تمر الكثير من الدول الديمقراطية المستقرة بحالات من الانحسار والمراوحة في المكان بسبب عدم الاستجابة السريعة لمطالب المواطنين, ولكن تتم الاستجابة تدريجيا او دفعة واحدة حسب طبيعة المطالب وحجمها ومقدرة الحكومة على تمثلها وامتصاصها لأغراض تنفيذها, وقد يكلف ذلك الأتيان بحكومة جديدة قادرة على استيعاب وتنفيذ المطالب, وقد ينعكس ذلك على اعادة تشكيل الخريطة السياسية للقوى السياسية في البلاد الذي تجسده ضرورة اعادة الانتخابات البرلمانية وما يصحبها من اعادة اصطفاف للقوى السياسية.
العراق هو من البلدان التي لا تنطبق عليه سنة الحياة الديمقراطية في استيعاب متغيرات الحياة اليومية والتي تفرز الكثير من المطالب التي تستدعي المزيد من اعادة اصطفاف القوى السياسية, ومع كل انتخابات او اصطفاف جديد فهو ينتج نفس التحالفات السياسية التي انتجها كل مرة, والتي في جوهرها تدافع عن الفساد وتحميه ولا علاقة لها بالاستجابة لظروف الحياة المتغيره بدون انقطاع, وبالتالي نحن امام منظومة سياسية تشتغل خارج اطار الزمان والمكان الذي تعمل فيه, ومن هنا يأتي اغتراب المواطن عن النظام السياسي وانعدام ثقته به.
بعد سقوط الدكتاتورية عام 2003 لم تكن القوى السياسية راغبة في المشروع الوطني العراقي, وقد بنيت العملية السياسية على اساس تراكمي, من اخطاء الاحتلال الامريكي, الى جانب أرث الدولة السابق القمعي, توظيف الورقة الطائفية والاثنية في بناء العملية السياسية, الى جانب تدني اداء النخب السياسية والتي لا تمتلك تجربة في بناء الديمقراطية, بل ان معظمها غير مؤمن بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة اصلا, الى جانب الفساد الاداري والمالي الناتج من طبيعة النظام, وقد زاد الامر تعقيدا هو الارهاب بمختلف اشكاله, وكانت داعش تلك الخلاصة لما جرى, وكذلك تدخل الدول الاقليمية وعبثها في القرار العراقي وارتهانه لمصالحها الضيقة. واذا كان هناك من انجاز يذكر” من بركات الاحتلال ” هو التدوال السلمي للسلطة, ولكن حتى هذا تم تجاوزه والاستعاضة عنه بحرق صناديق الاقتراع وتزوير ارادة الناخب وفرض ارادة اخرى لا تنسجم مع مبدأ التداول السلمي للسلطة.
.
الحالة العراقية تمثل نموذجا للأحباط المزمن، فمع سقف عالي من التوقعات وبعد عهود الاستبداد والدكتاتورية والحروب والحصارات الداخلية والخارجية وجوع مطبق، تولدت لدى المواطن العادي امال عريضة بحياة رغيدة وبمرحلة سياسية يلتقط فيها انفاسه ويعوض ما فاته، وخاصة بعد انفتاحه على العالم الخارجي بكل ما فيه من مغريات وطموحات يدفع العراقي بنفسه للمقارنة مع الآخر خارج الحدود” وهو يمتلك كل الامكانيات المادية والاستعدادات النفسية “, ولكن عندما يجد نفسه محاطا بكم كبير من المشكلات وضغط يومي من الخطابات السياسية والاعلامية التي تشعره بالعجز والاحباط مضافا لها تدني قدرات جهاز الدولة وتراجع امني وضياع سلطة القانون وأستشراء الفساد وتنامي سلطة العشيرة، وانتشار المليشيات المسلحة وحملة السلاح الفردي والعصاباتي, فان حصاد ذلك سيكون خطيرا على الحالة النفسية للفرد تزيده احباطا وتفقده الثقة بالزعامات والاحزاب السياسية وخاصة الطائفية السياسية, التي استغلت المشاعر البدائية للمواطن واستخدمته لتجييش المشاعر السلبية وتوظيفها في خدمة الصراعات الطائفية وتشديد قبضة خطاب الكراهية للآنتقام والانتقام المتبادل بين مكونات المجتمع الواحد.
