19 ديسمبر، 2024 10:18 ص

فؤاد الخليل .. الذي لا يصلح للخصومة

فؤاد الخليل .. الذي لا يصلح للخصومة

 ” مهملين ،
نذوي كما تذوي السنابل في التراب،
غرباء ، يا وطني نموت،
وقطارنا أبداً يفوت.”عبد الوهاب البياتي

    لم أكن قد تشرفت بمعرفته،وهذا لا يعني أنني لم أسمع باسمه، إذ كان يُردد في الأوساط الصحفية والإعلامية،والتي اعرف بعضها في بغداد والبصرة. يُردد اسمه كأحد الصحفيين الذين يتمتعون بمهنية وإخلاص وتفان وحيادية.بعد أن استنفدت البصرة طاقاته وطموحاته الصحفية-الإعلامية، الغنية الرحبة،قرر الذهاب إلى العاصمة، بصفتها مركز القرار السياسي والإداري وحراكه. ذهب،بعد 14 تموز 1958 إلى بغداد متسلحاً بإمكانياته وطموحاته الخاصة في العمل الصحفي ، وهناك شق طريقه دون أن يتعكز على احدٍ أو فئةٍ أو حزبٍ ما ،غير انضباطه الوظيفي وإخلاصه لمهنيته وعمله الصحفي- الإعلامي المتميز.من المؤكد أن اسمه قد وصل قبله إلى بغداد، فاختير للعمل في المكتب الصحفي للزعيم عبد الكريم قاسم منذ بداية عام 1959 ،وكان مرافقاً له في جولاته الميدانية، الليلية المتواصلة ، وسجل بعض أحاديثه مع المواطنين ولقاءاته مع الوفود الشعبية التي كانت تزوره. بعد 8شباط 1963 هرب من بغداد إلى البصرة واختبأ في مزرعة للأسرة في قضاء شط العرب، ولم يغادرها إلا بعد سقوط نظام القتلة ، وعاد لعمله في بغداد. ثم أصبح مديراً لـمكتب(و.ا.ع) في الكويت، و تنسب ليكون في المكتب الصحفي لرئيس الوزراء العراقي الراحل الدكتور عبد الرحمن البزاز، ورافقه في مفاوضاته مع القيادة الكردية ومع الراحل الملا( مصطفى البرزاني) شخصياً، و قام بتغطية اتفاق 29 حزيران. واجرى حوارات متعددة مع شخصيات معروفة في القيادة الكردية، وكذلك العربية ونشرها جميعاً عقب الاتفاق. ثم نقل إلى المكتب الصحفي للرئيس الراحل عبد السلام عارف،ورافقه في بعض جولاته خارج وداخل العراق،ومنها جولته الأخيرة في منطقة الـ(نشوة) في البصرة، وبعد إقلاع طائرته، كان في الطريق إلى الطائرة الثانية ، فشاهد احتراق وسقوط طائرة(الهليوكوبتر) الرئاسية ، وهو أول مَنْ حرر خبر سقوطها ومقتل ركابها جميعاً، وبضمنهم الرئيس ، وبث الخبر حينها إلى العالم باسمه، ويؤكد بصفته شاهد عيان: إن سقوط الطائرة لم يكن مدبراً ، بل اجتاحت المنطقة مع إقلاعها عاصفة ترابية كثيفة بالترافق مع رياح شديدة ما حول الطائرة إلى ورقة تتلاعب بها الريح وانفجرت الطائرة في السماء و سقطت قريباً من منطقة جزر(مجنون). ثم عمل مع المكتب الصحفي التابع للرئيس الراحل عبد الرحمن عارف، ورافقه في جميع جولاته الداخلية والعربية والأجنبية.  بعد17 – 30 تموز أعيد إلى وكالة الأنباء العراقية، وعمل مديراً لمكتبها في (عمان) وخلال معارك (أيلول الأسود) بين الفدائيين الفلسطينيين والجيش الأردني، غطى إخبار المجازر التي جرت للفلسطينيين، وعدته الحكومة الأردنية تجاوزاً عليها،فأُعتقل لمدة شهر في عمان ، و بعد ختم جوازه بعدم السماح بعودته إلى الأردن ثانيةً، القي به على الحدود السورية-الأردنية،تعمداً، فتم اعتقاله في سوريا مجدداً، بسبب سؤ العلاقة العراقية-السورية، وتعرض للتحقيق المترافق مع التعذيب الشديد لمدة أسبوعين. وعاد إلى البصرة للعمل مديراً لمكتب(و.ا.