17 نوفمبر، 2024 10:44 م
Search
Close this search box.

فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون

فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون

الحقيقة الثابتة لتوسع الكون لا تخرج عن النظام المشاهد والملموس الذي يسيّر الكائنات ويمدها بالكمال المتفرع على بقائها، وهذا ما يجعل جميع الأشياء التي ندركها أو تلك الغائبة عن حواسنا لا تختلف أو تتخلف عن قانون العلة والمعلول، وهذا القانون هو الآخر لا يستقيم ما لم يكن متدرجاً ومتحداً ضمن الأطر المترتبة على بعدي الزمان والمكان. فإن قيل: ما سبب هذا التدرج إذا علمنا أن الله تعالى قادر على كل شيء؟ أقول: قانون التدرج في الخلق هو قانون كوني يحيط بكل شيء، ولكن تفصيل خلق السماوات والأرض بصورتهما المعهودة يدلل على مدى ارتباط الإنسان بهما، وهذا ما نلاحظه من الاهتمام بأمرهما كما في متفرقات القرآن الكريم التي تظهر هذا المعنى على أتم بيان، ومنها قوله تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام) الأعراف 54. يونس 3. وقريب من ذلك… هود 7. الفرقان 59. السجدة 4. ق 38. الحديد 4. إضافة إلى تفصيل هذه الأيام كما في سورة فصلت، وأنت خبير بأن الله تعالى خلق جميع الكائنات قياساً إلى هذا النظام، كما يظهر ذلك من تفصيل خلق الإنسان والمراحل التي مر بها والمكونة من التراب وانتقاله إلى الطين ثم إلى الطين اللازب مروراً بالصلصال والحمأ المسنون وما يتفرع على ذلك من السلالة الطينية التي تنتهي في مرحلة الصلصال الذي يشبه الفخار.

من هنا نعلم أن هذه المراحل ترجع جميعها إلى مادة واحدة وهي مادة الطين التي كونت صورة الإنسان ثم انتقلت هذه الصورة إلى مرحلة أخرى بعد نفخ الروح الخارج عن التدرج، كما يتضح ذلك من قوله تعالى: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) الحجر 29. ص 72. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى إذا أردنا أن نطابق هذه العملية مع التدرج الحاصل في الخلق الطبيعي للإنسان دون آدم، نجد أن هناك أطواراً أخرى يمر بها الجنين، وهذه الأطوار تنتهي بدخول الروح المجرد عن التدرج، كما في المرحلة النهائية التي دخل فيها آدم إلى الحياة، وهذا ما يفهم من قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين… ثم جعلناه نطفة في قرار مكين… ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) المؤمنون 12- 14. ولو تأملنا الآيات آنفة الذكر لوجدنا أن المراحل المذكورة وإن اختلفت درجاتها وألوانها فهي تدل على أجزاء ميتة مرت بأطوار مختلفة، إلى أن وصلت إلى مرحلة جديدة وهي المرحلة الأخيرة التي أنشأها الله تعالى خلقاً آخر، وهذا التعبير يدل على إنزال الروح التي بواسطتها دخل الجنين إلى الحياة، ولا يخفى على المتأمل أن حياة الجنين في هذه المراحل جميعها تكاد أن تتقارب مع الحياة النباتية من حيث قيامه بالأفعال اللا إرادية.

وعند الدخول أكثر إلى متفرقات القرآن الكريم نجد أن الإشارة لهذه الأطوار تأتي على طرق مختلفة ولكنها تجتمع في غاية واحدة وهي إظهار قانون العلة والمعلول في هذا الكائن، وقد نلاحظ ذلك في قوله تعالى: (وقد خلقكم أطواراً) نوح 14. وكذا قوله: (لتركبن طبقاً عن طبق) الانشقاق 19. ولو عدنا إلى الطبيعة البشرية التي خلق فيها آدم لعلمنا أن المراحل التي تم فيها خلقه لا تختلف عن مراحل الجنين في بطن أمه

وإن اختلفت المسميات والأشكال الخارجية وذلك نسبة إلى المادة التي خلق منها الإنسان، ومن هنا يمكن معرفة مدى التطابق بين خلق آدم وخلق عيسى، وعلى الرغم من أن الثاني خلق من أم دون أب إلا أن نسبة الخلق بينهما تبقى على حالها من غير تفاوت في أبعاض كل منهما، وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) آل عمران 59. وهذا التدرج في الخلق يجري في جميع الكائنات التي نشاهدها على أقل تقدير. فإن قيل: إلامَ يرجع سبب التدرج في الخلق؟ أقول: يرجع السبب إلى ضعف القابل، ولهذا أسند الله تعالى أفعال الموجودات إلى التقدير المباشر، علماً أنه قادر على إيجاد جميع الكائنات بالسرعة التي لا يمكن تصورها كما بينا ذلك في معرض حديثنا إلا أن الإرادة الإلهية لا تجانب المنهج الذي تتوقف عليه المصالح والارتباطات العامة للخلق، مع بيان أنه سبحانه قد أظهر بعضاً من الحالات التي خلق فيها خلقاً آخر عن طريق الدفعة دون التدرج، ولهذا جمع كلا الصنفين في قوله: (ألا له الخلق والأمر) الأعراف 54. أي إنه جل شأنه خالق جميع الأشياء سواء كانت خاضعة لقانون السببية أو لم تكن وهذا ما يظهر من عطف الأمر على الخلق، وذلك لأجل التفريق بين الخلق الذي تتوسط به الأسباب الطبيعية وبين الأمر الذي هو خلق أيضاً لكن دون توسط الأسباب فتأمل.