أن تأزم الاوضاع المستديم يستنهض مشاعر الغضب والقلق والخوف والتوتر والظلم والقهر والضياع والشعور بعدم الأمان، ببعضها البعض، وتختلط بكل ما هو سلبي في حياة الفرد، توصله بكل تأكيد، ورغماً عنه، إلى حالة ذهنية تسمح للإحباط واليأس أن يحتل أوسع مساحاتها، وتشعره بالعجز التام، وتبعده مسافات ومسافات عن تحقيق آماله، فتتقطع به سبل النجاة. حالة الإحباط هذه التي تواجه الإنسان وتقف حائلاً أمام تنفيذ رغباته وتقتل فيه روح الطموح، تنتزع منه، في الوقت نفسه، أسباب الخوف وتحرره من هيمنتها، وتحول الوجه السلبي للإحباط إلى وجه آخر إيجابي وفعال، ينفجر ليصنع غدا آخر حين يجد هذا الفرد نفسه وسط حشد كبير يشترك معه في مشاعره وأهدافه. عند ذاك يتحول الإحباط من قوة سلبية ساحقة ومدمرة للفرد، إلى قوة إيجابية جبارة تدفع نحو التغيير.
أن الجماهير حين تعاني من الفقر طويلا وتستشعر الظلم أو الطغيان أو إهدار الكرامة قد تسكت لبعض الوقت ولكنها عند نقطة تنفجر انفجارا قد يبدو مفاجئا ولكنه ليست كذلك, فتتحول إلى قوة مدمرة للسلطة, وقد يمتد أثره إلى ابعد من السلطة, فالغضب الجماهيري يكون مثل الطوفان لا يعرف احد إلى أين سيتوقف ومتى, فبركان الغضب الخالص يسعى نحو التدمير والتغير ولا يوجد ميزان حساس في هذه الظروف يوازي بين قدرة تدمير النظام الحاكم ومؤسساته القمعية المرفوضة وبين قدرة التميز لحدود التغير المطلوب, ويزداد حدة أكثر عندما تنعدم القيادة الميدانية للأحداث, أي أن الانفجار يحدث في بدايته كبراكين غضب دون ترتيب سابق ودن هدف محدد غير الانتقام ممن قهرها وأذلها وجوعها وخدعها.
أن الثورات والانتفاضات والاحتجاجات اليوم لا ينطبق عليها المفهوم التقليدي المنظم سلفا كما كان يحصل في عقود خلت, حيث الأحزاب تقرر مسبقا مستوى النضج الذاتي للبدء بالأفعال الثورية, تعقبها ” ساعة الصفر “, فالأمر اليوم معكوس تماما, حيث تبدأ الجماهير دون سابق إنذار بإعلان انتفاضها واحتجاجها ثم تطلق دعوتها للأحزاب والقوى السياسية للالتفاف حولها, فالجماهير هي القائد الميداني للأعمال الثورية, أما دور الأحزاب فيأتي متأخر نسبيا عن الحدث ليحول مشاعر الثوار إلى برامج سياسية ملموسة كما يضفي على مسحة الغضب الثوري بعدا أكثر منطقية من خلال ارتباطه بأهداف مصاغة ومقننة ” على افتراض توفر حالة النضج السياسي لدى الأحزاب من خلال تمثل قيم الوطن والمواطنة باعتبارها مصلحة عليا”.
إذا كانت الثورة الاجتماعية تعرف بأنها ذلك التغير الجذري, الذي يشمل البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة, وتشكل تغييرا جذريا شاملا في المجتمع يؤدي إلى أحلال تشكيلة اجتماعية اقتصادية بأخرى أرفع مستوى وأكثر تقدما. وأنها تغيير جذري للنظام القديم, وإقامة نظام جديد ومؤسسات جديدة. أي إنها في الإطار العام قفزة للمجتمع من مرحلة إلى أخرى أكثر تقدما وتطورا ورقيا, فأن عوامل إحداثها اليوم يفوق حصرها في عوامل الفقر فقط, وان كان شرطا لازما لها, ولكن الثورة اليوم هي فعل مركب تتضافر فيه الكثير من العوامل في عالم متغير بدون انقطاع, فليست كل من جاع ثار على أوضاعه القائمة, وقد يكون هذا التعقيد في أسباب الثورات اليوم هو احد العوامل الأساسية التي جعلت الأحزاب السياسية تتأخر عن الحدث نسبيا, أما أهم ابرز عوامل الثورات فيمكن إيجازها فيما يأتي: الفقر وسوء توزيع الثروات وانعدام فرص العمل والتشغيل؛ انتشار الفساد المالي والإداري وتأصله في الكثير من المجتمعات وهو جلي في الحالة العراقية؛ الانخراط الواسع في منظومة الاتصالات العالمية الحديثة واستعمال الوسائط الرقمية بكفاءة عالية وخاصة المنتديات الاجتماعية مثل الفايسبوك والتويترر واليوتوب وتشكيل منظومة من الاتصال الجماعي والإعلام الشعبي الموازي والمهدد لأعلام السلطات القمعية؛ الانفجار السكاني الهائل وارتفاع نسبة المواليد والتي تصل في الدول العربية إلى أكثر من 3% ” وخاصة في العراق ” وهو نذير بمزيد من الفقر والمعاناة في ظروف عدم التوزيع العادل للثروات مما يخلق حالة من الوعي المتوقع بمخاطره كما تشكل فئة الشباب الكتلة الأكبر في التركيبة