ع.) فيها وواجه حقداً وتعنتاً من المسئولين الحكوميين والحزبيين كونه لم يعمل على تبييض صورهم ، من خلال الأخبار والتحقيقات الصحفية التي يشرف على إرسالها الى بغداد ووصل الأمر حد العداوة والبغضاء تجاهه لكنه لم يهتم للأمر. ما أن تسلم الدكتاتور (صدام) الحكم في 17 تموز عام 1979، تأكد ببصيرته الحادة الخراب الذي سيحيط بالحياة العراقية،اجتماعياً وسياسياً وإعلامياً، فأحال نفسه،برغبته الشخصية ، على التقاعد، بموجب قانون(تقاعد الصحفيين العراقيين).وابتعد عن العمل نهائياً بأية وسيلة إعلامية محلية و عربية ودولية ، رغم كل المغريات المادية التي تم تقديمها إليه. بعد سقوط النظام و في مقهى الأدباء، كنت أرى مَنْ يأتي بصحبة أستاذي القاص الرائد محمود عبد الوهاب مساءً.على رأسه قلنسوة وماسكاً عصاه بيده، يجلس متزناً ويتحدث همساً وبرقة وتهذيب عاليين،و غالباً ماً  يستغرق، مع ضجيج المقهى، في عالمه الخاص؟.سألت مرة أخي الأستاذ (خالد السلطان)، مَنْ يكون هذا الوجه الطلق الأليف؟. فقال لي: فؤاد الخليل..وأراد أن يضيف.إلا أنني بادرته: هو مَنْ ابحث عنه؟.استغرب أخي خالد قائلاً: لماذا؟.كنت حينها أقوم بتنسيق الجلسات الثقافية لاتحاد أدباء وكتاب البصرة، والتي تعقد صباح كل يوم جمعة في المقهى. قلت لأخي خالد: أريده ضيفنا للتحدث عن تجربته الصحفية-الإعلامية الغنية؟.ابتسم خالد وعلق:لن تفلحَ معه؟!.تعرفت عليه جيداً وحدثته عن ما اعرفه عن نشاطه الصحفي- الإعلامي، وطلبت منه، استضافته ليفتح خزين ذاكرته أمامنا عن سنوات كان فيها قريباً جداً من مصادر القرار الرسمي الأول في العراق بصفته المهنية والشخصية ، إلا انه امتنع بحجج شتى، منها: انه لا يمكن له أن يدلي بشهادة عن أشخاص رحلوا وأصبحوا في ذمة ورحمة الله ، ولا يمكن لهم تصحيح أو محاورة مَنْ يتحدث عنهم، فلربما تخونه الذاكرة، ويُعتبر ما سيتحدث به عنهم إساءة لهم!. ألححت عليه كثيراً.. ففشلت.الآن احسد أخي(خالد السلطان) على فوزه بعد جهد ومشقة بمقابلة طويلة معه ونشرها في صحيفة “الأخبار” البصرية الأسبوعية، وكان في إجاباته وحديثه متحفظاً جداً، ودقيقاً ونزيهاً وأميناً على ما يعرف من أسرار شخصية ، عن مَنْ ساقته مهنته لمقابلتهم والقرب منهم وظيفياً ،وكانوا من كبار المسئولين ذات زمن ما في العراق.خلال الحفل الذي أقامته”جامعة لاهاي العالمية للصحافة والإعلام” ،على حدائق نادي الرازي  ، مساء 9 / مايس/ 2009، لمنح (13) صحفياً وإعلامياً بصرياً ، كنتُ ضمنهم، شهادة تقديرية تؤكد فيها الجامعة:” على الدور المتميز للممنوح شهادتها التقديرية له في خدمة الصحافة والإعلام ، وعلى إبداعاته  المتميزة والمتواصلة في الأدب والثقافة في البصرة ” مع ميدالية الجامعة، التي حملها إلى البصرة الأستاذ (ذياب فهد الطائي)، نودي عليه ضمن الوجبة الأولى ، ولم يكن حاضراً، بسبب مرضه ، فاقترحت على احد الزملاء تسلمها ، على أن أُسلمها له بعد ذلك. ليلاً اتصلت به وأخبرته، فاستغرب جداً وقال بأسى ومرارة وبصوت منهك:” في هولندا وفي لاهاي، هناك مَنْ يتذكرني..”!!. ثم صمت ببلاغة ولم يضف شيئاً ما إطلاقاً؟!.