وبناءً على ما تقدم يظهر أن المراد من عدم التدرج هو الفعل الإلهي المعبر عنه بلفظ (كن فيكون) كما في قوله سبحانه: (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) النحل 40. والقول في هذا الموضع للتقريب، لأن الإنسان لا يملك الوصول إلى كنه الطبيعة التي يترتب عليها دخول الأمر إلى حيّز التنفيذ ولذلك ورد التعبير بهذا المعنى، وهناك تعبير آخر ورد في قوله تعالى: (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) القمر 50. وكذا قوله: (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب) النحل 77. وكما ترى فإن المراد من هذا التعبير هو تقريب المعنى لا غير، وبهذا نصل إلى أن القاعدة التي بني عليها الخلق ترجع إلى السنن الكونية التي أوجدها الحق سبحانه، أما ما يتخلل تلك السنن من الأمور الخارقة فهذا يعد استثناءً تقتضيه حكمته تعالى لغرض معين دون أن يكون ذلك هو الأصل، وهذا هو النهج السليم الذي يجب أن يأخذ به الإنسان، لأجل أن لا يبني أفكاره على الغوامض الوهمية التي تجعله معتمداً على خرق الحوادث وتبديل السنن الكونية واللجوء إلى المهمات البعيدة عن الواقع المعاش.

فإن قيل: كيف يمكن الجمع بين الغرض المستثنى من الأصل وبين السنن الكونية التي هي الأصل، إذا ما علمنا أن الله تعالى يجعل الأمور الخارقة للعادات من الآيات التي يحتج بها على خلقه في إثبات الرسالات أو ما يتقارب مع ذلك؟ أقول: الآيات الخارجة عن السنن الكونية لا تحدث إلا في حالات معينة تقع جلها بسبب عدم تصديق المرسل إليهم برسالة النبي، بالإضافة إلى رفد الأنبياء بالنصر الذي لا يتأتى عن طريق الحالات الطبيعية وذلك لعدة اعتبارات أهمها الكثرة العددية للمرسل إليهم، أو القوة التي يملكها الطغاة ومن هنا كان للأمور الخارقة أن تأخذ دورها في إنقاذ الرسل، وقد أشار الله تعالى إلى بعض الخوارق التي نصر بها النبي (ص) في مواضع كثيرة أهمها ما حدث في معركة بدر أو الأحزاب، كما في قوله تعالى: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) الأنفال 17. وكذا قوله: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً) الأحزاب 9. وهذه الأمور الخارقة للعادة تجعلنا نقف أمام تلك المعجزة العظيمة التي من بها الله

تعالى على بني إسرائيل إذ أنقذهم من فرعون وآله، وقد بين سبحانه هذا الأمر الخارق للقوانين الطبيعية لمن كان منهم في عهد النبي (ص) مظهراً ما جرى لأسلافهم، وذلك في قوله: (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون) البقرة 50. فإن قيل: هل كان إخراجهم بوحي من الله تعالى أم بسبب قهر فرعون وبطشه بهم؟ أقول: على الرغم من ظلم فرعون لهم إلا أن خروجهم كان بوحي من الله تعالى، وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله: (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى) طه 77. وكذا قوله تعالى: (فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون… فأسر بعبادي ليلاً إنكم متبعون) الدخان 22- 23. وقوله: (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون) الشعراء 52. ومما تقدم يظهر أن انفلاق البحر لم يكن تابعاً لقانون السببية بل كان خارج النواميس الطبيعية.

قوله تعالى: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون) البقرة 51. الأربعون ليلة هي الليالي التي واعد الله تعالى فيها موسى لأجل إنزال التوراة، وفي هذه الفترة عبد بنو إسرائيل العجل بتعليم من السامري، والقصة ذكرت في أكثر من موضع وذلك ليبين الله تعالى مدى عنادهم وخروجهم عن الصراط المستقيم، والرجوع إلى تأريخهم المليء بالانحرافات، ومع كل ما ظهر منهم إلا أن الله سبحانه قد عفا عنهم، كما يتضح ذلك من قوله: (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون) البقرة 52. والخطاب في آيات البحث موجه لليهود الذين كانوا في عهد النبي (ص) كما قدمنا، وفيها ترغيب لهم باتباع نهج القرآن الكريم، ودعوة إلى الاستقامة والابتعاد عن الطرق التي سار عليها أسلافهم فتأمل.
من كتابنا: القادم على غير مثال

أحدث المقالات