السكانية وذات المصلحة الأساسية في التغير؛ ازدياد الوعي والحماس اللازمين للتغير والذي يدفع صوب المزيد من الغليان الشعبي والغضب العام وتولد الاستعدادات الكبيرة للتخلص من النظم السائدة وإتباع كافة الوسائل بما فيها غير المعقولة والانفعالية والتي شوهدت في الكثير من التجارب؛ حالات اليأس الشديد من القيادات السياسية والدينية وتعويل الشباب على أنفسهم في قيادة التغير بعد المزيد من الإحباط والوعود الكاذبة في تحسين ظروف العيش والحياة الحرة, والحالة العراقية اليوم نذيره بمزيد من الانتفاضات الشعبية الناتجة من ضنك العيش وفقدان الثقة بالسياسين وخاصة بعد مرور ستة عشر عاما على التغير دون جدوى؛ توظيف الموروث الفكري والسياسي والثقافي المناهض للفقر والحرمان وانعدام الديمقراطيات, ويشكل فكر اليسار الديمقراطي والقوى الوطنية قوة جذب نحو التغير لا يمكن التقليل من شأنها وقد بدأت ملامحها تتضح في الحالة العراقية رغم الصعاب والتعقيد.
أن السياقات السيكولوجية التي يختمر فيها التغير الثوري تمر بمراحل تكاد تكون محكمة , وقد تتداخل فيما بينها استنادا إلى عوامل التعجيل” العامل الذاتي ومستوى التنظيم “, فهي مراحل تجسد علاقة القهر والاستبداد بين الحاكم المتسلط والإنسان المستضعف أو المقهور, وبالتالي فهي علاقات نفسية معقدة, وقد يبدو للبعض أن الأنتفاضة العراقية مثلا هي محض احداث متفرقة ” كبطالة الخريجين وأزاحة العشوائيات وغيرها ” وان كانت هي شرارة “, ولكن نحن نعرف أن النظم التعسفية والظالمة والمستبدة لا تسقط بزلة لسان أو بخطأ ثانوي تقوم به, بل أن سقوطها يمر عبر تراكمات نفسية ـ اجتماعية يترك أثره البالغ في انضاج الأنتفاضة الاجتماعية, ثم يأتي الحدث المفاجأة ليقرر ساعة صفرها القاتلة, أما ابرز المراحل النفسية والاجتماعية التي يمر بها الفرد المواطن بالمتسلط الحاكم والتي تعكس بمجملها جانبا من الوجود, فأشير إليها بتصرف والتي ذكرها الدكتور مصطفى حجازي في كتابه ” التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور ” فهي ما يأتي:
ـ المرحلة الأولى: الرضوخ والقهر خلال هذه المرحلة, التي تدوم فترة طويلة نسبيا, يشكل زمن الرضوخ والاستكانة أو الفترة المظلمة من تاريخ المجتمع, عصر الانحطاط, وتكون قوى التسلط في أوج سطوتها, وحالة الرضوخ في أشد درجاتها. وأبرز ملامح هذه المرحلة هو اجتياف (أستدخال) عملية التبخيس التي غرسها الحاكم المتسلط في نفسية الجماهير, فيكره الإنسان نفسه ويوجه عدوانيته تجاه نفسه وتجاه أمثاله, ومن ثم يقوم بإزاحة هذه العدوانية ليمارسها تجاه من هو اضعف منه. ومن الملامح الأخرى هو الإعجاب بالمتسلط المستبد وتضخيم تقديره, فيعطيه حقا شبه إلهي في السيادة والتمتع بكل الامتيازات, وبالتالي تنشأ علاقة رضوخ ” مازوخي ” من خلال الاعتراف بحق المتسلط بفرض سيادته, وتنشأ في هذه المرحلة مجموعة من العقد التي تميز حياة الإنسان المقهور أو المضطهد أهمها: عقدة النقص, وفقدان الثقة بنفسه وبأمثاله, والتي تجعله يحجم عن كل جديد, ويتجنب كل تجربة قد تساهم في تغير وضعه, لذلك فهو لا يحرك ساكنا, وإنما ينتظر ذلك البطل المخلص الذي سينتشله مما هو فيه, وهذا ما يمهد الطريق للتعلق بالزعيم الفرد, تعلقا يغري بالتسلط والدكتاتورية, إن هذه الأفكار تجعل عملية التحديث تجابه بمقاومة شديدة تحبط البرنامج التنموي. أما عقدة العار فهي تجعل الإنسان يخجل من ذاته, ويعيش وضعه كعار وجودي يصعب تحمله, فيتمسك بالمظاهر لتشكل غطاء لبؤسه الداخلي, ولابد للمتسلط دورا في تحويل انتباه الإنسان المقهور من حالة الذل والقهر التي يعيشها إلى أمور ثانوية, وبذلك يحمي المتسلط نفسه من ثورة المقهورين. وأخيرا وليس آخرا يعاني المقهور من اضطراب الديمومة, حيث أن طول المعاناة وعمق القهر والتسلط الذي فرض عليه ينعكس على تجربته الوجودية للديمومة على شكل تضخم في آلام الماضي, وتأزم في معاناة الحاضر وانسداد آفاق المستقبل, ويتفاعل هذا مع عقدة النقص وعقدة العار, مما يغرق الإنسان في ضعفه وعجزه واستسلامه إزاء قوى تتحكم في مصيره, ويحس انه لا قدرة له على مجابهتها.
