواد الحركة المسرحية مع حقي الشبلي وسواه وشقيقه الآخر فؤاد بطي كان من أوائل كتاب القصة في العراق. لكن رفائيل توسم في أصغر أولاده سنا الرغبة في امتهان الصحافة وخوض غمار السياسة، فكان كثيرا ما يستصحبه إلى إدارة جريدة (البلاد) ليبدأ المران مبكرا، وليكون لاحقا القامة الكبيرة فائق بطي.