اتفقت معه على أن يحضر لتسلمهما. مساءً و في الموعد المحدد وجدته جالساً في مكانه المعتاد، في مقهى أدباء البصرة،شاحب الوجه وعلائم المرض والإنهاك باديتين عليه. وبحضور عدد كبير من الأدباء والكتاب والصحفيين والمثقفين، قمت بوضع الميدالية الموشحة بالعلم الهولندي في رقبته ، وعندما سلمته الشهادة قبلتُ يده أمام الجميعَ، فرفض ذلك بود وحياء وتمنع. لكني لمحت في عينيه دمعتين، لعله أطبق جفنيه ، لحظة رحيله عليهما ،لإحساسه بالخذلان والمرارة والفجيعة، جراء عدم الاهتمام بوضعه الصحي الحرج جداً،من قبل المؤسسات الصحفية والإعلامية الرسمية والمدنية، في بلد لا حد لثرائه المادي الطائل الهائل، والذي تناهبه واستولى عليه سقط المتاع، ومنعه الاعتزاز بكرامته الشخصية طلب الشفاعة من أي كان، فلم يُعرف عنه أحناء رأسه والاسترحام. بعد رحيله في منتصف كانون الأول عام 2009 خصته جريدة( الأخبار) الأسبوعية التي تصدر في البصرة عن شبكة الإعلام العراقي، بملف ضمن عددها المرقم(274 ) الصادر بتاريخ 11 كانون الثاني عام2010 ، احتوى على شهادات عنه لكل من أستاذنا محمود عبد الوهاب، والشاعر كاظم الحجاج، والمحامي موفق جاسم شوقي، والكاتب قاسم علوان، والكاتب جاسم العايف، والصحفي صباح الجزائري والصحفي عبد الأمير الديراوي، وكان الملف معززاً بصور نادرة له منها: جلوسه ، بعد شهر على قيام ثورة 14 تموز 1958 ، على عرش الملك فيصل الثاني ، و صورة له الى جانب الزعيم قاسم يسجل ما يتحدث به للمواطنين، وكذلك مع الملا مصطفى البرزاني ود. عبد الرحمن البزاز، وأخرى مع الرئيس عبد الرحمن عارف، وغيرها. (فؤاد الخليل) على درجة عالية من الوسامة والدماثة والترفع،والثقافة العالية باللغتين العربية والانكليزية. ذكر أستاذنا (محمود عبد الوهاب) في حوار أجراه معه الزميل(خالد السلطان) ونشر في الملف المذكور ، و من خلال علاقته به التي تتجاوز أكثر من نصف قرن، وسفراتهما المشتركة لبعض الدول العربية والأوربية أن:”.. اهتمام( فؤاد الخليل) بالشعر وشغفه بحفظه معروفاً..يمكنك أن تقول عنه انه احد رواة شعر الجواهري الكبير. كنت أحيناً حينما تلتبس عليّ بعض أبيات الجواهري،التجأ إليه، كان يقرأ القصيدة بطلاقة لا يلحن أبداً ، تحسّ ، وهو يقرأ القصيدة كأنه يتذوق أبياتها بلسانه.. كان يعرف كيف يكسب الأصدقاء، ولا يبلغ خلافه معهم حد  الشقاق أبداً.. (فؤاد).. هو الرجل الذي لا يصلح للخصومة”. ينحدر( فؤاد الخليل) من أسرة معروفة في البصرة وعلى درجة عالية من الثراء المادي، إذ كان جده “عبد الله الخليل” رئيساً لغرفة تجارة البصرة ، ثم (عيناً) في مجلس الأعيان الملكي، أكمل( فؤاد) دراسته الابتدائية والمتوسطة والإعدادية في البصرة، ثم في لندن، وبعد ان عاد الى البصرة، زمن النظام الملكي ، اضطر الى الهرب منها الى الكويت بعيداً عن ملاحقات الأجهزة الأمنية كونه كان نشطاً في الحركة الطلابية التقدمية في لندن ، و مصنفاً ضمن حملة الفكر الوطني والديمقراطي التقدمي اليساري، مع  عدم انتمائه الحزبي.عن الراحل الصحفي والإعلامي البصري- العراقي الرائد(فؤاد الخليل) أقول: يا سيدي طوال عمرك..لا لمنفعة سّعيتَ .. ولا لأموالٍ وعيال..و ضميرك أبداً لم يتَقرَبْ مِنَ الأوباش والأسمال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من كتاب معد للطبع باسم(تلك المدينة..) يحتوي ثلاثة أقسام، الأول بعنوان(الفيصلية..) والثاني(مقهى الدّكة..فضاء ثقافي.. وزمن سبعيني) والثالث(بصريون..).  

أحدث المقالات

أحدث المقالات