ـ المرحلة الثانية: الاضطهاد وفيها يبدأ الإنسان بتحويل حالة الغليان العدوانية التي كانت موجهة ضد نفسه إلى الآخرين , بعد عدم تمكنه من كبتها بالآليات التي استخدمها في المرحلة الأولى. انه يحول عدوانيته إلى الذين يشبهونه, أن جوهر هذه العملية هو التفتيش عن مخطئ يحمل وزر العدوانية المتراكمة داخليا, وبذلك يتخلص من شعوره بالذنب ومن عاره وعقد نقصه ويصبها على الآخر, متهما إياه ” بشكل توهمي ” أنه يحسده ويريد أن يؤذيه, وهكذا يصبح العدوان عليه مبررا فهو دفاع عن النفس ليس إلا. إن هذا التفريغ والتحويل للمشاعر السيئة الداخلية تجاه الآخر المقهور مثله ينفع مؤقتا في تخفيف التوتر الداخلي للإنسان المقهور, لكن ذلك يفشل في تخليصه وإراحته على المدى البعيد, مما يجعله ينتقل إلى المرحلة الثالثة.
ـ المرحلة الثالثة: التمرد والمجابهة عندئذ يصبح العنف المسلح وغير المسلح هو السبيل ليتخلص الشعب من عقدة النقص والجبن والخوف التي غرسها الحاكم المستبد في عروقه, وهو يحقق بذلك ذاته وينفض عن نفسه الكسل والجهل والاتكالية, وقد يكون العنف والغضب في البداية معيقا لإمكانية التفكير والتنظيم, ولكنه يفتح المجال لكل الاحتمالات, فأما إعادة دورة العنف أو الانطلاق إلى رحاب التغير السلمي الهادئ والتأسيس لمرحلة قادمة ذات صبغة تقدمية, وهذه الاحتمالات وثيقة الصلة بمن يقود عملية التغير.
ونحن إذ نقف إلى جانب انتفاضة اكتوبر العراقية, والتي تجاوزت الشعارات المطلبية الى التغير الشامل, فنحن بأمس الحاجة إلى دور مميز للفكر والسلوك الاستراتيجيين الذي يغيب كل الغياب عن ساحة الصراع والاحتجاجات, حيث لا تزال قراءتنا للأحداث قراءة انفعالية وذات صبغة إيديولوجية متحيزة, ولكنها صادقة لأنها صادرة من الأعماق في الرغبة للإصلاح الجذري, وتصل بعض الأحيان إلى نمط من القراءة الانتقامية, لأننا نحمل “عقدة الثورة ” والتي قد تصل الأمور إلى أبواب موصدة, وهي قراءة نافخة في الجماهير, ولكنها لا تحمل البديل المطمئن, وهذا ما يعزز فسحة الفراغ السياسي والذي قد يؤدي إلى فقدان بوصلة التغير وانحرافها عن أهدافها المتوخاة, وأختزل بما اقصد به بقول نجيب محفوظ: ” أن الثورة يخطط لها الدهاة وينجزها الشجعان ويغنمها الجبناء”.
ومن هنا يجب فهم انتفاضة اكتوبر العراقية في اطار السياق الذي نشأت فيه, والذي ينعكس اساسا في اكثر من عقد ونصف من فشل تجارب الاسلام السياسي واستحواذه على السلطة وحتى على صناديق الاقتراع, مغيبا ارادة شعب في اختيار الافضل, ومستخدما كل وسائل الترهيب والتزوير والكذب والخداع التي افسدت الديمقراطية في العراق قبل ولادتها. لقد تعرض شعبنا الى كبت طويل الامد مما سبب احباط مستحكم وقد تنتج عنه المزيد من دورات الغضب المشروع. .